العدد 3 - أردني
 

من دون أي إحساس بأي حرج، قال الرئيس إميل لحود قبل نحو شهر إن الديمقراطية في بلده أفضل الديمقراطيات في العالم، وإن هذا ما يزعج إسرائيل. ولم يختلف عنه وليد جنبلاط في قوله لاحقاً إن لبنان هو النموذج الديمقراطي الوحيد في المنطقة العربية، وهذا سبب استهداف سوريا له. والبادي أن “توافق” الرجلين، وهما في ضفتين متخاصمتين، على تعظيم المتوفر من الديمقراطية في بلدهما يدلّل على تعزز ما يمكن تسميته، من دون أي إحساس بحرج، “وهم الديمقراطية” في إفهام الفاعلين السياسيين في لبنان، إلى حدّ أنه يقترب من الخرافة الشائعة، والتي قد يصدقها مواطنون عرب طالما أنهم يلحظون ما ترفل فيه التكوينات السياسية والاجتماعية والطوائف والشخصيات، من حريات واسعة في الكلام وكيفما اتفق عن كل شيء .

وتيسّر وقائع الأيام القليلة الماضية مناسبة لفحص مقادير الديمقراطية في الدولة اللبنانية الراهنة، ولمّا كان البحث عن رئيس يحسن التوافق عليه يتسلم الولاية من لحود بعد انتخاب مجلس النواب له، هو العنوان الذي تصدر واجهة الأزمة السياسية الشديدة الحدّة المستمرة منذ أكثر من عام، والمتصّلة حكماً بالأزمة البنيوية للنظام اللبناني كله، فإنه يجوز التنقيب عن أي من مقتضيات الديمقراطية في كل المجهود الذي استغرقه البحث عن الرئيس العتيد. وعبثاً يعثر المراقب المتابع على شيء منها .

وأول القول هنا إن تقاطر العدد الوفير من الوزراء والمبعوثين الدوليين والعرب إلى بيروت لحثّ الفاعلين السياسيين اللبنانيين على تسهيل عثورهم على الرئيس يؤكد الّقصور الفادح للصيغة التي تحكم علاقات المؤسسات الدستورية في البلد، وعجزها المكشوف في حل التأزم الحادث، ما يعني أن الدستور والتعديلات التي ألصقت به منذ 1943 واتفاق الطائف بعده في 1990 وكل مواسم الحوار بين أقطاب التشكيلات اللبنانية بمختلف خياراتها، فشلت في أن توفر آليات حديثة ومدنيّة للاهتداء بها في مسألة الرئيس وغيرها من قضايا لا تنفك تتوالد في لبنان، وقد تنعطف به إلى ما حذّر منه زوار بيروت الرفيعون، كما فعل الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري في إشارته إلى حافّة الهاوية ومخاطر غير منظورة، إذا لم يفلح اللبنانيون في انتخاب رئيس لهم .

وإذا كان قارئ هذه السطور يطالعها وقد مرّت جلسة مجلس النواب اللبناني لانتخاب رئيس بنجاح، أو أخفق كل المجهود المحلي والفرنسي والدولي والعربي الذي توسل نجاحها، فذلك ليس جوهريا في التأشير إلى استفحال خرافة الديمقراطية في هذا البلد . وكان في محلّه قول النائب والمرشح بطرس حرب في 18 الجاري أنها ليست من “نظامنا الديمقراطي” لقاءات رئيس مجلس النواب نبيه بري وزعيم الأكثرية النيابية سعد الحريري في محاولة التوافق على اسم أو أكثر من الأسماء التي تسلماها في لائحة من البطريرك نصر الله صفير، وأن اللجوء إلى اللائحة بموجب مبادرة فرنسية ضاغطة هو من خارج إطار الدستور.

وما يضاعف من حدّة غياب التقاليد الديمقراطية في لبنان أن المعارضة ساجلت طويلاً في وجوب توفر نصاب ثلثي النواب في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، بدافع تأكيد امتلاكها حق الغياب وليس لتوفير النصاب، ما يجعل التعاطي مع شروطها في مواصفات الرئيس أمراً شديد الوجوب. وصرّح نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم في 17 الشهر الحالي إن منها أن يلتزم الرئيس المرتقب بتوفير ما سمــاه “الثـلث الضامن” للمعــارضة في حكومة وحدة وطنيّة تتشكل عقب انتخابه، وهذه بدعة لبنانية محضة لا ينص عليها الدستور وميثاق الطائف، ولم يحرص حزب الله ولا القوى الملتحقة به على توفر هذا الثلث الذي لا تزيّد في وصفه أنه معطّل عندما كانت الحكومات اللبنانية تتشكل في مكتب عبد الحليم خدام في دمشق أو مكتب غازي كنعان أو رستم غزالة في بيروت طوال أكثر من عقدين .

وأضاف قاسم أن على الرئيس أن يلتزم بدعم المقاومة وحقها في الدفاع عن لبنان، وهذا ما شدّد عليه الأمين العام حسن نصر الله في خطاب له قبل أيام، من باب ضرورة أن يرفض الرئيس المنتظر قرار مجلس الأمن الدولي 1559 الذي ينص على عدم تواجد السلاح في أيدي أي ميليشيات .

يستطيب لبناينون كثيرون أن يروا في الانشغال الدولي الكبير ببلدهم وازدحام بيروت بزوار كبار مبعثاً للزهو ودلالة على ما “يحتله” لبنان من مكانة حيوية في العالم، ويتناسي هذا الكلام أن لبنان يجاور إسرائيل وظل ساحة في استهداف الدولة العبرية لسنوات وما يزال . ويتغافل عن انكشاف الدولة اللبنانية وهشاشتها وعجزها المفضوح على امتلاك قرارها المستقل، بالنظر إلى يُسر إقامة حزب الله دويلته الأقوى تسليحاً وتجهيزاً من الجيش اللبناني، وقبل ذلك يسر إقامة دويلات الكتائب والقوات اللبنانية والحركة الوطنية وغيرها من تشكيلات الحرب الأهلية المديدة التي في الوسع أن يشار إليها مع التساؤل عن رجاحة عقل من يسلم بذلك الرأي الكاريكاتوري عن الديمقراطية الأفضل في العالم، التي لم تحم مواطنيها من نشوب تلك الحرب التي شهدت توحشاً طائفياً مقيتاً.

ولا يمكن القفز أبدا عن المدى الفادح لحضور الفاعل الخارجي في صناعة القرار في الداخل اللبناني، وعن صناعة الزعامات والرؤساء أيضا، ومن ذلك أن لبنان لم يعرف رئيساً للجمهورية صنع في لبنان فقط، فكان التوافق الفرنسي الأميركي على كميل شمعون في الخمسينيات، والجهد المصري الناصري، وبالتفاهم مع أميركا، في ترئيس فؤاد شهاب وشارل حلو، وكانت المفاعيل السعودية الأميركية السورية في تأهيل إلياس سركيس، وحضر الفاعل الإسرائيلي في انتخاب بشير الجميل، ثم الأميركي في توريث الرئاسة لشقيقه أمين الجميل، وعادت المفاعيل السورية الأميركية السعودية بشأن رينيه معوض وإلياس الهراوي، حتى تولية الراحل حافظ الأسد الرئاسة لإميل لحود وتمديد نجله للأخير بقرار كارثي معلوم النتائج، واستوجبت بعض هذه المحطات تفصيل الدستور اللبناني لهذا أو ذاك . وفي وسع من يتفحص في تجربة البحث اللبناني عن رئيس في الأسابيع الماضية أن يقع في التعبيرات التي لجأ إليها زعماء الطوائف والأحزاب والتيارات في تراشقهم وتخوين بعضهم في غضونه، والمتوترة والمنفعلة كما في حالتي حسن نصر الله وميشال عون، أن يقع على ما يمكن اعتبارها “كبد الحقيقة” في المسألة برمتها، وهي أن لبنان الذي نشأ بفعل موازين قوى دولية بعد الحرب العالمية الأولى ليكون وطناً للمسيحيين ظلت الدولة فيه دائما أضعف من الطوائف، وسلطتها تفتقر إلى قوة ومقدرة، ولذلك بقي انتماء اللبناني لوطنه محتكما على الأغلب إلى انتسابه أولاً إلى طائفته أو مجموعته الدينية أو عائلة تمثله، ومن هنا لا يستقيم الحديث عن ديمقراطية في هكذا فضاء، وفي بلد تتأتى فيه زعامة الأحزاب بالوراثة، وتكون تمثيلات هذه الأحزاب لتكوينات وتجمعيات طائفية، من قبيل أن الحزب التقدمي الاشتراكي درزي الطابع . ولم تستطع الدولة اللبنانية أن تبسط منظورها على عموم مواطنيها، وحاولت حكومات ما بعد “الطائف” فعل ذلك، وما كان للجيش اللبناني أن يتواجد على الحدود الجنوبية إلا بعد أن أذن حزب الله بذلك بعد عدوان إسرائيل في صيف 2006 . ومن ذلك استخفاف الحزب وتيار الجنرال عون بشرعية حكومة فؤاد السنيورة واستسهال رميها باتهامات لم يحظ ببعضها أنطوان لحد، كما أشار معلق لبناني مرة .

إنه البحث الأوجب عن الدولة في لبنان إذاً ينبغي أن يسبق أي تنقيب عن مقادير الديمقراطية في هذا البلد، وعندما صاح السيد حسن نصر الله في الخطاب الذي أعلن فيه عن “النصر الإلهي” على إسرائيل في سبتمبر / أيلول 2006 أن الحزب يتنازل عن سلاحه عندما تقوم “الدولة العادلة والقوية” في لبنان، فإنه كان من دون قصد على الأغلب يؤشر إلى دولة لا تقوم مداميكها الرخوة على مناوشات الطوائف أو توافقاتها السريعة والموسمية، ولا يبقى اللبنانيون فيها صدى ضعيفاً لأصوات الآخرين، ينتظرون كلمة السر من هذا المحور الدولي أو ذاك، كما رماهم بذلك العلامة السيد حسن فضل الله في 18 الجاري . ويمكن أن يضيف الناظر في الرهانات الموكولة للبنان وعليه، أن إقامة الدولة اللبنانية امر مطلوب، وأجاد نصر الله في تعيينها، “وهذه مفارقة” تتطلب التخفف من خرافة فرادة الديمقراطية اللبنانية في محيط عربي وجوار سوري، والتي أشاعتها المارونية السياسية طويلا، ويكذبّها الفشل اللبناني المديد في إبداع الصيغة الكفيلة بأن تحمي أهل البلد من غلو هذا الطرف منهم أو تطاول ذاك وتجرؤه على الممكنات المتيسرة لدولة هي موضع تقاسم واتجار وتنازع،كما أحسن وصفها عباس بيضون يوما .

أوجز الدكتور سليم الحص المسألة كلها في قوله مرات عديدة أن لبنان يعرف قليلاً من الديمقراطية وكثيراً من الحرية، دلّ على ذلك السيرك الكلامي غير السياسي بالضرورة، بشأن البحث في الأيام السبعة الماضية، مثلا، عن رئيس توافقي. وتم الخوض في القضية بحرية وفيرة، وعبثاً وجد فيها المتابع غير الضجر مقادير وازنة من الديمقراطية المشتهاة، فيما اختتم إميل لحود عهده بمحاولة ترويج أن الديمقراطية في لبنان هي الأهم في العالم .

لعبة أمم في بيروت هل يفوز اللبنانيون بـ" رئيس صنع في لبنان"؟ - معن البياري
 
22-Nov-2007
 
العدد 3