العدد 17 - دولي | ||||||||||||||
لا أحد يعرف بعد، ما إذا كان رئيس كولومبيا ألفارو أوريبي كان مدركا لخطورة الخطوة التي أقدم عليها في الأول من آذار الجاري حين أمر قواته باجتياز الحدود مع الإكوادور وقتل راؤول رياس، الناطق باسم أقوى حركات المعارضة المسلحة في بلاده: القوات المسلحة الثورية الكولومبية المعروفة اختصارا باسم (فارك) و16 من مرافقيه. هذا الحادث لم يثر فقط الإكوادور ورئيسها اليساري الشاب رافائيل كوريا، ثم فنزويلا جارة كولومبيا القوية عسكريا وسياسيا فقط، بل أثار حفيظة بعض حلفاء كولومبيا وعلى رأسهم الولايات المتحدة التي تتبنى النظام اليميني الحاكم في كولومبيا ورئيسه الشعبوي والمتشدد أوريبي. التساؤل حول مدى معرفة أوريبي بما قام به، يستمد مشروعيته من مدى حساسية عملية الاغتيال نفسها، فهي تمت على أرض الإكوادور، في انتهاك صارخ لسيادة دولة مجاورة يحكمها رئيس يساري حليف للرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز، الذي لا يقل شعبوية عن أوريبي لكن بمفردات يسارية نارية. وفي محاولة لتبرير العملية زعم أوريبي أنه عثر على وثائق محفوظة في جهاز كومبيوتر كان مع رياس تثبت تورط شافيز في دعم الثوار الكولومبيين، وقال إن من بينها وثيقة حول تأمين كمية من اليورانيوم لفنزويلا، في محاولة للإيحاء بأن شافيز يحاول صنع قنبلة نووية، وهو ادعاء سارع إلى السخرية منه أحد خبراء أميركا الجنوبية في واشنطن، لاري بيرنز، الذي وصف التبرير بالمضحك، وتساءل عما يمكن أن" تفعله" وثائق على هذه الدرجة من الخطورة في الأدغال. اعتبر شافيز الاغتيال "جريمة"، وطرد السفير الكولومبي من بلاده. ووصف رياس بـ"الثوري"، وقال إن "كولومبيا هي إسرائيل أميركا الجنوبية". في واقع الأمر فإن هناك كثيراً من أوجه الشبه بين إسرائيل وكولومبيا أبرزها، ربما، هي أنها تحظى بدعم غير محدود من جانب إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، فهي تتلقى سنويا نحو 5 بلايين دولار من المساعدات المالية الأميركية هي الأكبر في العالم خارج منطقة الشرق الأوسط، وهي مساعدات تزعم كولومبيا أنها تحارب بها الإرهاب، وهي تقصد منظمة "فارك" التي تزعم أنها تمول نفسها من خلال المتاجرة بالكوكايين، ومن الأثمان التي تقبضها لقاء إطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم. غير أن تجارة الكوكايين، كما هو معروف، تقوم بها عصابات لم تكن يوما بعيدة عن الحكومات الكولومبية المتعاقبة، وأن نحو 90 في المئة من الكوكايين الذي يصل الولايات المتحدة يأتي من كولومبيا تحديدا. أما الرهائن، فإن منظمة "فارك" تحتجز فعلا عددا كبيرا منهم وتساوم على إطلاق سراحهم الدول التي ينتمون إليها. من المفارقات في هذا المجال أن والد الرئيس أوريبي كان قد اختطف على أيدي رجال "فارك" حيث تمت تصفيته، وهو ما جعل بعض المراقبين يعتبرون قتل رياس، وهو مهندس سياسة الاختطاف، عملية انتقام شخصي. لكن هنالك بعدا آخر للخطوة ربما لم يدركه الرئيس الكولومبي ، هو أن رياس لم يكن عسكريا بل كان سياسيا، وأنه كان يقوم بالمفاوضات نيابة عن "فارك" في شؤون عدة ليس أقلها التفاوض حول إطلاق سراح الرهائن، وقد دخل رياس في مفاوضات مع الولايات المتحدة نفسها في العام 1997، التي تعتبر "فارك" منظمة إرهابية، كما أنه كان وصل إلى مرحلة متقدمة من المفاوضات مع فرنسا، وهي كغيرها من دول أوروبا تعتبر فارك منظمة إرهابية، وهذا ما أثار حفيظة فرنسا، التي اعتبر وزير خارجيتها برنار كوشنير خبر مقتل رياس نبأ سيئا لفرنسا التي كانت تجري معه مفاوضات لإطلاق سراح إنغريد بوتانكور، وهي مرشحة سابقة للرئاسة في كولومبيا، وتحمل الجنسية الفرنسية، وقد اختطفت على أيدي فارك قبل نحو ست سنوات. مفارقة أخرى في هذا المجال هي أن عددا من الرهائن قد أطلق سراحهم بعد وساطة بين "فارك" والحكومة الكولومبية قام بها هوغو شافيز. هذه العوامل المتشابكة جميعا حولت عملية اقتحام الحدود الإكوادورية وقتل رياس خطوة محفوفة بالمخاطر، فإلى جانب استنفارها للقوات المسلحة الإكوادورية والفنزويلية، خلقت نوعا من الاستقطاب في القارة الأميركية اللاتينية فأعلنت الأرجنتين وكوبا دعمهما الكامل للإكوادور، ودعت المكسيك والبرازيل الرئيس الإكوادوري للاعتذار عن الخطوة الخطيرة، وتبعتهما في ذلك الولايات المتحدة التي أدركت مدى رعونة عملية الاغتيال. وقد مهد هذا كله الطريق أمام أوريبي لكي يبدأ في التحلل من تبعات العملية، وهو ما وجد صدى طيبا من جانب الإكوادور وفنزويلا اللتيــن سارعــتا إلى التهدئــة التي قادت أخيــرا إلى نزع فتيل أخطر أزمة تشهدها أميركا اللاتينية خلال سنوات. |
|
|||||||||||||