العدد 17 - ثقافي
 

يان بوروما وإفيشاي مارغاليت

مراجعة: عبدي كالانتاري*

يعرف يان بوروما وأفيشاي مارغاليت الاستغراب بأنه أحد أشكال الفكر المعادي للغرب، وهو يعود إلى الحركات الأوروبية المعادية للتنوير. وقد استعاره وتبناه قسم من الإنتلجنتسيا غير الغربية حين كانت مجتمعاتها تمر بعملية تحديث. فهو يعرض في تجلياته السياسية خصائص القومية المعادية للاستعمار والشعبوية وحتى الاشتراكية. وعلى أي حال فإن أفضل وصف له هو أنه حركة ثقافية ليست لليسار ولا لليمين، بإيحاءاته الرومانسية والصوفية أو الدينية، التي تكافح للحفاظ على القيم الروحية والعضوية والثقافية المجتمعية، في وجه التقدم التكنولوجي الحديث والمدينية الفاقدة للروح والفردية والتجارية. وحين يصل نقطة إفقاد "عدوه" (الغرب) لإنسانيته ويمارس أعمال عنف، يولد الاستغراب الحقيقي.

وضمن سياقات تاريخية خاصة، إما من الشرق الأقصى أو شرق آسيا أو روسيا أو الشرق الأوسط، فإن الدراسة المقارنة الواسعة التي وضعها المؤلفان تظهر كيف وجد المثقفون المحليون صلات بين الأدب والفلسفة الرومانتيكية الألمانية (هيردر وفيخته والقومية الألمانية ونيتشة وعلم الأديان السياسي النازي لهيدغر وشميت) والفلسفة الإسلامية أو السلافية أو فلسفة الشنتو. وما يدعوه هؤلاء المثقفون النفس الحقيقية، والعودة إلى الجذور أو "التقاليد" ليست سوى جهود قسرية لإعادة تفسير، أو حتى إعادة اختراع التقاليد أو "الأصول".

من بين الأنواع المختلفة من الاستغراب، يبرز الاستغراب الديني بوصفه الأكثر فتكاً. فهو، من خلال طموحه إلى العالمية، يلقي بمزاعمه بمفردات دينية راسماً الغرب بوصفه عدواً لله والتغريب بوصفه الشكل الأسمى للتأليه. هنا يزداد تداخل التغريب بالإسلامية.

إن "الإسهام الأصلي (للإسلاميين) في تاريخ الاستغراب" هو بالضبط ذلك "التصوير للغرب بوصفه شكلا من أشكال البربرية التأليهية." ويشير بوروما ومارغاليت إلى أنه، بخلاف الأفكار المشابهة في الديانة اليهودية، فإن تلك ليست إدانة إنشائية أو مجازية. و«الإله الزائف» للغرب وعملائه في عيون الإسلاميين حقيقي إلى حد كبير، فهو يمثل الحقائق السياسية لعصرنا. وبترجمته إلى سياسة يسلم الاستغراب الإسلامي قياده لفكرة الحرب المقدسة أو الجهاد ضد «الآلهة الغريبة». يقال إن الغربيين جهلة، وهي عبارة يؤكدها بوروما ومارغاليت، وهي لا تعني أناسا جاهلين فقط، بل ومتوحشين أيضا، إنهم ذوو إنسانية ناقصة.

في الدراسات التاريخية للشرق، يمكن تمييز منهجين عموماً: الأول، في بداية المرحلة المتأخرة لإدوارد سعيد، التي ترى أن مفاهيم الشرق والغرب هي "روايات خيالية سامية" خالية من الشرعية الأنطولوجية. "كل منها صنيع جهد إنساني، تثبيت جزئي ونفي جزئي للآخر...مسلِّمين أنفسهم بسهولة لاستثمار وتنظيم العاطفة الجمعية،" يقول سعيد. أما المنهج الآخر فهو ما شرع هو وأتباعه في تفنيده، أي التقليد التاريخي للدراسة الاستشراقية، التي تميل إلى شرح الاختلافات التاريخية المتعلقة بقيمهم الحضارية الأصولية، مع تثبيت واضح للغربي بوصفه النوع المتفوق. وبعيدا عن تبصراته التاريخية القيمة، فإن من الممكن للاستشراق إن يستخدم لتبرير الإمبريالية الغربية.

لا ينوي بوروما ومارغاليت نشر آراء قائمة على نموذج "صدام الحضارات" للاستفسار، بل يؤكدان للقارئ أن الاستغراب ليس "مشكلة إسلامية"، ويتمسكان بالرأي القائل إن الإسلام، بوصفه ديانة منظمة ليس مسؤولا عن استغراب المتشددين الإسلاميين. فصدام القيم هو، في الأساس، صراع داخل الإسلام، بين المسلمين الليبراليين والمسلمين التقليديين وليس بين المجتمعات الإسلامية والغرب (ومن هنا تحيتهم للمفكر الباكستاني المسلم محمد إقبال).

على الرغم من ذلك، فإن دراستهم قد تميل إلى قراءات أيديولوجية ذات طابع استشراقي. يعتبر الاستغراب التغريب أو "الانتشاء بالغرب" مرضاً، وسرطاناً يجب إزالته. وهنا يرد بوروما ومارغاليت التحية، فهما يدعوان الاستغراب "مرضاً مستشرياً"، فالأعراض المجردة مثل المرارة الثقافية تجاه هوليود وموسيقى البوب أو السلوك الجنسي للغرب قد يعالج، ولكن المرض المستشري "قاتل". إنهما يحذران من "عبادة الموت" عند الجهاديين، ويختتمان دراستهما بنصيحة تحذيرية بأن الاستغراب في صيغته الدينية (الإسلاموية) أي بوصفه أيديولوجية دولة، ينحو إلى تدمير الديمقراطيات الليبرالية.

إن وصف الاستغراب بأنه "فكر" لا يكفي لإلقاء الضوء على الظروف المادية لانبعاثه. وهناك نوعان من الإصلاحات يساعدان في منع دراسات مثل الاستغراب من إضافة أدبيات الخوف في مرحلة ما بعد الحادي عشر من أيلول. الأول هو شرح الظروف الاقتصادية والاجتماعية الخاصة التي دفعت إلى نهوض الاستغراب بين مثقفي العالم الثالث؛ والثاني هو فهم كيفية تحويل استغراب النخبة (كما صوره هذا الكتاب) نفسه إلى صورة متكاملة (غيشتالت) تاريخية، أو حركة جماهيرية.

وكما أوضح المؤلفان، فإن الاستغراب ولد من مواجهة مؤلمة مع الحداثة، فليس هناك استغراب في المجتمعات التقليدية أو ما قبل الحداثية. وفي كتابه الآخر، "غبار الإله: رحلة آسيوية حديثة" (1990)، يصف يان بوروما، الذي قضى شطرا مهما من حياته في الشرق، بإعجاب الظروف السيئة في المدن الكبرى في تايلاند وبورما والفلبين وماليزيا وسنغافوره وتايوان، حيث تنتشر تدريجيا أزمة هوية مؤلمة بين المحرومين سياسياً واقتصادياً، ومن خلال الصحافة الصادقة والتقييمات الأدبية أو السيرية، ومن خلال الدراسات الاجتماعية أو الاجتماعية النفسية المختلفة ،نعرف كيف أنه ليس الحسد والخجل فقط، بل والأشكال المتطرفة من الإذلال والحرمان المادي، تتحول إلى ثورات غضب عدمية. وإن كان المستغربون الإسلاميون يميلون إلى نزع إنسانيتنا، فإننا لا نحتاج إلى القيام بالشيء نفسه ضدهم. وفي واقع الأمر فإن "أنسنة" الجهاديين والمفجرين الانتحاريين قد يساعدوننا على كسب نوع من المعرفة الضرورية ،لمحاربة الاستغراب والابتعاد عن الغضب الموسمي غير العقلاني ضد "الغرباء السود."

*ينشر بالتعاون مع

International Journal of Middle East Studies 38 - 2007

الاستغراب: الغرب في عيون أعدائه
 
13-Mar-2008
 
العدد 17