العدد 17 - ثقافي
 

هيا صالح

في وقت يرى فيه فنان، وناقد تشكيلي أردني، هو حسين نشوان، أن التقنيات والأساليب الفنية العراقية لم يكن لها تأثير يُذكر في التشكيل الأردني، يؤكد الفنان العراقي المقيم في عمّان، فلاح السعيدي، أن "هناك احتكاكاً وتبادلاً للخبرات بين التجربتَين"، مشيراً إلى أن عملية التأثُّر والتأثير كانت على الدوام "إيجابية".

شهدت الساحة التشكيلية الأردنية، منذ أن وضعت حرب الخليج الأولى أوزارها وتوافد العراقيون إلى عمّان، تكاثراً للتشكيليين العراقيين وسطها، وحضوراً كبيراً للمنجَز التشكيلي العراقي إلى جانب المنجَز الأردني الموجود أصلاً.. وظلّ السؤال برسم الإجابة: هل أدّى هذا التجاور بل والتداخل على ساحة واحدة، إلى خلق حالة من التثاقف وإيجاد أرضية من التأثر والتأثير المتبادلين بين الطرفين تنشّط الحراك الفني بجوانبه المختلفة، أم لا؟.

في محاولة لمقاربة الجواب، يرى نشوان أن الفن العراقي تأثر بالفن الأردني وليس العكس كما هو متوقَّع، إذ ذهب التشكيلي العراقي باتجاه "مغامرات جديدة" من خلال التعرف على التجريد وتفاعله مع الفن الأردني، عازياً هذا التأثر من طرف واحد دون الآخر، إلى أن التشكيل الأردني كان وما يزال "نسيجَ وحده"، وأن كلَّ فنان أردني "كونٌ بذاته" لا يستنسخ نفسه أو تجارب غيره أو يقلّدها.

ويتفق التشكيلي الأردني محمد أبو عزيز مع هذا الرأي، فهو يرى أن الفنانين العراقيين "لم يضيفوا للتجربة الأردنية شيئاً"، وأنهم لو فعلوا لاتّضحَ ذلك من خلال أعمال الفنانين الأردنيين، وأنه في الوقت الذي بات يعيش فيه المشهد التشكيلي العراقي في الأردن "حالة من الذوبان" و"انتفاء الخصوصية"، حيث "التكرار والاستنساخ" اللذين يبعثان على "السأم التراكمي"، ظل للفن الأردني هويته الحقيقية والمميزة، وفقاً لأبي عزيز.

من جانبه، يشدد السعيدي على أنه لا بد من إضافة قدّمها الطرفان بعضهما لبعض، بحكم اطّلاع كلٍّ منهما على تجربة الآخر، التي تختلف عن تجربته بحكم الاختلاف الجذري لنشأة كل منهما، وتنوع الإرث الحضاري الذي يعبّر عنه كل من الطرفين؛ ففي حين أن الفنان الأردني نشأ في بيئة جبلية حاملاً إرثاً حضارياً معيناً، فإن العراقي نشأ في بيئة سهلية، حاملاً معه إرثاً مختلفاً يمثل الفنون السومرية والأشورية وسواها من فنون عرفتها الحضارات التي تعاقبت على بلاد الرافدين..

وفي حين يرى نشوان أن التشكيل في العراق كان يغيب عنه التجريدُ والتلوين، وأن التجريد والتلوين أصبحا ملحوظَين في التجارب الفنية العراقية مؤخراً نتيجة تأثر الفنان العراقي بمثيله الأردني، فإن السعيدي ينفي ذلك بشدة، مؤكداً أن الفنان العراقي يعرف التجريد والتلوين منذ زمن بعيد، مضيفاً أن التجريد حضر في أعمال فنانين عراقيين تأثروا بمراحل زمنية معينة في عملهم بالفن الغربي، نافياً أيّ صلة لمسألة تقنية التجريد والتلوين بتأثر الفن العراقي بالفن الأردني.

ويذهب الناقد التشكيلي مازن عصفور إلى تقسيم عملية التأثر والتأثير المتبادلة بين الفنّين العراقي والأردني إلى مراحل زمنية ثلاث: الأولى هي بداية التسعينيات، وفيها رفد الفنُّ العراقيُّ الساحةَ الأردنية بـ"الخصب والجمال" كما يقول عصفور، من خلال جيل كان رائداً وقدم أعمالاً مبدعة.. أما الجيل اللاحق فقد "اختلط فيه الحابل بالنابل"، وصار من الصعب حصر أعمال الفنانين العراقيين وتمييزها. وفي المرحلة الأخيرة "اختفى المبدعون العراقيون" كما يؤكد عصفور، موضحاً أن الموجودين حالياً على الساحة التشكيلية يقدمون أعمالاً "تصلح للديكور فقط"، بحسب تعبيره الذي بدا قاسياً بعض الشيء.

السؤال الذي يطرح بقوة هنا: إذا لم تكن اللوحة العراقية تمتلك المؤهلات لتكون مؤثرة وفاعلة على الساحة الأردنية، كما يؤكد عدد من التشكيليين والنقاد، فلماذا تُـفْـرَدُ مساحة غير قليلة في قاعات العرض للتشكيل العراقي، مقابل ما يمكن عدُّهُ "شُحَّاً واضحاً" في إقامة معارض للتجربة التشكيلية الأردنية؟ .

وفقاً لنشوان، فإن الفن العراقي نشّطَ الحركة الفنية لجهة إقامة المعارض فقط، ويلفت أبو عزيز إلى أن الأمر برمّته يقوم على "ألاعيب وكَوْلَسات" ترتبط بشكل أساسي بالغاليريهات التي "تتاجر" بالفن العراقي ليس إلا، مؤكداً أن "الأردن يمّثل للفن العراقي سوقاً مفتوحة". وهو ما ينفيه بشدة الكاتب والناقد العراقي ومنظم المعارض في غاليري دار الأندى سلمان الواصفي، مشدداً على أن "الغاليريهات في عمّان، لا تجامل أحداً"، وأنها لا تقوم بعرض أعمال لعراقيين ليس لهم تجربة تستحق الاهتمام، لافتاً إلى أن "من حق أيّ غاليري- البحث عن تجارب تلفت الانتباه"، وبالمقابل، "الفنان الأردني الذي له تجربة حقيقية وبصمة خاصة سيسعى أيّ غاليري إلى عرض لوحاته"، كما يقول الواصفي.

وتؤكد مديرة غاليري الأورفلي، رنا صنوبر، أن "لا علاقة للمعارض التي يحتضنها الغاليري بمسألة العرض والطلب"، وأن اللوحات التي يتم عرضها ليست تجارية ولا تهدف إلى الربح المادي والتسويق، وتقول: "نحن مثلاً نعرض التجارب التي نجد أنها ناضجة وجديدة وثرية في التعبير، لأن هدفنا فني أولاً وأخيراً"، مشيرة في سياق متصل إلى أن الفنان العراقي يبدو متفرغاً لفنه أكثر من الفنان الأردني الذي "ينشغل بأمور أخرى"، بحسب تعبيرها..

وحول إقبال الجمهور على معارض التشكيل العراقي، والسعي المتزايد لاقتناء اللوحة العراقية دون غيرها، ترى صنوبر أن الأمر مرتبط بكثرة عدد معارض التشكيل العراقية المرتبطة أساساً بكثرة عدد التشكيليين العراقيين مقارنة بالأردنيين. وتضيف: "معارض الفن العراقي أكثر من معارض الفن الأردني"، مستدركةً "لكن لا علاقة للكثرة بالجودة".

ويُرجع عصفور السبب في ذلك إلى أن المدرسة العراقية قوية بالكلاسيكيات، مضيفاً أن الفنانين العراقيين ملأوا الساحة بلوحات تسجيلية تقليدية بـ"دولارات قليلة"، مؤكداً أن "المشاهد الذي يقتني مثل هذه اللوحات يعاني أمّية بصرية، وهو ما يدفعه لشراء لوحة كلاسيكية لمنظر طبيعي معين مثلاً"، بالإضافة إلى أن الفنان الأردني "يهرب من الاتّجار بالفن" كما يقول عصفور، ويبحث عن التجديد والتجريب، وهو ما جعله "يفقد مساحته وحضوره من ناحية إقامة المعارض"، ويثبت نفسه من ناحية "الإبداع".

ويعزو الواصفي سبب انتشار اللوحة العراقية، بشكل لافت، على الساحة الأردنية ،إلى ارتباطها في البداية بالحروب التي شهدها العراق وخصوصاً الحرب الأخيرة، مما شجع الجمهور على متابعة تجارب الفنانين العراقيين، والاطلاع على الأشكال الفنية التي تفاعلوا من خلالها مع الأحداث التي تجري على الساحة العراقية، لكن صنوبر من جهتها تشدد قائلةً: "هذه المرحلة تجاوزناها الآن"، فيما يلفت السعيدي إلى أن المقياس الأساسي هو "تجربة الفنان والتقنيات التي يستعملها"، وهو ما يمنح أعماله "جوازَ مرور إبداعياً" على الساحة.

حضور مثير للتشكيل العراقي في الساحة الفنية الأردنية
 
13-Mar-2008
 
العدد 17