العدد 17 - كتاب | ||||||||||||||
ذات مرة تحدث أحدهم في سهرة سياسية والمجالس بالأمانات قائلاً: إن القبيلة مؤسسة سياسية تلعب دوراً يفوق في أهميته دور مؤسسات حكومية وحزبية. فما كان من ساهر ثان لا تفوته شاردة أو واردة، إلا أن أنكر هذا التعريف "مصححاً" أن القبيلة هي من تشكيلات المجتمع المدني ..فيما أردف ثالث: أنها تجمع بين هذا وذاك.. هذه الآراء الملقاة على عواهنها، تكشف أن سعي البعض لتوطين المفاهيم الحديثة بطريقة تلفيقية، لا يلبث أن يؤدي الى إفراغها من مضمونها، باسم ربطها بالخصوصيات المحلية. إذ يجري توظيفها كحاجز أمام أي نهوض اجتماعي وثقافي، ووقف كل اتصال بالعصر وتفاعل معه والاستزادة من ثمراته الفكرية. بهذا يحتدم كفاح لإبقاء كل قديم على قدمه وطرد الجديد، وكفى الله المؤمنين شر التغيير. القبيلة ليست تشكيلاً طارئاً ولا هي اكتشاف وقع حديثاً .فهي سابقة على نشوء الدول وتكون المجتمعات وبناء المدن. كل ما في الأمر أن وظيفتها تغيرت بعدئذ وتبدلت بالتالي محمولاتها، فأصبح الانتماء اليها هو نسب الدم والسلالة والوشائج العائلية، لا الانتساب الى مؤسسة قائمة بذاتها بمعزل عن الدولة وقوانينها وأنظمتها، وبمنأى عن المجتمع المختلط وما تسوده من علاقات وأنماط معيشة، كالجيرة والزمالة والصداقة والتشارك في المهن والنشاطات الاقتصادية والهوايات والأذواق . المجتمع المدني يتشكل في المدن ويضم أبناءها، وشطر كبيرمنهم ذوو أصول ريفية وقبلية. تنهض المدن بهؤلاء وسواهم وتتقدم الدول والمجتمعات باكتساب جمهورها صفات مدنية، مثل المساواة، والمواطنة، والتعليم، واختيار مهنة، والاعتماد على الذات، والاحترام المتبادل بصرف النظر عن الجنس والعمر. ويشارك في أنشطة هذا المجتمع المدني أفراد بصفتهم هذه: الفردية ، بالاختيار الطوعي والقناعات الذاتية والتطلعات الشخصية، كما هو الحال في الانتساب للأحزاب والنوادي. لا تعارض بين الانتماء لمجتمع ودولة والروابط الاجتماعية السابقة عليها، ما دام الجميع ينضوون في أطر وطنية عامة تشاركية، عابرة للبنى التقليدية ولكل ما يكبح التفتح الفردي والاجتماعي. للنشطاء والمثقفين والمنتجين قسط كبير في توطيد هذه المفاهيم التي كنا ننعم في مجتمعنا بمثلها قبل نصف قرن وقبل أن تهل علينا مفاهيم المجتمع المدني التي كانت تنتظم حياتنا بينما بتنا في الألفية الثالثة نرطن بها ونزاوج بينها وبين نقائضها. ومن ذلك تفسير مصطلح "المثقف العضوي"، بجعله ذلك الكائن الذي يحتكم لتقاليد اجتماعية سابقة على نشوء الدول وبناء المدن، وبدعوى التحامه الواجب بالجماهير وإصغائه لنبضهم. لو صح هذا المنطق لكان واجباً السير وراء زعامات تقليدية اختارتها الجماهير بصورة ما، ولكان يتعين عدم التسبب بوجع الرأس وخوض معركة التقدم والتمدن. |
|
|||||||||||||