د. فايز الصياغ:

يتحدثون عن «أيام اللولو» بكل خير في أغلب الأحيان، عندما كان الحزبيون وأشباه الحزبيين والأنصار، من شيوعيين وقوميين وبعثيين وغيرهم، مطمئنين إلى أنه إذا أعيتهم الحيل، فإن أبناءهم سيجدون أنفسهم على مقاعد الدراسة الجامعية في موسكو، ودمشق وكييف، وبغداد، وبرلين (الشرقية)، وحلب، والموصل، وبراغ وغيرها. وتعظُم فرحة الأهل عندما تكتمل هذه «المأثرة» العقائدية ببعثة دراسية أو مرتب شهري، وربما كلفة السفر بين الأردن وتلك البلدان، طيلة أربع سنوات أو خمس، وقد يضاف لها سنة أخرى في البلدان غير العربية لتعلم «اللغة».

مآثر التعليم الجامعي شبه المجاني تلك، في مختلف مجالات الدراسة الهندسية، والطبية والعلمية الأخرى، كانت إحدى زهوات الشيوعيين الأردنيين منذ أواسط الخمسينات من القرن الماضي، وتلاهم في ذلك البعثيون بعد بضع سنوات،. غير أن انهيار الشيوعية في مطلع التسعينات في الاتحاد السوفييتي، ثم في دول الكتلة الشرقية في أوروبا الوسطى، وضع آلافاً من هذه البعثات العقائدية في مهب الريح. فأُرغم المبعوثون على العودة إلى الأردن والأقطار الأخرى بنصف شهادة، أو الاعتماد على موارد عائلية متواضعة لمواصلة الدراسة، ولكن بمنطق "السوق الحر" والاقتصاد الحر المكلف هذه المرة. وغدا الطلبة الأردنيون المتوجهون إلى ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي و"الأنظمة الديمقراطية الشعبية" منذ تلك الأيام يتحملون كلفة الدراسة الجامعية فيها كلياً، على الرغم من أن أعدادهم أخذت بالانكماش والتضاؤل، قياساً على ما كانت عليه من قبل.

ولم يكن الأمر أحسن حالاً في الجامعات السورية. فقد أخذت الأريحية العقائدية فيها تجاه الطلبة العرب تنحسر تدريجياً منذ التسعينات، وبدأ ذلك بتناقص الدعم المادي وانتهى بإلغائه كلياً تقريباً عن الوافدين العرب بصورة عامة، ثم انتقل إلى التشدد الأكاديمي في القبول في كليات وتخصصات معينة إلا بمعدلات عالية في شهادة الدراسة الثانوية. وأفضت الدعوات «المعلنة» ضد الفساد داخل سورية إلى مزيد من التصلب في هاتين الناحيتين. وإذا كانت الشام في نظر الكثيرين، هي «بلد الفقير»، سواء لاعتبارات حزبية أو سياسية أو اقتصادية، فإن الأمر لم يعد مثلما كان منذ عدة سنوات.

أما بغداد، فإنها، لاعتبارات وظروف استثنائية، فقد كانت آخر المرابطين على تخوم البعثات الجامعية المُسيّسة. فمنذ مطلع المرحلة الصَدّامية في أواخر الستينات، راح بعثيو العراق يضُخّون أبناء أنصارهم والمتعاطفين مع صدام في موجات متعاظمة مما يشبه البعثات المجانية، إلى جامعات الموصل، وبغداد، والبصرة. بيد أن أعداد هذه البعثات والمبعوثين بدأت تتقلّص منذ غزو الكويت وحرب الخليج، وكانت تتذبذب وفق درجات الحصار الخارجي والقمع الداخلي، إلى أن توقفت بصورة شبه نهائية بالغزو الأميركي وسقوط بغداد وإسقاط صدام.

وإذا كان للتطورات العالمية، والإقليمية دور أساسي في انحسار موجة المنح الجامعية المُؤَدْلَجة تلك في الأردن، ودول عربية شرقية، فربما كانت التطورات السياسية على الصعيد الأردني المحلي هي الأكثر حسماً. ففي العام 1992، صدر قانون الأحزاب الذي «أَرْدَنَ» الحياةَ الحزبية، والسياسية، وقطع بالفعل الصلات العقائدية، والتنظيمية أو المادية بين الأحزاب التي ستنشأ وفق هذا القانون من جهة، والتنظيمات "الأم" التي رعت انشاءها ودعمتها بكل الوسائل على الصعيدين الإقليمي (مثل حزبي البعث العراقي والسوري)، أو الدولي (مثل الحزب الشيوعي) من جهة ثانية. وبانقطاع هذه الصلات، بما كانت تنطوي عليه من أنواع الدعم والمساندة، ومن بينها البعثات الجامعية، تقطعت السبل بين الطلبة من أبناء الأسر المُسيَّسة أو غير المقتدرة، وبين الدراسة في الجامعات في الدول الاشتراكية، أو السورية، أو العراقية. وربما لعب انقطاع الدعم هذا دوراً كبيراً في انحسار الدعم الشعبي الذي كانت تتمتع به الأحزاب الأردنية.

وبين أيام اللولو التي انقرضت أو كادت، وأيام التزاحم الضاري على العلامات والمقاعد في الجامعات الأردنية الرسمية المكتظة، وتعاظم الشكوى من كلفة الجامعات الخاصة، فإن سحبا قاتمة من الشك والتساؤل والحيرة حول التعليم الجامعي، والعمل، والمستقبل، ما زالت تظلل رؤوس الجانب الأكبر من نحو مائة ألف طالب وطالبة يدخلون القاعات لأداء امتحانات "التوجيهي" كل صيف.