العدد 16 - دولي
 

معن البياري

وسط دوّامات العنف وجولاته في إقليم دارفور في غرب السودان، طوال خمس سنوات اكتملت الشهر الماضي، ظل الحكم في الخرطوم يُطنب في أن الجاري مؤامرة أجنبية على بلاده لتفتيتها ووضعها ضمن أجندات مشبوهة. وشاع هذا الخطاب في الرأي العام العربي، على مستوى الشارع العام، وأيضاً في أوساط نخب ونقابات واتحادات وأحزاب عربية غير قليلة، ومن ذلك شبه الإجماع على أن الإقليم السوداني المنكوب يتعرض ل «مؤامرة صهيوأميركية»، كما تبدى في مؤتمر لقيادات هيئات حقوقية ونقابات محامين عربية في القاهرة في أيلول/سبتمبر الماضي. وجاء إعلان رئيس حركة تحرير السودان المتمردة في دارفور عبد الواحد نور الأسبوع الماضي فتح حركته مكتباً لها في «إسرائيل» لتدلل به الحكومة السودانية على دعواها.

وقال نافع علي نافع، مستشار الرئيس عمر البشير، «إنه دليل ملموس على أن أيادٍ أجنبية هي التي تحرك قضية دارفور». وفي هذه الأثناء، غاب الجهد الذي يستدعيه دخول الصراع الدامي الأهلي في الإقليم عاماًسادساًً بشأن تظهير الحقائق في أثنائه وأسباب عدم الوصول إلى نهاية له، لا سيما أن ثلاث بلدات في غرب دارفور تعرضت قبيل اكتمال السنة الخامسة بأيام لقصف حكومي، وقد جاءت وكالات الأنباء الأجنبية على شهادات لسكان عن فظائع مهولة وقعت، وعن حرق أكواخ وبيوت وطرد ونهب وعمليات اغتصاب، وعن مدنيين قتلى وجرحى، وتشرد نحو 12 ألف .

وكما في كل واقعة في الاشتباكات والاعتداءات التي استمرت منذ 26 شباط/فبراير 2003 عندما هاجم متمردون حامية للجيش السوداني، كانت الروايتان إياهما: الحكومية التي تقلل من حدّة الحوادث وتلقي المسؤوليات على ميليشيات حركات التمرد التي تناسلت بشكل أربك كل الوساطات والمفاوضات، والأخرى عن ثورة دارفوريين ضد التهميش وردّ اعتداءات ميليشيات الجنجويد المدعومة من القوات الحكومية. وفي الأثناء، تكاد تكون وسائل الإعلام الغربية ومنظمات الإغاثة والمساعدات الأجنبية والدولية والهيئات الحقوقية والإنسانية الناشطة المصادر الوحيدة للوقائع الميدانية في نحو 500 ألف كيلو متر مربع هي مساحة دارفور وولاياته الثلاث. وفي أجواء التنازع على مصادر المياه، ومطالبات المجموعات المتمردة بتقاسم أفضل للثروات وحكم ذاتي أوسع لمناطقهم، ظلّت فظائع مهولة تتوالى ضد المدنيين، قالت منظمات دولية، ومنها "هيومان رايتس ووتش" في تقرير لها الشهر الماضي، إن جميع أطراف النزاع ترتكبها. أن الحقائق المؤكدة طوال السنوات الخمس الماضية كانت من ضحايا هذا النزاع في هذه المنطقة التي تتجاوز فرنسا في مساحتها، ويقطنها ستة ملايين نسمة بحسب إحصاءات سابقة . ومن ذلك إصرار الخرطوم والأجهزة السودانية الرسمية أن تسعة آلاف فقط سقطوا قتلى في النزاع، فيما وكالات الأنباء واللوبيات الناشطة تحت شعار " إنقاذ دارفور "، ومشاركة اليهود فيها كبيرة، تردد رقم المائتي ألف الذي يعده كثيرون خرافة غربية ، ويؤشر إلى متاهة الحقائق الضائعة أن كبير مساعدي الرئيس السوداني رئيس السلطة الانتقالية الإقليمية في دارفور مني أركو مناوي يصف قصف الجيش البلدات الثلاث في 8 و9 شباط/فبراير الماضي بأنه مجزرة، ويخالف بيانين حكوميين عن استهداف مواقع متمردين مسلحين، ويطالب المجتمع الدولي بتحقيق يكشف حقائق ما جرى . والمعلوم أن مناوي هو الوحيد بين زعامات التمرد الذي تم معه اتفاق سلام في أيار/مايو 2006 .

وفي موازاة الاهتمام الإعلامي الأميركي والغربي الكبير بالمأساة المتواصلة هناك، وفي موازاة العمليات الإنسانية الكبرى التي تنشط فيها منظمات الأمم المتحدة ومؤسساتها الإغاثية وهيئات غربية، أخرى (برنامج الغذاء العالمي يقوم في السودان بأكبر عملياته في العالم) .. في موازاة ذلك، يستطيب إعلام عربي واسع الاستسلام لفكرة التآمر ضد السودان ووحدة أراضيه ونظامه، وتصل كاميرات فضائيات عربية إلى القطب الشمالي للتصوير هناك، ولا تبذل جهداً استقصائياً في تظهير المحنة الإنسانية في الإقليم غير النائي، حيث جميع الضحايا فيه مسلمون، سواء أكانوا من قبائل الفور الداعمة للمتمردين أم من القبائل العربية التي تستند إلى دعم حكومي ظاهر لها . ولا يستطيب الذهن العربي أي انتباه إلى الذي يجري هناك، فلا يلحظ المراقب تعاطفاً بيّناً، أخلاقياً وإنسانياً وتوجبه الشرائع الدينية، باتجاه السودانيين الذين يتم تشريدهم ويتوالى قتلهم واغتصاب نسائهم، وثمة روايات وشواهد موثقة دالة على ذلك وغيره، وحدث غير مرّة أن أقر مسؤولون حكوميون بوقوع مثل هذه " التجاوزات ".وساعد على شيوع هذا الضمور في تظهير العواطف الواجبة، وعدم تنشيط جهود عملية لمعاونة وإسعاف الضحايا واللاجئين والمصابين والجائعين في دارفور، أن حركات التمرد التي تنسب لنفسها تمثيل المستضعفين شديدة التذرر والترهل ومتوزعة الولاءات والارتباطات .

وقدجاء فتح عبد الواحد نور مكتباً لمجموعته، أو جناحه في حركة تحرير السودان على الأصح، في إسرائيل ليزيد في ذخيرة الاتهامات ضد المسلحين في دارفور ممن يواجهون قوات الحكومة وأجهزتها . وإن أعلنت زعامات في قبيلة الفور، وهي أكبر القبائل الإفريقية في دارفور، تبرؤها منه، وقالت إن فعلته لا تخدم قضية أهل الإقليم، واستنكر نازحون الخطوة التي سوّغها نور بوجود دارفوريين في الدولة العبرية شردوا إليها في الشهور الماضية، تردد أنهم وصلوا إلى هناك بترتيب مسبق معه . ومما يضاعف من وطأة هذا السلوك أنه جاء فيما المذابح على أشدها في قطاع غزة يقترفها الوحش الإسرائيلي، وقد قال أولئك النازحون إن مأساة أهل دارفور أسوأ من مأساة فلسطينيي غزة . ولا مدعاة هنا للتأكيد أن ما غامر به نور سيضاعف من تشوش الحقائق التائهة في رمال وخرائب دارفور، التي حدث أن ثلاثة اتحادات مهنية مدنية عربية حاولت قبل نحو ثلاثة أعوام التعرف عليها ميدانيا، أو استقصاءها، بحسب التعبير المألوف، وهي اتحادات الصحفيين والأطباء والمحامين العرب، واتصفت تقاريرها بعموميات مرتجلة، وتماهت تماماً مع الخطاب الحكومي، واستندت إلى مصادر رسمية، ولم تقف أبداً على ما يدلّل على عمق معرفة بالصراع وخرائطه وتعقيداته. ومن ذلك أن تقريراً نشر في نيسان/أبريل 2005، أعده وفد اتحاد الصحفيين العرب، (ترأسه الزميل سيف الشريف)، استطرد في الحديث عن تسهيلات الحكومة السودانية للوفد، وحمل على منظمات إنسانية كثيرة، غربية خصوصا، ووصف دورها بأنه مشبوه، وأنّها تتمنى أن يطول أمد الأزمة لتتمكن من تنفيذ برامجها لصالح حكومات ودوائر غربية . وذكر التقرير، ومن دون أي دلائل داعمة، أن إسرائيل تعبث في دارفوروتساعد المتمردين، ولم يحمل التقرير أي شواهد على ذلك، على الرغم من أهمية هذه النقطة، ولم يؤشر إلى ما هو مثبت بشأن حوادث اغتصاب وانتهاكات وجرائم حرب .

ومن المفارقات أن تقريراً أعده وفد من جامعة الدول العربية نشر في أيار/مايو 2004 خرج بنتائج ميدانية تقترب من خلاصات منظمات دولية، وأغضب الحكومة السودانية، وإن صيغ بلغة دبلوماسية، وكان جريئاً بالمقاييس الرسمية العربية التقليدية، وكان أكثر أهمية من تقارير الاتحادات الثلاثة. ودفعاً لأي استدلال من مصادر أجنبية، كتب الرئيس التنفيذي لمؤسسة الإغاثة الإسلامية محمد سيف مقالاً في "الحياة" في 23 أيلول/سبتمبر 2006 أنه من دون حدوث شيء لوقف ما سماها المأساة المزدوجة في دارفور اذ "ستكون كميات الجثث من الكثرة بحيث لا يمكن لوسائل الإعلام أن تتجاهلها، وسوف يحوم الصحافيون حولها كالحشرات"، ووصف الرجل الحادث هناك بأنه "أسوأ كارثة في العالم" . لم يشر سيف إلى " إسرائيل " التي لا يجوز أن يستهجن أحد إذا ما ثبت وتأكد أنها تعبث في دارفور، لكن ذلك لا يجوز أن يسوّغ التعمية المتواصلة عن مذبحة متواصلة هناك .

دارفور والعرب و“إسرائيل” في خمسة أعوام دامية
 
06-Mar-2008
 
العدد 16