العدد 16 - اقليمي
 

سليم القانوني

حين تحدث مسؤولون إسرائيليون من بينهم نائب وزير الأمن عن «محرقة أكبر» في غزة، فإن الأمر تعدى زلة لسان فرويدية، بدليل أن الرجل :متان فيلنائي لم يتراجع عن فحوى ومنطوق تصريحه،والأسوأ أنه قرن الأقوال بالأفعال، فأطلق منذالأربعاء 27 آذار الماضي سلسلة مجازر يومية ضد المدنيين. وكان هو ورؤساه أميناً لأدبيات الهولوكست التي استهدفت ملايين المدنيين بالجملة. الفرق في المأثرة الصهيونية أن حملة الإبادة تتم بالتقسيط، وقد مضى عليها الآن ستة عقود هي أيضاً عمر الدولة العبرية. وكثيراً ما يتخلل مراحلها تلاوة أدعية للسلام، وهو ما فعله اولمرت في ذروة المجازرالأخيرة.

لا يعتذر الإسرائيليون عن جرائمهم، وهم غالباً يطلبون مكافآت على ارتكابها. يصادف ذلك بدء الاستعدادات لاحتفالهم إنشاء دولتهم على أرض فلسطين وعلى أنقاض شعبها.القائم بأعمال مندوبهم في الأمم المتحدة دانييل كارمون شدد على ذلك متكئاً على أن إطلاق صورايخ القسام لم يتوقف. كان يمكن قبول هذه الحجة لو كانت سلطة الاحتلال ارتضت عقد هدنة أو حتى تهدئة.حدث من قبل ان اطلقت إشارات عديدة بهذا الاتجاه ثم تراجعت عنها. وحدث أن الفلسطينيين إلتزموا بهدنات عديدة قوبلت باستمرار بقصف إسرائيلي يومي روتيني على بيوتهم ومزارعهم. فحين تعييهم الحيلة والذريعة، يقلب الإسرائيليون الموجة ويتحدثون عن حملة لمكافحة الإرهاب..وهي حملة لا نهاية ولا حدود لها، وكما رسمها حلفاء لهم في واشنطن غداة الحادي عشر من سبتمبر. وهي حملة تلحظ أن المدنيين يدفعون ثمناً كبيراً في "سياق" الحملة. واقع الحال أن استهداف المدنيين هو "السياق" الأصلي.

بالتصريح أن ما يجري محرقة وليس أقل من ذلك أو غير ذلك، فإنه يمكن فهم استراتيجية اليمين الإسرائيلي الجديد ( يمين كاديما مقابل يمين الليكود التقليدي)، التي صاغها وشرع في تنفيذها شارون قبل سبع سنوات، وبالتواقت مع حملة مكافحة الإرهاب..الدولية.كان الإجهاز على اتفاقية أوسلو بمثابة تحصيل حاصل لا يستحق التوقف عنده للتفكير به. ما يستحق الاهتمام هو تدمير مرافق الكيان الناشىء وتقويض البنى التحية والمادية والقضاء على مظاهر الحياة وتقليص أعداد البشر. ليست مجرد حرب على السلطة، بل على الوجود البشري والمادي،بحيث يتطلع الفلسطينيون الى مجرد البقاء، وتنعقد تطلعاتهم حول تأمين وجودهم البيولوجي بدل السعي لبلوغ أهداف سياسية.

الفتاوى العنصرية التي يصدرها كبار الحاخامات الشرقيون والغربيون توفر غطاء ومرجعية للنشاط العسكري المسمى أمنياً.وتمثل بطانة ايديولوجية لتعبئة الجمهور ضد تكاثر الفلسطينيين وبقاء معظمهم على قيد الحياة.لا تتم الموافقة علنيا على مضمون هذه الفتاوي ولا يجري كتمانها وملاحقة مطلقيها، بل يحدث شيء آخرأكثر أهمية هو: العمل بمقتضاها.

أولمرت تلميذ نجيب في مدرسة شارون، يتقيد بالسياسة نفسها، مع قدر أكبر من المراوغة والمناورات،ورسم ابتسامات عريضة وخليعة هي من لزوم بروباغاندا العلاقات العامة.لقد أسهم موضوعياً في تصعيد حماس،بإغلاقه الطريق أمام أي حل سياسي، فلما صعدت وفازت ثم انقلبت على السلطة في غزة، شعر أنه بات مطلق اليدين كي "يحارب الإرهاب" بينما هو يحارب الوجود البشري في غزة، ويسعى لإلحاق القطاع بمصر.فحتى الكيان الفلسطيني المجزوء والمشوه في غزة، يستكثره أولمرت ولا يريد أن يرى قيامة له.الحل هو محرقة على دفعات.ومن لم تخنه الذاكرة يستذكر أن خطة شارون الطويلة المدى جرى تنفيذها على هذا النحو دون هوادة وبغير توقف وبصرف النظر عن أي وضع سياسي في أية مرحلة من المراحل.

الوضع في الضفة الغربية أقل هولاً لكنه بالغ السوء. هناك أعداد أقل من الضحايا،أما عدد الأسرى المختطفين من الشوارع والبيوت فيزاد باطراد.توسيع وتهويد القدس يتم على قدم وساق. لا بأس إسرائيلياً أن تكون هناك مفاوضات في الأثناء، فقد تخفف من غلواء المعتدلين وجمعيات حقوق الإنسان وبعض المنابر الليبرالية في أوروبا، وتطمئن العالم العربي أن مسيرة السلام سائرة، وأن محفل أنابولس لم يكن بغير نتيجة.

أما في غزة، فالمعركة مع حماس.. أي مع الإرهاب.هناك أكثر من قناع متاح استخدامه كي يجترح أحفاد المحرقة،محرقتهم الخاصة بحق الفلسطينيين غير السعداء باحتلال وطنهم. ومحاصرة غزة حصاراً مطبقاً وتخفيض مستمر لمستوى الحياة فيه وتقليص عدد سكانه. وذلك أي الضغط العسكري الوحشي يحمل على إطلاق صواريخ القسام،التي يتم "الترحيب" بها كذريعة ذهبية لمواصلة مسلسل الإبادة.

صدرت ردود فعل روتينية وباهتة من" المجتمع الدولي" على المحرقة، وهو ما اعتاده الإسرائليين وما ألفه الفلسطينيون في السنوات الطويلة لعذابهم. مجلس الأمن أخفق في التوصل لقرار وأصدر بياناً رئاسياً بوسع محرر سياسي متوسط الموهبة كتابته.الفرق أن قيادات الفلسطينيين لا تجد ما تقوله وتفعله ويستثير اهتماماً جدياً ويغير الوضع المسموم والمتخثر.

يغضب الرئيس محمود عباس على غير عادته،ويوقف التفاوض وكل الاتصالات مع الإسرائيلين. لا ينقضي يوم واحد حتى يقوم بتنفيس غضبه داعياً للتهدئة، متخذاً سمة المحايد المسؤول،متفادياً التحديق في هول ما ارتكبه المحتلون وصارفاً أنظار العالم عما جرى، ومتجهاً نحو الهدف الأعز على قلبه.أبعد من ذلك فإنه يعرض وساطة بين إسرائيل وحماس.وساطة تقوم بها دولة فلسطينية لا وجود لها باستثناء مكتب الرئاسة في رام الله.

والمفارقة أنه يعرض ما يعرضه فيما الجسور مقطوعة مع حماس، والحدود مغلقة بين الضفة والقطاع. الأوهام تصبح في هذه الحالة مبتذلة. بالنسبة له لعباس المفتاح السحري يكمن في التفاوض،لا خلاص إلا به ودون سواه. المجازر التي تعز على الوصف والحصر،لا شفاء منها إلا بالتفاوض مع المرتكبين، دون تحميلهم ثمناً معنوياً يذكر يحسن من وضع عباس التفاوضي.

هذه الحلقة المفرغة يستثمرها الإسرائيليون لقطع أشواط إضافية على طريق المحرقة وسلب المزيد من الأرض..أرض الدولة الفلسطينية التي وعد بها بوش.

الطرف الآخر الجهادي الذي تمثله حماس يراهن مجدداً على المنازلة وتعظيم المقاومة،

في ظروف أصعب وأسوأ وسط شعب مكلوم ومثخن بالجراح. النزعة الإرادوية هذه إذ ترفع الروح المعنوية لبعض الوقت في بعض الأوساط الملتزمة ( دينياً وقوموياً) فإنها تبث رسالة مغلوطة مفادها أن الحرب سجال بين الجيش الإسرائيلي وجيش حماس. وليس بين جيش محتل وشعب أعزل.يسهل في الحالة هذه أن تقف دول وأطراف بغير عدد،في صف الإسرائيليين مقابل "إرهاب أصوليين ".

تفضلت حماس غير مرة ورفضت فكرة استقدام قوات دولية واعتبرتها استعماراً واحتلالاً جديداً..وهو ما يثبت أن حرصها على الاستئثار بالسلطة ورفضها مزاحمة أية قوة خارجية او داخلية، يتقدم على حمايةالشعب من الوحشية الإسرائيلية المنفلتة من كل عقال. وقفت تل أبيب الموقف نفسه ولأسبابها الخاصة بها ضد استقدام قوات دولية، وتبرع وزير الخارجية الإيطالية داليما قبل أيام وقلل من أهمية الفكرةمعتبراً أن وقف القتال واستئناف التفاوض يتقدم في الأولوية على ما عداه. أما السلطة برئاسة عباس، فقد تخلت عن هذا المطلب، والراجح أنها نسيته. ففلسطين لا تشبه دارفور (قوات برعاية الأمم المتحدة)، ولا كوسوفو (إعلان الاستقلال من جانب واحد بإسناد دولي). إنها لا تشبه أية قضية، فالحل الوحيد عند عباس هو التفاوض فحسب، وكفى الله المؤمنين شر أي قتال على أية جبهة بما فيها الجبهة السياسية. من شأن ذلك إعفاء "المجتمع الدولي" والعرب وبقية العالم من مسؤولياتهم، ما دام التفاوض يتم ثنائيا بين طرفين "هما الأقدر على اجتراح حلول وسط" دون تدخل دولي ومرجعيات دولية ودون التزامات مسبقة.. الطرف الإسرائيلي يجترح في أثناء ذلك المجازر ويسلب المزيد من الارض. هذه "التفاصيل" لا تفت في عضد الطرف الثاني الذي يعتنق عقيدة التفاوض،دون ربطها ببيئة سياسية مواتية يتم فيها تحسين ظروف التفاوض،وممارسة ضغوط على الطرف الآخر القوي والتلويح ببدائل كاستئناف الانتفاض المدني.

بإضافة الصراع بين السلطة وحماس وتحميل كل منهما الآخر مسؤولية الفصل الدموي الجديد و"التغطية" عليه، الى المشهد، يتبدى كم أن الطرف الفلسطيني عاجز عن عقد إجماع سياسي وطني للرد على الاستباحة الإسرائيلية، بصورة ناجعة تتفادى المزيد من الضحايا وتضع حماية الشعب وأرضه على جدول الاهتمامات الإقليمية والدولية.فلا أحد من الحلفاء الإقليميين على استعداد أن يهب للنجدة، على سبيل المثال لا يتوقف أحمدي نجاد، حليف حماس، عند تطورات المحرقة الفلسطينية، فهو منشغل بإنكار المحرقة اليهودية بالتبشير بإزالة إسرائيل والسعي للسيطرة على العراق. فيما تنشغل دمشق بتنظيم الفراغ الرئاسي في لبنان وإطالة أمده. ويندفع أمين عام حزب الله لتحديد مواعيد لنهاية هذه الدولة في العقد الثاني من الألفية الثالثة. أما معسكر الاعتدال العربي حليف السلطة الفلسطينية، فيرى في جرائم الدولة العبرية أمراً واقعاً لا يمكن تعديله أو وقفه إلا عبر قنوات دبلوماسية ومناشدات علنية.. أما العلاقة مع هذه الدولة فباتت من "الثوابت".

في هذه الأجواء الرخوة تنتظم المحرقة الصهيونية حلقة تلو أخرى، ويراد لها أن تتواصل بلا نهاية تحت خيمة مفاوضات أوبدونها، بإطلاق صواريخ القسام أو سكوتها.ما دام القوي قوياً ولا ضوابط على استخدامه القوة في غير محلها وأوانها، ومادام الضعيف مستضعفاً ولا مصلحة آنية وملموسة تضغط على أحد لمؤازرته وحمايته.

على أبواب الذكرى الستين لإنشاء الدولة العبرية: إدامة محرقة الفلسطينيين تتقدم على أي اعتبار سياسي
 
06-Mar-2008
 
العدد 16