العدد 16 - أردني
 

خليل الخطيب

«التحقت بصفوف الحزب الشيوعي وأنا في بداية المرحلة الثانوية. بدايتي مع الحزب يمكن تلخيصها بكلمة واحدة..«الفرح» وكنت أردد بابتهاج وفخر «أنا شيوعي»، هكذا يستذكر عضو سابق في الحزب الشيوعي الأردني بدايات تجربته مع الحزب في آب/أغسطس من العام 1980.

ويتابع «الرفيق» المتقاعد، تفاصيل التحزب في أكثر التنظيمات مطاردة من الحكومات إبّان العمل السرّي: «كأن جداراً من العزلة عشت فيه طوال حياتي انهار فجأة؛ أخذت أقرأ بنهم، وفي كل مساء كنا نلتقي ونتحدث في كل شيء:السياسة، والفكر، والأدب، والفن».

أصبح الحزبي الجديد يستمع «لآراء جديدة فيها الكثير من العمق، الحداثة والجرأة. كنا نتحدث عن رفاق اعتقلوا ونتمنى لو نكون مكانهم، عن مفكرين اختاروا الانحياز للناس رغم كل ما عانوه من تهميش وإبعاد واعتقال». ويستخلص: «لقد أصبح الحزب في ذلك الوقت كل حياتي والرفاق هم أهلي وإن كنت أعرف معظمهم بأسماء حركية».

لكن نشوة الرفيق بماضي حزبه لا تلبث أن تختفي لتحل محلها انقباضات بائسة، إذ يستذكر: «لكننا بعد هبّة نيسان 1989 والانفراج الديمقراطي، ودخول الحزب مرحلة العمل العلني، أفقنا من تلك الغيبوبة التي كنا نعيشها مع المثل والأفكار، لنجد أنفسنا منتمين إلى ما يشبه الوكالة لشركة أجنبية يتنافس مندوبو المبيعات فيها على من يحقق عمولة أكبر في نهاية الشهر».

تزامن الانفتاح الديمقراطي مع انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي كان حاضنة الأحزاب الشيوعية من بنما إلى فيتنام. وتلا ذلك انهيار منظومة الدول الاشتراكية-الشيوعية التي كانت تدور في فلكه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

القمع هو المسؤول

أمين عام حزب الوحدة الشعبية، سعيد ذياب، يرد على شكوى رفيقه الشيوعي سابقاً ويقول: «ليس ثمّة حجة لمن تركوا العمل السياسي في أحزاب اليسار، لأن جزءاً منهم تركوا لا لموقف حقيقي وإنما لأنهم تعبوا من القمع الذي تعرضوا له، فانهاروا ووقعوا تعهدات أمنية».

ويتابع ذياب الذي يعمل طبيباً في عيادته الخاصة في مخيم البقعة: «صحيح أن الانفراج الديمقراطي كشف عيوباً داخل أحزاب اليسار مثل: التبعية الفكرية والشللية والدكتاتورية الحزبية، لكن علينا أن لا ننسى أن هذه الأحزاب كانت تعمل سراً». يؤيده في ذلك الأمين الأول لحزب الشعب الديمقراطي الأردني، أحمد يوسف، إذ يتساءل: «العمل السري لم يتح لأحزاب اليسار عقد مؤتمرات لعدة عقود فكيف لها والحالة هذه أن تقوّم نفسها وتعدل مساراتها»؟ حشد والوحدة الشعبية انبثقا العام 1992 وهما نسخة أردنية، على التوالي، من رحم الجبهتين الديمقراطية والشعبية لتحرير فلسطين.

الاختراق والتفتيت

يوسف يشيد بالعمل الحزبي، ويقول: «لقد فوجئت الجهات الأمنية بالاحترام الذي يحظى به اليسار رغم خمسة عقود من قمعه وتغييبه».

ويستذكر المهرجان الجماهيري الذي دعا إليه الحزب في الملعب البلدي في مدينة الزرقاء. ويقول: إن «لأجهزة الأمنية اعتمدت منذ ذلك الوقت استراتيجية الاختراق والتفتيت مع أحزاب اليسار، وهذا هو السبب الرئيسي وراء حالة التشظي التي ظهرت بعد العام 1989».

«الهالة التي كانت تحيط بأحزاب اليسار والمنتمين إليها خلال عقود من الأحكام العرفية لم تكن زائفة»، برأي الأمين العام للحزب التقدمي زهير القوّاس. فتلك الأحزاب برهنت خلال عقود من القمع بأشكاله المختلفة على أنها «الأكثر إخلاصاً للموطن الأردني وقضاياه الوطنية والمعيشية».

ويتابع القواس: «أعضاء الأحزاب قدّموا تضحيات جسيمة على المستوى الشخصي والاجتماعي دفاعاً عن حقوق الناس، فاستحقوا عن جدارة الاحترام والتقدير».

تعليقاً على مصير أحزاب اليسار التي يصفها الشيوعي السابق بأنها «تترنح بانتظار الفرج» يقول القواس: «ثمة خلافات فكرية وسياسية ومبدئية بين هذه الأحزاب، وبخاصة بيننا وبين قيادة الحزب الشيوعي». لكنه يتوقع أن تشهد «المرحلة القادمة حوارات من المؤكد أنها ستأتي بالجديد المأمول».

ويقدم موسى المعايطة، أمين عام حزب اليسار الديمقراطي، أمثلة أخرى على تلك الحالة، فيذكّر بحصول أحد أقطاب الشيوعيين عيسى مدانات على تأييد جماهير الكرك وانتخابه نائباً عن المحافظة حين حصد صوت. سجّل مدانات ذلك النصر «رغم غيابه عن مدينته عدة عقود قضّى جزءاً منها معتقلاً». ويذكر المعايطة أيضاً ب«الحضور الجماهيري الواسع الذي كان يظهر في المهرجانات الخطابية لمرشحي الحزب الشيوعي لمجلس النواب».

صعود مدانات الصاروخي في الكرك، يذكّر بفوز مؤسس الحزب الشيوعي يعقوب زيادين العام 1956 في القدس (التي كانت جزءاً من الأردن مع سائر الضفة الغربية) وذلك بعيداً عن مسقط رأسه الكرك.

إلا أن مدانات سجّل تراجعاً مدوياً في انتخابات 1997 حين حصل على 332 صوتاً في الدائرة الثالثة/ عمّان، المفترض أن تتضمن جرعة عالية من التسييس.

اليسار أصبح أكثر قوة

أمين عام الحزب الشيوعي الأردني منير الحمارنة- وريث يعقوب زياد زيادين- لا يرى ضيراً في «بروز خلافات وانشقاقات في أحزاب اليسار بل أمراً طبيعياً لا فرادة فيه ولا شذوذ». فالأحزاب السياسية، يشرح الحمارنة، «أياً كان توجهها ومهما كانت ظروف عملها معرضة للخلافات والانقسامات». على أنه يقر بأن الانقسامات داخل الحزب الشيوعي «أضعفته» ومع ذلك يؤكد أن «على المراقب الموضوعي أن يلاحظ أن اليسار أصبح أكثر قوة».

يرى الحمارنة «أن قراءة محايدة لما يكتب في الصحف من معالجات للقضايا المحلية والقومية يؤكد أن الفكر اليساري أصبح منتشراً ومحترماً بين الناس»، مشيراً إلى أن «معظم الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية، حتى تلك التي تسمي نفسها ليبرالية أو وسطية تتناول القضايا العامة من منظور يساري». هذا التماهي يؤكد أن «توجهات الحزب الشيوعي منذ تأسيسه كانت على درجة عالية من المصداقية وجودة التحليل».

ويرى الحمارنة أيضاً أنه رغم «عدم وجود إرادة سياسية لتحقيق الديمقراطية في الأردن، ورغم استمرار الحكومات في التعاطي مع الحياة السياسية من زاوية عرفية أمنية، إلا أن الفكر اليساري المنحاز لمصالح الناس آخذ في الانتشار والتوسع بغض النظر عن المسمى الذي يتخذه». يتفق ذياب ويوسف مع هذا التوصيف إذ يريان أن «الإرادة السياسية صوب تغيير ديمقراطي ظهرت بوادرها لفترة محدودة جدا امتدت من العام 1989 حتى صدور قانون الأحزاب 1992. وازداد منحى التراجع» بعد معاهدة السلام العام 1994. ويؤكد يوسف أن «مجمل القوانين والتشريعات التي أقرت في تلك الفترة كانت عرفية الطابع» لا سيما قوانين الانتخابات والتجمعات العامة والمطبوعات والأحزاب السياسية.

وزير التنمية السياسية، كمال ناصر، يؤكد من جانبه «اهتمام الحكومة فعلياً بتطوير الحياة الحزبية امتثالاً للأوامر الملكية».

خبراء في الشأن الحزبي، يعتبرون أن تنظيمات اليسار تقف الآن أمام تحد كبير يتمثل في تطوير أدائها ليتخطى الخطاب السياسي المعوم نحو خطاب متعدد الجوانب في صميم حياة الناس سياسياً- اقتصادياً-اجتماعياً.

إلى “اليسار در”.. تحديات الهوية والجدوى!
 
06-Mar-2008
 
العدد 16