العدد 16 - أردني | ||||||||||||||
سعد حتر وحسين أبو رمّان
تعدّد المرجعيات، ازدواجية الخطاب الرسمي وتخبّط التنظيمات تفشل تجربة الأحزاب التي تترنّح تحت وطأة تكتيكات تجريبية، تشريعات حكومية مقيّدة ومخاض داخلي. يفاقم هذا الملف تعقيد التركيبة المجتمعية وسط تداخل الطبقات والفئات الاجتماعية مع خط العشائرية، ما أفرز هويات فرعية على حساب وحدة النسيج ومبدأ الهوية الجامعة. كذلك تتأثر التجربة الحزبية بغياب الموارد الذاتية وعدم حسم مفهوم المواطنة. يرى نشطاء حزبيون ومسؤولون سابقون أن الانتخابات التشريعية أواخر العام الماضي دقّت المسمار الأخير في نعش التجربة الحزبية، مستشهدين بإخفاق التعبئة الحزبية في حصد أكثر من ستة مقاعد ذهبت إلى جبهة العمل الإسلامي. خبراء في الشأن الحزبي يرصدون تسارعاً في المنحى الهبوطي للأحزاب بعد سنوات قليلة على انطلاقة 1989، نقطة التحول الديمقراطي التي شهدت أول انتخابات تشريعية عامة منذ 1967. كان على الأحزاب انتظار ثلاث سنوات قبل أن تسنّ حكومة المرحوم الأمير زيد بن شاكر أول قانون ناظم للحياة الحزبية، بالارتكاز إلى مسوّدة وضعها سلفه طاهر المصري، الذي ظل أشهراً معدودة في الدوار الرابع. خاضت التنظيمات تلك الانتخابات «جهاراً، نهاراً»، لأول مرّة منذ خريف 1956 حين سيطرت أحزاب يسارية وقومية على المجلس النيابي آنذاك. السيطرة الحزبية قبل خمسة عقود شكلّت رافعة استثنائية لتكليف زعيم «الحزب الوطني الاشتراكي» سليمان النابلسي بتشكيل أول وآخر حكومة حزبية في البلاد. منذ ذلك الوقت، تراجعت مساهمة الأحزاب في الحياة السياسية حتى بعد إعادة الشرعية إليها مطلع العقد الماضي. «ثمّة ضبابية في الخطاب الرسمي. وهناك انطباع بسلبية النتائج رغم الحديث الإيجابي عن تنمية الحياة الحزبية»، يشكو وزير التنمية السياسية السابق محمد العوران (2006 - 2007). العوران القادم من رحم الأحزاب يقول أيضاً: «كنت أطمح أن تكون الوزارة حلقة وصل بين المجتمع بفئاته كافة وبين الحكومة». ويضيف أمين عام حزب الأرض العربية (قومي): «كنت أتوقع أن تحتضن وزارة التنمية السياسية (تعاقب عليها 6 وزراء منذ استحدثت قبل 5 سنوات) ملف الأحزاب حتى نعمل معاً لتطوير التجربة. لكن تعدد المرجعيات وتشابك القرارات أفشلها». ويقول الوزير العائد إلى قواعده الحزبية: «كنا نرغب في اختزال عددها. لكن للأحزاب مرجعية أخرى» في إشارة إلى وزارة الداخلية وغيرها من المؤسسات الرسمية. «وإذا لم نستطع تنظيم العمل الحزبي وتحديد المرجعية وسن قوانين ناظمة، فالباقي سواليف لا تختلف عن حكايا الصالونات السياسية في عمان. «زهقنا من الصالونات السياسية»، يشكو العوران لـ «ے». «.. جريمة في حق الأردن» حين عدّل مجلس النواب السابق مضامين مشروع قانون الأحزاب العام الماضي، صرخ العوران- ممثل السلطة التنفيذية آنذاك: «هذه جريمة بحق الأردن». الوزير السابق انتفض محتجاً في غمرة نقاشات المجلس حين رفع أحد النواب يدّه ليضاعف الشرط العددي لترخيص الأحزاب من 250 إلى 500. يستذكر العوران سرعة التصويت برفع الأيدي على الاقتراح: «كان شيئاً مبكياً». الوزير السابق يرى تناقضاً حكومياً مع خطاب الملك «الذي يتكلم عن تطوير العمل الحزبي (..) في حين ما جاء في قانون الأحزاب تدمير لا تشجيع لها». جبر الخواطر؟ وزير التنمية السياسية، كمال ناصر، يؤكد من جانبه أن الحوارات التي فتحتها وزارته: «ليست لإلهاء الناس أو جبر الخواطر». «وضعنا خططاً طويلة، متوسطة وقصيرة الأجل، قد ينتج عنها أطر تشريعية، قانونية وعملية جديدة»، يضيف ناصر، الذي تعود جذوره التنظيمية إلى حركة فتح- العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية. وبينما يتوقع تعديل قوانين قائمة مثل الاجتماعات العامة بعد «استكشاف آراء الناس»، يؤكد ناصر: «ليس هناك تشريع مقدس- باستثناء الدستور مصدر السلطات». ويرفض ناصر الفرز بين صلاحيات الداخلية والتنمية السياسية. «حديثنا يتسم بالمصداقية والجدية، وليس مجرد حوار. نحن مأمورون بموجب الخطاب الملكي- حكومة واحدة - بغض النظر عن المرجعية- معنية بتطوير الأحزاب وتعزيز روح الحوار». الانتخابات التي أفرزت مجلس النواب الخامس عشر أطلقت رصاصة الرحمة على تنمية الحياة الحزبية باستخدام سياسة «خطوة إلى الأمام، خطوتين إلى الخلف» على امتداد العقدين الفائتين. فلم يدخل المجلس من الحزبيين المعلنين سوى ستّة نواب عن جبهة العمل الإسلامي، بنتيجة الاستهداف الرسمي لها، ومجريات العملية الانتخابية التي شكك المركز الوطني لحقوق الإنسان بنزاهتها. فيما انهارت التحالفات اليسارية والقومية العربية قبل الانتخابات. وصل النكوص اليساري إلى حد إحجام الأحزاب عن تسمية مرشحيها علناً لكي لا تتأثر فرصهم داخل العشيرة، أو دعم ترشيح شخصيات صديقة مستقلة. وزير التنمية السياسية الأسبق، صبري ربيحات، يربط بين ابتعاد الطرفين؛ الحزبي بلغته الهجومية، والحكومي بلغته الدفاعية عن الخطاب الوسطي، معتبراً أن المقاربتين «تنفران الأردنيين من التنظيمات السياسية». ويرى ربيحات أن من أبرز معوقات العمل الحزبي «مشكلة الثقافة المجتمعية التي تجعل غير الحزبيين يترددون في الانضمام إلى أحزاب صورتها غير جذابة وخطابها مصاغ بعقلية الخمسينيات، تماماً مثلما هي العقلية الأمنية التي ما زالت أسيرة هواجس ثقافية تعود للحقبة نفسها». يدافع ربيحات، الذي يرأس حالياً مركز دراسات «الجنوب والشمال للحوار والتنمية»، عن الجهود التي بذلتها وزارة التنمية السياسية في عهده (2005-2006) لا سيما في شأن إعداد تشريع لتنظيم العمل الحزبي. ويستعرض ما يعتبره ميزات مسودة القانون التي تم التوصل إليها وفي مقدمتها «عدم جواز ملاحقة الحزبيين بسبب انتماءاتهم السياسية، السماح للأحزاب باستخدام الإعلام الرسمي للتعريف بمواقفها، تمويل الأحزاب من موازنة الدولة، خفض سن المؤسس إلى 21 سنة، انتماء مؤسسي الحزب إلى خمس محافظات (على الأقل) حتى يكون لدينا أحزاب وطنية». غير أن رفع عدد المؤسسين واشتراط أن تكون إقامتهم في خمس محافظات مثلاً يمثل نقطةً خلاف مع الأحزاب. كان التحول الصعودي المؤقت بدأ عام 1989. في انتخابات ذلك العام هيمن الإخوان المسلمون- الذين ظلّوا خارج دائرة الحظر 35 عاما- على 22 من مقاعد المجلس النيابي الثمانين آنذاك. نسبة نجاح مرشحي الإخوان تجاوزت 85 بالمئة من الذين خاضوا المعركة، ثم انخفضت إلى النصف عام 1993 ف 55 بالمئة عام 2003 نزولا إلى 27 بالمئة في الانتخابات الأخيرة. هذا التراجع ليس معزولاً عن قانون الانتخاب المعدل. هذا القانون دفع تكتل الأحزاب الإسلامية واليسارية إلى مقاطعة انتخابات 1997 احتجاجا على اعتماد قانون «صوت واحد لكل ناخب» بدلا من تعدد الأصوات الذي كان معتمدا قبل انتخابات 1993. أما أحزاب اليسار والقومية العربية فسجّلت عام 1989 صعوداً ذهبياً في العلن يحاكي، إلى حد ما، ذروة إنجازاتها في انتخابات 1956، حين كان المد القومي والشيوعي في أوجه. إذ حصد هذا اللون 12 مقعدا، أي 16 بالمئة من المجلس النيابي، فيما سيطر تيار الوسط أو مقربون من السلطة على 40 بالمئة من المقاعد. تلك الانتخابات دشّنت مرحلة من الانفتاح الديمقراطي الفعلي بالتزامن مع تجميد ثم إلغاء الأحكام العرفية- بعد 22 عاماً من اعتمادها. بعد سنتين صدر الميثاق الوطني، وتبع ذلك سلسلة تشريعات ليبرالية مثل قانون الأحزاب السياسية عام 1992، المطبوعات والنشر ومحكمة العدل العليا 1993. آفاق التحول الديمقراطي، بدت في تلك الأجواء واعدة. إذ عمدت أحزاب المعارضة السرية - اليسارية والقومية- إلى تكييف أوضاعها مع «العقد الاجتماعي الجديد»، فيما انخرطت نخب من كبار رجالات الدولة، أمثال عبد الهادي المجالي، عبد الرؤوف الروابدة، عاكف الفايز، مجحم الخريشا وآخرين في تأليف أحزاب جديدة. سرى انطباع في تلك المرحلة بأن «الحزب السياسي يشكّل ممراً إجبارياً نحو ممارسة العمل العام وتحقيق الطموح السياسي» بحسب استخلاص أمين عام حزب اليسار الديمقراطي موسى المعايطة. لكن فرض قانون الصوت الواحد قبل عام على توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل في خريف 1994، قلب الموازين، وجمّد إنجازات الانفراج الديمقراطي عند تلك الحدود. ثم ما لبث أن شق التراجع طريقه تدريجياً. الوسط يجتاح الساحة على أبواب انتخابات 1997، سعت تسعة أحزاب وسطية- موالية للسلطة- إلى إحداث توازن مع جبهة العمل الإسلامي، فاندمجت في حزب سياسي واحد باسم «الوطني الدستوري». لكن مقاطعة الإسلاميين للانتخابات أفقدت الوسط فرصة التحول إلى حزب للدولة. وغادر هذه التجربة منظروه الأوائل تباعاً، وكان آخرهم رئيس الحزب عبد الهادي المجالي، الرئيس المخضرم للمجلس النيابي. في الأثناء، تواصلت «مظاهر نظرة الشك والتشكيك» الرسمية بالأحزاب السياسية. واستمرت معها «أيضاً مظاهر التضييق على الأحزاب السياسية»، وفق تشخيص لجنة الأحزاب المنبثقة عن الهيئة الوطنية لـ «الأردن أولاً» التي تشكلت بمبادرة ملكية. أزمة الأحزاب السياسية الأردنية «مزدوجة»، أحد طرفيها التنظيمات السياسية نفسها التي لم تنجح في التحول إلى قطب له مكانته في صناعة القرار الوطني، بحسب القيادي الحزبي موسى المعايطة. في الطرف الآخر، تقف الحكومات التي «لم تعبر عن إرادة سياسية في تمكين الأحزاب من أن تصبح الإطار الطوعي للمشاركة السياسية». يفترض أن يصبح هدف الحزب المعترف به «الوصول إلى أكثرية نيابية بغرض تشكيل حكومة أو المشاركة فيها»، وفق التعريف الذي تبنته اللجنة الملكية للأجندة الوطنية. هذا التوصيف لا ينسجم مع قانون الأحزاب. بموجب دستور 1952، «الملك يعين رئيس الوزراء ويقيله ويقبل استقالته، ويعين الوزراء ويقيلهم ويقبل استقالتهم بناء على تنسيب رئيس الوزراء». ثمّة سدود تشريعية أمام تطبيق توصيف الأجندة الوطنية. من بينها قانون انتخاب يحابي الانتماء العشائري والعائلي والديني والجهوي والإثني على حساب التفاعل الحزبي والبرامجي. ثم قانون اجتماعات عامة، وظيفته منع الاجتماعات أكثر من السماح بها، وقانون أحزاب، غرق مشرّعوه- بدءاً بالحكومة وانتهاء بمجلس الأمة- في وهم أن رفع عدد المؤسسين من 50 عضواً إلى 500 عضو سيكون البلسم الشافي للمعضلة الحزبية. على أن الأحزاب ذاتها بشتى تلاوينها، تعزف عن الأخذ بمبدأ المراجعة أو ما يسمى في الأدبيات اليسارية: النقد والنقد الذاتي، وتخشى من التجديد في رؤاها وخطابها، كما في حياتها التنظيمية. الانسحابات والانشقاقات وعمليات الفصل هي المظهر الأبرز إن لم يكن الوحيد للحراك الداخلي. الجمود و»اللغة الخشبية» أفقدا الأحزاب عنصر الجذب وبالذات لدى الأجيال الشابة. فيما المعارضة «الأبدية» جعلت بعض الأحزاب نمطية وأضعفت قدرتها على التأثير. بين الانتشار الهادر منتصف القرن الماضي والعمل السري على مدى ثلاثة عقود ورفع الحظر، تتأرجح الحياة الحزبية بين قوالب جامدة وخطاب رسمي مزدوج. |
|
|||||||||||||