العدد 15 - ثقافي | ||||||||||||||
عدنان مدانات إحدى العادات التي صارت متأصلة عند مشاهدي الأفلام الأميركية في صالات السينما العامة في بلادنا هي التمتع بشرب كأس مصنوع من الورق المقوى مليء بالكولا في أثناء مشاهدة الفيلم، وبالتوازي مع التهام حبات الذرة المحمصة (البوشار/البون كورن). وهي عادة مستوردة من صالات السينما الأميركية، بحيث صار من الممكن الإقرار بوجود علاقة وطيدة ومتلازمة ليس فقط بين مشاهدة الأفلام واحتساء الكولا، بل أيضاً بين الأفلام والكولا. لا تقتصر العلاقة بين الأفلام الأميركية والكولا على تلك العادة الرائجة. فالأساس في هذه العلاقة أن الأفلام تتشابه مع مشروب الكولا الغازي في كونهما منتَجيْن، على ما بينهما من اختلاف، ساهم كل منهما، بطريقة أو بأخرى، في الترويج للأيديولوجيا الأميركية، وفي التمهيد «لعولمتها» عبر مسيرة تاريخية طويلة. وهما منتجان تزداد أهميتهما، بخاصة في العصر الحالي الأحادي القطبية، حيث السينما الأميركية هي المهيمنة على سوق العروض السينمائية في أرجاء العالم كافة، وكذلك على عروض الأفلام في سائر الفضائيات التلفزيونية العالمية، وحيث مرطبات الكولا، توزع، تقريباً، في كل مكان، ومصانع إنتاجها الفرعية تنتشر في بلدان آسيا وأفريقيا ذات العمالة الرخيصة، وحيث يجري تجنيد نجوم السينما والغناء، مثل: الممثل المغني المصري عمرو دياب، والمغنية اللبنانية نانسي وغيرهما، للدعاية لمشروب الكولا عبر شاشات التلفزيون والملصقات الدعائية المعلقة في أرجاء المدن. لهذا كان من البديهي، في ظل تحميل أميركا جزءاً كبيراً من المسؤولية عن احتدام الصراع في الشرق الأوسط وتفاقم الأوضاع في فلسطين المحتلة، وما تلا ذلك من الغزو ثم الاحتلال الأميركي للعراق، وما تسبب به هذا الغزو والاحتلال في تزايد مظاهر الغضب في أوساط الرأي العام العالمي، أن يكون جزءاً من التعبير عن هذا الغضب المطالبة بمقاطعة البضائع الأميركية، والكوكاكولا كأحد رموزها، وأن تمتد هذه المطالبة لتشمل صناعة السينما الأميركية، الرمز الآخر الأكثر شهرة عالمياً والأشد فعالية في تأثيرها على العقول والنفوس والأخلاق. هذا الحجم الدولي الشمولي للغضب عكس نفسه في مطالبة عالمية، وفي أوقات متفاوتة، بمقاطعة البضائع الأميركية ومن ضمنها السينما، وهي مطالبة غير مسبوقة في نوعها ومدى اتساعها وجديتها، تستدعي، بطبيعة الحال، التفكر في إمكانياتها والبحث عن آليات لتنفيذها. في مقارنة أولية بين الكولا والسينما، يمكن القول إن الكولا مجرد مشروب منعش، موسمي، مفعوله آني ولا يدوم طويلاً، ترتبط الحاجة إليه بفترات الطقس الحار، في حين أن السينما، بخاصة في صيغتها الجماهيرية الشعبية، منتج ترفيهي، مفعوله تاريخي تراكمي، يصيب العقل والعاطفة والأخلاق والسلوك، يدوم طويلاً ويحفر عميقاً في الوعي العام العالمي بجوانبه المختلفة، ومنها السياسية والثقافية. من هذا الفهم لدور ومهام السينما الأميركية الشعبية الجماهيرية يحق لنا القول إنه إذا كانت المطالبة بمقاطعة البضائع الأميركية، بشكل عام، قد تنشأ نتيجة مواقف «سياسية» بالدرجة الأولى، فإن المطالبة بمقاطعة السينما الأميركية، تطرح علينا، من حيث المبدأ مجموعة من الأسئلة، منها السؤال حول: كيف يمكن أن تتحول القناعة أو الوعي السياسي، إلى قناعة أو وعي ثقافي فني ينتج عنه رفض لخصائص منتجات السينما التجارية الأميركية التي يلخصها التعبير الشائع عالمياً «السينما الهوليودية» التي تؤكد كل التحليلات أنها تنتج وتعمم ثقافة العنف والجنس والقيم الفردية، وإلى تقبل السينما الأخرى غير التجارية، السينما الفنية الطابع، الإنسانية المضامين، التي ترقى بعقول و أذواق وأحاسيس المشاهدين حتى ولو كان هذا التقبل مجرد نتيجة لموقف وقناعة سياسية وليس فنية جمالية، ومن ضمن هذه السينما عدد لا بأس به من الأفلام الأميركية، ومنها السؤال حول: كيف يمكن لهذه المواقف السياسية المتضامنة فيما بينها أن تتحول إلى نوع من التضامن السينمائي الرديف مع الأفلام السينمائية التي تنتجها الشعوب الأخرى المتضامنة سياسياً، بحيث مثلا، تقوم التظاهرات الحاشدة التي تطالب بمقاطعة السينما الأميركية نتيجة غزو الجيش الأميركي للعراق، بجعل مطالبها هذه أكثر دقة وأكثر إيجابية على المدى الطويل، فتتحول إلى مطالبة بعرض الأفلام التي تنتجها دول أخرى، على الأقل بهدف الكيد لأميركا، أو من منطلق التضامن مع دولة آسيوية تتحدى أميركا وتتعرض للخطر بسبب ذلك، أو الأفلام التي تنتجها دولة متعارضة مع أميركا مثل الصين الشعبية، التي قد تفاجأ الجماهير بأنها ليس فقط تنتج أفلاماً عالية القيمة فناً وفكراً استحوذ منذ بضع سنوات على أهم وأفضل الجوائز من المهرجانات السينمائية الدولية، بل وتنتج كماً كبيراً من الأفلام العميقة المضمون التي تضاهي أفلام هوليوود من ناحية الترفيه والتشويق وتقنيات الإثارة البصرية. هناك، أخيراً وليس آخراً، السؤال الأكثر ارتباطاً بقضايانا القومية كعرب والمتعلق بضرورة تحقيق التضامن العربي، وما يتشعب عنه من المطالبة بتحقيق التكامل الاقتصادي العربي، هذا السؤال الذي نفترض أن على الوعي السياسي الوطني القومي أن يجعل من الممكن محاولة تطبيقه في مجال السينما عبر التعميم، والتوزيع والعرض المتبادل للأفلام السينمائية العربية المنتجة في أقطار الدول العربية المختلفة العربية، من المحيط إلى الخليج، سواء في صالات العروض الجماهيرية أو من خلال شاشات التلفزيون، بحيث تكون عروض الأفلام العربية أحد البدائل عن غياب الأفلام الأميركية عن شاشات العرض فيما لو نجحت فكرة المقاطعة. لكن الواقع شيء والتمنيات شيء آخر. والحديث عن مقاطعة الأفلام الأميركية، والذي يتكرر بين كل أزمة وأخرى نتيجة فورة غضب وانفعال آنيين، ونتيجة العجز عن قراءة معطيات الواقع بشكل سليم والجهل بواقع السينما نفسها، يظل نوعاً من التمنيات غير القابلة للتحقيق، ليس فقط لأن الأفلام الأميركية هي نتاج صناعة متكاملة تهيمن على سوق العرض والتوزيع العالمي وتدعم هذه السوق بآليات دعاية وإعلام شديدة الجاذبية، ولأن ثقافة الجماهير العريضة السينمائية تقتصر على ما تعلمته منها، بل أيضاً، وبشكل أساس، لأن الأذواق السينمائية الجماهيرية التي تربت وفقها لا تتقبل الأنماط السينمائية المغايرة. ليست كل الأفلام الأميركية سيئة من الناحية الأيديولوجية. هناك أفلام تعادي النظام الأميركي الرأسمالي على نحو أكثر جرأة مما نفعل نحن، وتتوافر على نقد للسياسات وللممارسات وللمفاهيم التي تروج لها أميركا، أفلام تنتقد الحكام، ومن ضمنهم الرئيس، وتفضح المخابرات المركزية الأميركية ودورها في دعم الأنظمة الديكتاتورية في أميركا اللاتينية، وتدين حروب أميركا، كما حصل بالنسبة لحربها ضد فيتنام سابقا وأفغانستان والعراق حاضراً، وتكشف عيوب المجتمع الأميركي، وتهزأ من الحلم الأميركي ونموذج البطل الأميركي الفرد. وهي أفلام يقف وراء إنتاجها سينمائيون تقدميون، إنسانيو النزعة، يفرضون أنفسهم، بطريقة أو بأخرى، من خلال آليات الإنتاج التقليدية لشركات هوليوود الكبرى المهيمنة، على صناعة السينما الأميركية، أو عبر الإنتاج الخاص الذي بات يعرف تحت مسمى «السينما المستقلة»، مستندين إلى موهبتهم وإلى رؤيتهم الخاصة وتفكيرهم المستقل. مع ذلك يمكن ملاحظة أن حتى رواد الصالات التي تعرض مثل هذه النوعية من الأفلام، وحتى هواة السينما المعادون للنظام الرأسمالي الأميركي والذين يبحثون عن الأفلام ذات المضمون التقدمي، أو السياسي اليساري الانتقادي، لا يستطيعون التخلص من هذه العادة، فتراهم يشاهدون الأفلام وهم يمسكون بعلب الكولا بين أيديهم، ويتفاعلون مع الأحداث، فيما هم يرتشفون ما فيها. |
|
|||||||||||||