العدد 15 - أردني | ||||||||||||||
عمّان –جمانة غنيمات: ضخّت اّلحكومات المتعاقبة مئات الملايين في عشرات البرامج والمشاريع لمكافحة العوز لكّن الفقراء يزدادون فقراً فيما تتآكل الطبقة الوسطى أمام عشوائية التخطيط، وتغليب مبدأ توزيع الإعانات على حساب تأهيل المواطنين لولوج سوق العمل وزيادة الإنتاجية. ويتحدث خبراء اقتــصاد عن خلــل في إدارة ملفات الفقر وتشوهات في التخــطيط فضــلا عن ضعف التنسـيـــق بين دوائر ومؤسسات الدولة، وغياب قاعــدة بيانات متحركة لرصد الثغرات ومعالجتها. تركيز السياسة الاقتصادية على الأرقام وسّع الفجوة بين «النمو» و»التنمية» وبالتالي انسحقت شرائح ذوات مداخيل منخفضة ومحدودة وانزلق العديد منها تحت خط الفقر، لا سيما أخيرا مع رفع الدعم وزيادة أسعار المحروقات. عدالة توزيع الدخل بين أفراد المجتمع الأردني تراجعت بين 2002 و2006. إذ أن المعامل الجيني – الذي يقيس درجة العدالة في توزيع إجمالي الدخل - ارتفع من 0.391 إلى 0.399 في تلك الفترة، علما أن سلمه يتراوح بين صفر وواحد. أظهرت نتائج مسح الدخل ونفقات الأسرة أن «التركيز على المؤشرات الاقتصادية زاد الهوة بين الطبقات الاجتماعية» التي صنفها المسح إلى عشر شرائح بحسب دخلها السنوي. وجد المسح أن 10 بالمئة من الأسر الأردنية – المقدرة بمليون و70 ألفا- تحصل فقط على 2.6 بالمئة من إجمالي الدخل. في الطرف الآخر من السلم، تستحوذ الشريحة العليا على 30.2 بالمئة من إجمالي الدخل الأسري في المملكة. الفجوة في ازدياد. يرجع نشطاء في العمل التنموي الإخفاقات في سياسات مكافحة الفقر إلى غياب إستراتيجية موحدة، اختلاف المنهجيات وتعدد المرجعيات، قصر أعمار الحكومات وإتباع سياسات عشوائية تعتمد أسلوب التجريب. والأهم من ذلك «عدم إيمان القائمين على محاربة الفقر بأهمية تقليص المشكلة»، بحسب وزير تنمية اجتماعية أسبق. ويرى الوزير الأسبق أن «محاربة هذه الآفة التي تتضاعف ككرة ثلج منذ عقود، تحتاج إلى عمل جدي» مستحضرا تحليلات تشير إلى أن محاربة الفقر تتجاوز «توفير الأمن الغذائي إلى بناء ركيزة أساسية في حلقات الأمن الشامل». كذلك «يتطلب وجود مجسات تتحسس مشاكل الشعب وتضع مشكلة الفقر بحجمها الحقيقي». مسؤولون حكوميون يشددون على أن البرامج لا تستهدف مكافحة الفقر حصراً بل «تخفيف تأثيره على الفقراء». ويرى أحد المسؤولين «أن مشكلة بهذا الحجم تحتاج إلى خطط شاملة لمراجعة أداء الاقتصاد الوطني بهدف تحقيق النمو الاقتصادي وزيادة حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي». حكومة جديدة وملفات قديمة تأتي حكومة نادر الذهبي على كومة أوراق واستراتيجيات تركتها حكومات سابقة بعد أن أخفقت في حصر المشكلة وحسرها. مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية إبراهيم سيف يقول إن «التوسع في الإنفاق والاقتراض حتى نهاية الثمانينات ساهم في إدراج الأردن ضمن دائرة الدول التي تعاني من الفقر». وأدت تلك «السياسات إلى انفجار مشاكل كثيرة بعد أزمة 1989 أثقلت الاقتصاد بمديونية ضخمة، البطالة، الفقر، تدني مستوى الدخل وارتفاع معدلات التضخم». عام 1982، أظهرت دراسة للبنك الدولي أن «الأردن يخلو من الفقراء». على أن خبراء اقتصاد يشككون في ذلك الاستنتاج. ثم وقعت حرب الخليج الأولى 1991 لتفاقم المشكلة بالتزامن مع تدفق زهاء 400 ألف مغترب في الكويت وسائر دول الخليج، ما رفع «معدلات الفقر والبطالة وأدى إلى تدني مستوى معيشة المواطن». سيف يؤكد أن» المشكلة اتجهت للتفاقم مع بدايات العقد الحالي نتيجة عدم انعكاس نتائج النمو على المستوى المعيشي أحيانا، وتعثر سياسات الإصلاح أحيانا أخرى». ويوضح أن النمو المتحقق لم يوفر فرص عمل للفقراء، كما أن الدخل لم يتوزع بعدالة بل على العكس تآكلت القيمة الشرائية للأجور والمداخيل بسبب ارتفاع معدلات التضخم، ما انعكس على شرائح معينه، دون أن تتحسن الانتاجية. بحسب مسح العمالة والبطالة (الجولة الثالثة 2007) تتراوح أجور 75 بالمئة من القوى العاملة (زهاء مليون و300 ألف) بين 100 و300 دينار شهريا. وقدّرت نسبة المشاركة الاقتصادية في عجلة الاقتصاد ب 37 بالمئة فقط حتى الربع الثالث من العام الماضي. (المشاركة الاقتصادية الخام: مجموع السكان مضروب بقوة العمل مقسوما على مجموع السكان مضروبا ب 100 بالمئة). وزير تنمية اجتماعية أسبق يرى أن «المواقف الشخصية من البرامج، تلعب دورا في نجاحها أو إخفاقها» لافتا إلى غياب «أسس ثابتة للعمل تنبع من مواطنة حقيقية تحمل هم الفقراء وتتبنى القضية للتخفيف منها». ويقول المسؤول الذي طلب عدم نشر اسمه: «منذ برنامج التحول الاقتصادي والاجتماعي (2002-2005) لم يتوفر برنامج محلي لمعالجة هذه الظاهرة». وهو يرى أن الهجوم الذي انصب على ذلك البرنامج، الذي رعاه وزير التخطيط آنذاك باسم عوض الله، «كان شخصيا برغم مساهمته في الارتقاء بمستوى الخدمات». نائب سابق يعارضه في الرأي. إذ يؤكد أن «الانتقادات التي وجهت للبرنامج نبعت من أن آلية الإنفاق لم تراع البعد الجغرافي والاحتياجات الحقيقية للمحافظات المختلفة. كما أن البرنامج لم يساهم في تقليص نسب الفقر والبطالة وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين». نتائج تقييم ذلك البرنامج لم تر النور حتى الآن فيما تبرز شكوك حول نوعية الجهات التي استفادت من ذلك المشروع الضخم، يتساءل النائب السابق. وكان أعضاء في مجلس النواب السابق تحركوا لمساءلة القائمين على ذلك البرنامج الذي كلف خزينة الدولة مليار دولار، إلا أن محاولات النواب باءت بالفشل. وزير سابق وضع العديد من الدراسات في مجال الفقر وأمضى سنوات في العمل التنموي يحذر من سلبيات «كثرة الحديث عن معالجة الفقر بعيدا عن خطط وبرامج واقعية، ما يرفع توقعات الناس التي تصطدم في نهاية المطاف بضعف النتائج وتنعكس على المزاج العام للشارع». الجهة الوحيدة التي تتبنى برامج للتخفيف عن الفقراء في الوقت الحالي بحسب الوزير، القيادة السياسية العليا. وزير سابق آخر متابع لملف الفقر يقول: «لا بد من إزالة التشوهات المرتبطة بإدارة هذه المشكلة في هذه المرحلة الصعبة» مشيرا إلى أن «المنافسة بين وزارتي التخطيط والتنمية الاجتماعية على تولي الملف بعمق المشكلة». «التخطيط المركزي» من وجة نظر الوزير «لم يعد موجودا» لذلك فإن «إسناد ملف الفقر إلى وزارة التخطيط يضعف النتائج». ويؤكد أيضا أن «تشتت الجهود وضعف التنسيق يلقي بظلاله على محاربة الظاهرة ويضعف فرص إحراز نتائج ايجابية». ويطالب الوزير باعتماد «مرجعية واحدة تعنى بالفقراء لتسهيل قياس الأثر»، سيما أن «مشكلة الفقر متشعبة»، كما شدد على إخضاع هذه الجهة للمحاسبة والمساءلة. أمين عام وزارة التخطيط والتعاون الدولي ناصر الشريدة يقول «إن وزارة التخطيط تعنى بمشاريع الفقر التنموية التي تنعكس على مستوى معيشة الفقراء وتؤسس لرفع القدرات المؤسسية لهذه المجتمعات». لكن وزارة التخطيط تنفذ برنامج تعزيز الإنتاجية الاقتصادية والاجتماعية الذي «خصص لتقييمه هذا العام مبلغ 750 ألف دولار»، بحسب مصادر في الوزارة انتقدت هذا الإجراء وتقول «كان من الأجدى إنفاق هذه المبالغ على مشاريع تنموية» . تلك المصادر تؤكد أن «الوزارة أوقفت العمل في جميع المشاريع لحين الانتهاء من التقييم ومنها المشروع السياحي في منطقة الأزرق» فيما نفى ذلك مدير برنامج تعزيز الإنتاجية والاقتصادية في الوزارة عادل بصبوص. أما وزيرة التنمية الاجتماعية هالة لطوف فتقول إن «مكافحة الفقر من أهم ادوار وزارتها». وتضيف: «حاولت أن اقوي وأعطي وقتا أطول لمشاكل الفقر ورعاية الفئات الأضعف». وتجادل لطوف أن «الفقر مشكلة مجتمع وليس وزارة ومن الضروري أن تتكاتف الجهود للتصدي لها». أردني بين كل 20 جائعا قدرت دراسة برنامج الأغذية العالمي لعام 2005 بان عدد الجوعى في الأردن يقدر ب 60.000 أسرة، أي زهاء 300 ألف أردني. برسم المقارنة، ثمّة أردني جائع من بين 20 أردنيا في بلد يقدر عدد سكانه بخمسة ملايين و800 ألف نسمة. «تعدد الجهات الرسمية المنوط بها مكافحة الفقر يشكل، في نظر لطوف، "تنوعا ضروريا للإحاطة بجوانب المشكلة كافة"، لكنّها تدعو إلى تكثيف التنسيق "بين هذه الجهات، لمنع الازدواجية والتداخل". تعكف وزارة التنمية حاليا على تطوير إستراتيجية لمكافحة الفقر شعارها "لا طريق إلا للأعلى" وهي "تقوم على ايلاء التنمية الاجتماعية أهمية التنمية الاقتصادية"، بحسب لطوف. البرنامج الجديد يستند إلى استراتيجيات سابقة نفذتها الوزارة، عبر الاستفادة من ثغرات نتجت أثناء تطبيقها والتركيز على دعم المشاريع الإنتاجية للأسر الفقيرة، حسبما تشرح لطوف. يستهدف البرنامجي الجديد "تعزيز رعاية الفئات الضعيفة وحفظ حقوق الأفراد، فضلا عن الدور الإنمائي والايجابي في التعامل مع الأحداث في دور الرعاية الاجتماعية". العمل التنموي موسى الصيفي يرجع من جانبه ضعف نتائج برامج مكافحة الفقر إلى "غياب إستراتيجية وطنية خمسية ملزمة ينتظمها توزيع أدوار بين المؤسسات الحكومية، الجهات المانحة ومنظمات المجتمع المدني". ويرى الصيفي أن "نجاح الخطط والاستراتيجيات يلزمه "تنسيق بين جميع الجهات لإيجاد مرجعية واحدة للعمل تعتمد بالأساس على توافر قاعدة بيانات". يعلل الصيفي ثبات نسب الفقر "بتعدد المنهجيات وتغيرها من حكومة إلى أخرى" مشددا على أن معالجة الفقر "تعتمد على التجريب والصواب والخطأ". "تخفيف دائرة العوز بحاجة إلى توحيد جهود العمل التنموي" يقول الصيفي الذي يرى أن الجهد الوطني "مشتت". إلى ذلك يؤكد أن إحراز نتائج في المجتمعات المحلية يتطلب "تغيير عقلياتها من متلقية للدعم إلى منتجة" تدير مشاريعها وفق مبدأ الربح والخسارة. يحذر الصيفي من "تكاثر جيوب الفقر والمناطق الفقيرة" في حال تواصل السياسات العشوائية، كما ينبه إلى تراجع الطبقة الوسطى وانزلا ق العديد من الأسر تحت خط الفقر نتيجة سياسات ستدفع معدلات التضخم إلى 9 % في عام 2008. ويرى أيضا أن "المؤشرات الاقتصادية تنعكس على العمل التنموي فبعض المشاريع أصبحت ضعيفة الجدوى مثل إنشاء مخبز وتربية أغنام، نتيجة ارتفاع تكاليف التشغيل". "منع انزلاق أفراد تحت خط العوز يحتاج إلى شبكة أمان اجتماعي حقيقية، تخفف الأثر الاجتماعي السلبي للسياسات الاقتصادية الحكومية" يقول الصيفي. ويلوم الصيفي القطاع الخاص معتبرا أنه "يتهرب من دوره التنموي بسبب فهمه الخاطئ عن دور الجمعيات". وكان الملك عبد الله الثاني خصّص عشرة ملايين دينار، لإنشاء مشاريع ريادية في مناطق جيوب الفقر، على مرحلتين بدأت الأولى في حزيران/يونيو 2005 فيما تنطلق الثانية في آذار/مارس 2006. تأخير انجاز مشاريع يعلّل الصيفي تأخر انجاز مشاريع جيوب الفقر مدة تسعة أشهر عن موعدها المحدد في تشرين أول/أكتوبر 2007 بـ الروتين وضخامة المبالغ المالية وتحديدها بمشروع واحد فقط في كل جيب من جيوب المرحلة الأولى. وزارة التخطيط المشرفة على المشروع خصصت في المرحلة الأولى 350 ألف دينار لكل من مشاريع الجيوب العشرة. لكن الوزارة، بحسب الصيفي، تنبهت لهذه المسالة في المرحلة الثانية وسمحت بتوزيع المبلغ على أكثر من مشروع لاسيما معتبرا أن توزيع المخصصات على عدة مشاريع يحقق أثراً ايجابياً أسرع على المجتمعات المحلية ويقلل نسب المخاطرة. الصيفي متفائل بنتائج أفضل في مرحلة "جيوب الفقر 2" وهو يتوقع الانتهاء من المرحلة الأولى والثانية في آن واحد نهاية أيلول المقبل. الخبير الاقتصادي يوسف منصور يرى أن برامج "الفقر لا تحل المشكلة بل تخفف منها وتعمل عمل المسكنات فقط". ويستعرض منصور جملة سياسات "فاقمت" مشكلة الفقر، رفعت عدد الفقراء وعتبة الفقر، التي يشكّك في تقديرها حول 504 دنانير للفرد سنويا. تشكيك في تقدير عتبة الفقر يرتكز منصور في تشكيكه على مكونات سلة المستهلك، التي لم يعد النظر بها منذ سنوات. فما تزال السلة تقدر حصة إنفاق الفرد على المسكن بمعدل 5ر4 بالمئة فقط من إجمالي نفقاته. ويلفت إلى أن تحديد خط الفقر بدقه يحتاج وبشكل فوري إلى إعادة النظر في سلة المستهلك. منصور يعتقد أن عدد الفقراء ارتفع أخيرا بدلالة المعامل الجيني الذي يقيس الفجوة بين الفقراء والأغنياء وعدالة توزيع الدخل. ويبرر حكمه بسوء توزيع الدخل بين الأسر رغم معدلات النمو المرتفعة التي تراوح متوسطها خلال الفترة (2004-2007) 1ر7 بالمئة، الأمر الذي "يرسخ الطبقية في المجتمع ويولَد خللا مجتمعيا". الهوة الطبقية اتسعت نتيجة تركيز أرباب العمل على تحقيق أرباح بعيدا عن إحداث تنمية شاملة وعدالة توزيع المداخيل. يرجع منصور هذه المعادلة إلى سرعة تغيير الحكومات الأمر الذي يقلص فرص تنفيذ السياسات الحكومية. وزاد من تعقيد الأمر، بحسب منصور، "غياب مبدأ المساءلة والشفافية". أرقام كونية ودراسة محلية ثمة مفارقة في أن البنك الدولي درج على اعتماد نتائج مسح الدخل والنفقات الذي تجريه دائرة الإحصاءات العامة مرة كل خمس سنوات لتوصيف وتقييم الفقر في الأردن. دراسة البنك الأخيرة صدرت عام 2004 اعتمادا على مسح 2002. ويتوقع أن تعتمد الدراسة المقبلة على مسح 2006 التي لن تظهر تفاقم المشكلة خلال العام الحالي والماضي بعد رفع الدعم عن المحروقات. |
|
|||||||||||||