العدد 14 - دولي
 

د. محمد المصري

تصادف هذه الأيام الذكرى الستين لإعلان الوحدة العربية المصرية السورية (22/2/1958)، هذه الوحدة التي استمرت حتى 28/9/1961 وكانت علامة هامة في تاريخ المنطقة العربية. وقد أصبحت هذه التجربة نقطة مرجعية في إطار الفكر القومي العربي، ومادة غنية للحوار حول جدوى الوحدة العربية، ومفهومها، وإمكانياتها، لدرجة أنها أصبحت تمثل في وعي الشارع العربي تجربة الوحدة العربية التي شهدتها المنطقة العربية. إلا أن التاريخ الحديث والمعاصر لفكرة الوحدة العربية وتحقيق نماذج اتحادية في المنطقة العربية، يحتوي على نماذج أسبق من الوحدة المصرية السورية ونماذج تحققت مثل وحدة الضفتين (1950)، سيرورة وحدة الأراضي العربية السعودية عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. وحدة الإمارات العربية (1971) الوحدة اليمنية (1989).....وغيرها، ولعل ميلاد جامعة الدول العربية كان محاولة لكبح جماح قوى سياسية، تسعى لتحقيق وحدة عربية، وبخاصة النخب السياسية في العراق، والأردن، وسورية.

إن زيارة جديدة لسيرورة الوحدة المصرية السورية، تظهر أن هذه الوحدة لم تكن تعبيراً عن برنامج سياسي مد جذوره في الشارعين المصري والسوري، ولم تكن تعبيراً عن أولوية سياسية اعتمدها النظام المصري لتحقيق مبادئ سياسته العربية.

فتحقيق تلك الوحدة عكس الأزمة السياسية الداخلية في سورية منذ استقلالها (1945) وصراع النخب السورية التقليدية بين إرساء قواعد دولة وطنية سورية، أو الانخراط في برنامج وحدوي مع العراق أو الأردن. تخلل هذا الصراع بين النخب السياسية صعود قوى سياسية جديدة في سورية ،مثل الحزب الشيوعي بقيادة خالد بكداش، العربي الاشتراكي، البعث، الإخوان المسلمون. والأهم من ذلك هو زيادة النفوذ العسكري في السياسة السورية، حيث كان واضحاً منذ انقلاب حسني الزعيم 1949 أن الإدارة السياسية المؤسسة العسكرية، أو جزءاً منها تشكل عاملاً هاماً في التوجهات السياسية السورية على الصعيد الوطني ،كما في صياغة علاقاتها مع الدول العربية، وبالتالي مدى انحيازها لمشروع وجدوى هنا أو هنالك.

ولذا فإن الدينامية السياسية الداخلية في سورية خلال خمسينيات القرن الماضي، كانت يمكن أن تؤدي بسورية إلى تكريس الدولة الوطنية، ضد رغبات كثيرة من السياسيين القوميين ذوي البرنامج السياسي المرتبط بمشروع وحدة عربية، أو أن تدفع سورية نحو اندماجية مع العراق أو الأردن .مع وجود هذين الخيارين أمام النخب السياسية المدنية في سورية، فقد كان هذان الخياران مطروحين مع تنافس بينهما ضمن الضباط السوريين، الذين انغمسوا في السياسة بدءاً من أديب الشيشكلي، ومصطفى حمدون، وأمين الحافظ، وعفيف البزري.

إن السعي لوحدة سورية مع دول عربية، تحول منذ العام 1956 ليكون شعاراً للوحدة مع مصر تحت النظام الناصري دون غيره من الدول العربية. لقد قدم نظام عبد الناصر بعداً جديداً للقومية العربية قائماً على الحياد الإيجابي، ومواجهة قوى الاستعمار التقليدي عبر تأميم القناة وعبر حشد الدول العربية في مواجهة «أنظمة الدفاع»، وبخاصة حلف بغداد. الانتصار السياسي الذي حققته مصر في أعقاب العدوان الثلاثي، شكل إضافة نوعية لجماهيرية عبد الناصر في سورية والشارع العربي. وبذلك تحول اهتمام دعاة الوحدة العربية في سورية إلى مصر بالتحديد في ظل ضعف النخب السورية التي قادت سورية خلال فترة 1955-1958 ،وهي النخب التي حققت الاستقلال .كان قبول هذه النخب للوحدة مع مصر يحقق مجموعة من المصالح الهامة لها. أهمها عدم تحدي العسكريين بين ممثلين في المجلس العسكري والمكتب الثاني السوري(المخابرات)، عدم وقوع النظام السوري تحت سيطرة اليساريين والشيوعيين، استجابة لرأي عام مؤيد لعبد الناصر، عدم تحدي قوى سياسية جديدة أصبح لها وزن في الشارع السوري مثل البعث والقوميين.

إزاء هذه الحالة في سورية كان عبد الناصر الذي استطاع استخدام القومية العربية أو الدائرة العربية (حسب تعريفه) من أجل دفع الأجندة المصرية في المنطقة العربية أو علاقاته الخارجية، ليقف متحفظاً على الوحدة مع سورية، وكانت مخاوفه تتلخص بعدم وجود حدود مشتركة، وطبيعة الجيش السوري المسيس، واختلاف التجربة السياسية والاقتصادية لسورية عنها لمصر. ولعل الذي حسم رأي ناصر في قبول مبدأ الوحدة العربية هو التخوف من الخطر الشيوعي، سواء في مصر أو سورية، التخوف من سقوط سورية في المعسكر العراقي/ الأردني المناوئ لمعسكره، إضافة إلى إلحاح العسكريين السوريين على الوحدة.

ورغم أن القيادة المصرية كانت، إلى حد ما، واعية للفروقات ولمحاذير الوحدة مع سورية، إلا أنها، وخلال زمن قياسي، قد غيرت من أولوياتها وقبلت بمبدأ الوحدة مع سورية ضمن شروطها الخاصة، فرفضت مبدأ الاتحاد الفيدرالي الذي كان معروضاً من قبل السوريين، واشترطت وحدة اندماجية تامة بقيادة سياسية واحدة وحكم مركزي، كما اشترطت حل القوى السياسية كافة التي كانت هي، في الأساس، الداعية للوحدة. وبذلك تحقق مشروع الوحدة المصرية السورية ليكون أقرب لعملية إلحاق سورية في النظام المصري وتحويلها إلى تابع من شريك. أي أن الوحدة ضمت عناصر انفصالها في لحظة ولادتها. ومنذ بدايتها خلقت جبهة لمعارضتها من الحزب الشيوعي السوري إلى الإخوان المسلمين، ثم إلى عدم الرضا من قبل حزب البعث عن كيفية إدارة الوحدة مما أدى إلى انشقاقه في العام 1959،وعدم رضا بعض الضباط السوريين عن طريقة إدارة القيادة العسكرية المصرية للجيش. ومما زاد عناصر الانفصال محاولة تطبيق النموذج المصري، وبخاصة في الإصلاح الزراعي أو رأسمالية الدولة على بيئة اقتصادية أو اجتماعية، تختلف عن تلك التي في مصر. فالإصلاح الزراعي أو ضرب البرجوازية في مصر كان يعني شيئاً مختلفاً في سورية، التي كان نظامها الاقتصادي هو التعايش بين مزارعين يمتلكون مساحات زراعية صغيرة مع كبار ملاك.إضافة إلى أن كبار الملاك السوريين لم يكونوا مفصولين بالطريقة ذاتها في مصر –عن بقية المجتمع السوري-..

علاوة على ذلك، فإن الأغلبية العظمى من البرجوازية التجارية وكبار الملاك هم سوريون انخرطوا في العمل السياسي، وعبروا عن توجهات وطنية إبان الاحتلال الفرنسي خلافاً لما كان عليه الحال في مصر ،حيث أن البرجوازية المصرية وكبار الملاك المصريين الذين استهدفوا من قبل عبد الناصر كانت منفصلة عن بقية القطاعات الاجتماعية، وبعضها غير مصري. كما أن القوى السياسية في سورية التي أصبحت مناوئة لإدارة عبدالناصر أو للوحدة برمتها ،كانت مرتبطة بقوى اقتصادية أو اجتماعية فاعلة، مثل التجار والصناعة الوطنية إضافة إلى كبار الملاك والقيادات التقليدية.

هذه العوامل إضافة إلى اختلاف الأجندة القومية السورية عن الأجندة المصرية عجلت في الانفصال. ولعله من المفيد الذكر أن أول خلية عسكرية بدأت تخطط للانفصال، كانت تضم ضباطاً سوريين على الأراضي المصرية. وأن الضباط الذين قادوا عملية التنظيم العسكري للانفصال هم الذين حكموا سورية منذ الستينات حتى نهاية القرن العشرين (صلاح جديد، محمد عمران، وحافظ الأسد). لقد أظهرت تجربة الوحدة والانفصال، وعلى الرغم من العمر الفتي للدولة السورية آنذاك، أن الشخصية الوطنية في الإطار القطري ليست وهماً او تعبيراً عن مصالح الاستعمار ، بل حقيقة تستحق ان تؤخذ بعين بالاعتبار.

ستون عاماً على الوحدة المصرية السورية: أسباب ذاتية وعوامل إقليمية أفرزت التجربة وأفشلتها
 
21-Feb-2008
 
العدد 14