العدد 14 - كتاب
 

لدى كاتب هذه السطور انطباع بأن المدن الأجمل هي تلك التي يتوافر فيها النقل الجماعي. وكلما كانت هذه الخدمة أرقى كلما كان الانطباع عن المدينة أفضل. ليست هذه الخدمة وحدها ما يمنح العواصم والمدن جمالها وفرادتها،هناك أسباب ومظاهر أكثر أهمية لا شك، مثل التنظيم العمراني والمعالم التاريخية والحضارية والمساحات الخضراء ومستوى النظافة العامة وكلفة المعيشة وطريقة التعامل مع الغريب.غير أن توافرالمواصلات العامة يضفي على المدن طابعا إنسانياً.

فبما أن هوية المدن تتمثل أولاً في أهلها وناسها والمقيمين فيها، فإن اجتماع والتقاء شرائح هؤلاء في مركبة نقل جماعي، يسهم في الكشف عن الهوية الخاصة للمدن من خلال سيماء شخصيات أهلها وسلوكهم. التقارب بين الناس في المركبة العامة ينمي الروح الجماعية ويحد من الفروق الثقافية بينهم، حتى لو ظهرت الى السطح خصائص الأفراد. يتعرف زائر العواصم الأوروبية على العاصمة من خلال قسمات الناس وحركاتهم وسكناتهم في الأندرغراوند (محطات القطارات تحت الأرض) وليس باستخدام التاكسي. كم من قصص وروايات وافلام تدور أحداثها في قطارات وأحيانا في باصات؟!

بينما استخدام السيارة الخاصة دون سواها، ينمي العزلة والأنانية لدى مستخدمها ويعمق الشعور بفردية المصير،ويشيد جدراناً بين البشر.انظرواكيف يحدق السائقون بعضهم بعضاً بنظرات الشزر المجاني، لدى التوقف عند الإشارات الحمراء. قلما يرسل أحد نظرة حيادية صافية. لا أحد ينظر الى جاره كرفيق "سفر". في سيارات السرفيس كما في الباصات ما زال الركاب، يفضفضون عما يدور في أذهانهم وما يشغلهم. الروح الجماعية ما زالت قائمة. ضعف وسائل المواصلات والحاجة الماسة لاقتناء سيارة خاصة، يقتل شيئا فشيئا هذه الروح و يباعد بين الناس. لا يسع تلميذ زيارة صديق له فلسوف يضطر للجوء الى التاكسي الأصفر في الذهاب والإياب وهو أمر فوق طاقته. ثم أصبح الأمر اكثر تعقيداً لمالكي السيارات "المحظوظين": بسبب تضاعف عدد السيارات الخاصة الناجم أساساً عن النقص الحاد في المواصلات العامة، باتت الرحلة القصيرة تسبب عناء كبيرا وتهدر وقتا طويلاً وتستهلك المزيد من البنزين.لم تعد هناك أماكن فارغة لتوقف السيارات. قد تنشأ عركات مع أناس آخرين للتزاحم على "الصفة"، قد ينال صاحب السيارة مخالفة مرورية.لتفادي هذه الصعوبات يقلل الناس مشاويرهم بما في ذلك التزاور. في القناعة أن النقص الحاد في وسائل المواصلات والاضطرار لاقتناء سيارة خاصة، هو من الأسباب الرئيسة لذواء الروح الجماعية. من يستخدم المواصلات يصادف صعوبات هائلة ويحسد مالكي السيارات، وهؤلاء يكابدون الكلفة العالية لاقتناء سيارة حيث يبذلون لها بقدر ما ينفقون على البيت ويعجزون عن التخلي عنها فليس هناك من بديل .. فكيف يمكن إيصال اطفال البيت الى مدرسة حكومية غير قريبة في فصل الشتاء. وماذا يقول الناس عنا إذا بعنا السيارة وعدنا للمشي على الاقدام؟! .

محمود الريماوي: مدينة بلا روح
 
21-Feb-2008
 
العدد 14