العدد 14 - ثقافي
 

أصدر فايز صياغ ديواناُ شعرياً واحداً في العام 1988 بعنوان "الحب مثلاُ" وفي خاتمة الديوان الصغير الحجم، إشارة الى أن قصائد الكتاب سبق نشرها في مجلات ثقافية عربية ،لكن دون إشارة الى تاريخ كتابتها أو تاريخ نشر معظمها .مع هذا الإغفال غير المعلوم إن كان متعمداً، أم ناجماً عن الرغبة بعدم التزيد، فقد يروق لقارىء من أيامنا ولناقد متعجل أن يحتسب صياغ من شعراء الثمانينيات ..المقلين ، بدليل أنه لم يتبع باكورته بكتاب ثان.

لا ينتمي صياغ، وهذا لقبه العائلي المدون على الديوان دون أل تعريف، لشعراء الثمانينات، بل ينتسب بجدارة الى الموجة الثانية للشعراء المحدثين العرب، وهي الموجة التي تضم محمد عفيفي مطر، وسعدي يوسف مثلاً. فيما ينتسب عباس بيضون، وممدوح عدوان، وقاسم حداد لموجة لاحقة هي الثالثة. قصور النقد العربي قاد لإغفال مواقع هامة في خريطة الشعرالعربي الحديث، يحتل واحدة منها فايز صياغ الى جانب زميله أمين شنار منذ مطالع الستينيات.وحيث شكلت «الأفق الجديد» في تلك الحقبة مختبراً لحداثة الشعر يوازي نسبياً "الآداب" و "شعر". لكن القدس التي كانت تصدر منها تلك المجلة الرائدة، ليســت بيروت ذات الخبرات في التسويق وصناعة النشر والنجوم .

وقد اتفق أن صياغ لظروف وتقديرات تخصه زهد لاحقاً في الشعر(يزعم أن الشعر هو من زهد بصاحبه..)، واندفع نحو التحصيل العلمي ثم العمل الأكاديمي والبحث والترجمة، فنال قبل أيام إحدى أهم الجوائز العربية، إن لم تكن أهمها على الإطلاق هي جائزة الشيخ زايد للترجمة.

في غمرة إنجازه وما يستحقه من احتفال، ومن توجيه الأضواء إلى الترجمان المعلم وصنيعه المميز، فإن هذا التقدير العالي لا يجمل به أن يصرف النظر عن النار الأولى للشاعر. نار إبداعه التي لا تخبو، وإن كاد ينطفىء ذكرها لدى نقدة ومتابعين.

هنا لفائدة المتذوقين والمهتمين قصيدة للشاعر تنبض بنبرات متعددة ،بعنوان "مفكرة فارس متقاعد يعود تاريخ كتابتها الى أربعة وأربعين عاماً خلت ، وتكشف أن الشاعر في أواسط الستينيات من القرن الفارط يزخر بحداثة أرقى وأعمق من حداثة عربية رائجة في الألفية الثالثة .

**

مفكـــــرة فـــارس متقــاعـــد

سيدةَ الفصولْ

سيدة الأوضاع والميولْ

سيدة الألوان والإيحاء والرموزْ

سيدة العوالم الطريةِ الخبيئةِ الكنوزْ

سيدة الإيماءِ واللهاث وارتعاشة الشفاهِ والتمنعِ

سيدتي ..إني أحب كلَّ ما فيك من التنوعِ

..ومن طُرقات التشرد آتيكِ،

والرعبُ في خطواتي

تآكّلتِ الشمس وجهيَ

والظمأُ المَّر أدمى لهاتي

ومن موطن اليأس آتيكِ :

دمًرتُ خلفيَ كلَّ الجسورْ

وودعتُ أرضي القديمةَ

(حشرجةَ الراكضين وراء الرياحِ

وعقمَ الترقب في الأعين المطفأةْ

ودوامة الحلقات الخبيئة)

خلًفتها للسعيرْ

وجئتُ

وفي مقلتيَّ ارتسامُكِ

يا جنة الماءِ والظَّل

يا واحتي

يا امرأَةْ!

فلا تعذليهِ، إن أربَّ بعِرْسِهِ

وفي الحي هتَّافٌ إلى الروْع ،لابسُ

وإن شدَّ فتيان القبيل مطيَّهم

طِلابَ دمٍِ: كلُ كميُ وعابسُ

وهاجت دماءٌ ،واستفاقت ضغائنٌ

وماجت بأصداء الهزيجِ البسابسُ

ألمْ تعلمي أن الطِّراد أمضَّهُ

وأدركَ أن الغانمَ المتقاعسُ؟

لأن سيوفَ الرائحين صديئةٌ

وكلَّ مطايا الراحلين خنافسُ!

أُحس في أصابعي

تململَ الريح التي حلمت باقتناصها

وطيَّ راحتي أحس زخةَ الماء الذي

كنتُ أروم قبضَهُ

وفوق رمحيَ المثلّمِ العتيقِ

فوق رمحي الخشبْ

ترقد ألفُ لطمةٍ ،

جادت بها كفُّ طواحين الهواء الهازئةْ

أيتها الليونةُ العنيفة

النابضة بالمفاجأة والدهشة

يا وسائد الطراوة ،

في تضاعيفك

أتنشق عبق الأرض غبَّ المطر

وتحت تشنج يديْ عليك

أستشعر نداوة زَهرَ اللوز

وتململَ البذور،

أرقبُ ولادة أشياء غريبة

لا أعرِّفها

ومع اليقظة،

أدرك أن الشمس ما زالت تنهش جبهتي

وأنني ما زلت ببابك

الآنَ..

تنتهي حكاية الظلال والتوقعات،

ينتهي توثب الخيالْ

الوقت جدُّ ضيقٍ

وليس ينفع اللبيبَ أن يعيد في تاريخه النظرْ

و"أجمل العمر هو الوقت الذي لم يأتِ بعدُ"

و"الشقاء في خطرْ"

الآن ..

تنتهي حكاية الرموزِ،

والجديدُ سوف نلتقيه في عواصف الجراد والرمالْ

نار الشاعر لا تنطفىء!
 
21-Feb-2008
 
العدد 14