العدد 2 - بورتريه
 

من نافذة مكتبه يطل على جسر عبدون وواديها. يتبسم بإشراق وهو يهمس بدفء: هذا هو نهري الذي أطلّ عليه وأرى عمان.

يطيب له أن يعود بذاكرته إلى أكثر من نصف قرن، يستدرج إلى مخيلته صوراً مضت، اختزلت تاريخَ مدينة أحبها، فوهب لها جهده كله.

إنه إيليا نقل؛ ابن مدينة الرملة التي ما زالت حاضرة في ذاكرته ووجدانه، شدّه الشوق إلى الدراسة، فغادر بلدته متوجهاً إلى بيروت، وحين اكتشف سرابية الحلم، أراد العودة إلى وطنه، لكنه تيقن أن النكبة حلّت، وأن الوطن تبدلّت فيه وجوه بأخرى، ودخل في معجمه مصطلح «محتلّون».

في العام 1948 بالذات، استكان إيليا إلى صدر عمّان. كانت الأسرة سبقته باللجوء إلى السلط بعد أن هُجّرت من الرملة، لتتخذ بعدها من منطقة المحطة سكنى لها.

يؤكد الرجل أنه لم يندم البتة على اتخاذه قراراً بالإقامة في عمّان، وهي المدينة التي بدأ منها الحلم.. وتحقق فيها.

المولود في ليلة عيد الميلاد، 25 كانون الأول/ديسمبر 1928، ما زالت تعتمل في صدره حتى اليوم رواسب الفجيعة الأولى والظلم الأول. ويستذكر تلك الفترة بحزن تشفّ عنه كلماته التي تختلط بالضيق: «كنت متفوقاً في الدراسة في الرملة»، إلا أنه يعترف أن التفوق لا يلازمه الحظ دائماً، فالمترك الفلسطيني الذي أنهاه بامتياز، لم يشفع له في الذهاب للدراسة في الكلية العربية بالقدس، فـ«الواسطات أضاعت الحلم»، ومنحته لغيره.

كانت تلك «أولى حرقات القلب، وأولى الصدمات» في حياته. وفي لحظات الاستذكار، يُخرج الشهادات المدرسية التي ما زال يحتفظ بها، ويقارنها بعلامات رفاقه الذين تعدّوا على حلمه، وسلبوه نشوةَ التفوّق.. ربما تنفرج شفتاه عن ابتسامة غامضة، غير أن حزناً خفياً لا بدّ أن يتسرّب إلى النفس، ولا بدّ أن يواجه نفسه بسؤال: ترى ما الذي يمكن أن يكون عليه الحال لو كان من قائمة الذاهبين إلى كلية القدس؟

سؤال سوف يبقى جوابه في حكم الغيب، فالرجل الذي أسس امبراطورية صناعية في منطقة الشرق الأوسط، حمل الظلم الذي أصابه سلاحاً يواجه به ظروف الحال، وأمعن في الحلم حتى غدا على ما هو عليه.

مكتبه في منطقة عبدون فارِهٌ ومتسع حدَّ عدِّهِ، مجازاً، سكناً مكتملَ الأركان، غير أن الرجل بسيط ومتواضع، وتستطيع أن تتلمس أن النعمة التي أصابته لم تغيّر فيه شيئاً، فهو يأسى كثيراً لضياع رسائله إلى رفيقة الدرب، زوجته، عندما تلقى منزلُه قرب دوار الداخلية ضربةً موجعة اشتعل فيه كل شيء، إبان أحداث 1970، لكنه لا يُلقي كثيرَ بال إلى الخسارة المالية الكبيرة التي تكبّدها في أحد عطاءات تزويد الجيش بالمواد الغذائية العام 1959.

في سوق السكّر، انطلق حلمٌ من غير حدود، لعل تشكُّلَه الأول بدأ بالعمل في شركة «قطان والعملة»، التي كان موقعها في شارع الرضا، حيث أمضى إيليا ثلاثة أعوام كاملة.

لكن طموحه لم يقف عند «راتب كبير» يتقاضاه، لذلك عمد إلى استئجار محل يمتلكه سعيد باشا المفتي: «وضعنا في المحل طاولة ومكتباً، وكانت سوق السكّر عالمنا»، فالسوق كانت تختصر حراكَ مدينة بأكملها، فيما التنافس على أشدّه بين العائلات الاقتصادية في تلك الحقبة؛ الشعراوي، أبو عيشة، الكيالي، بدير، وسواها.

في العام 1955 زار لندن، ليطّلع على عمليات تصنيع الورق الصحي وتقطيعه، ملاحظاً أن استيراد المواد الخام من أوروبا إلى لندن، ثم نقلها إلى عمّان أمر مكلف، فسعى إلى الحصول على آلة تقطيع خاصة به.

ضالّته عثر عليها في مدينة دوزلدورف الألمانية، فأحضر ماكنة كلفتها 1700 دولار إلى سوق السكّر، لتتولد منها الماركة الشهيرة التي اجتاحت المنطقة بأسرها: فاين، وليفتتح بعدها أول مصانعه في العام 1962.

من عمّان، انطلق إلى بيروت، ليفتتح مصنعه الأول في الخارج مطلع السبعينيات، ثم يذهب إلى دول شمال إفريقيا، متدرجاً في الصعود بعالم التجارة والصناعة.

اليوم، يجد نفسه راضياً تماماً عما أنجزه، ويزداد إيمانه بأن على الإنسان أن يبذل كل ما لديه من طاقة لتحقيق أهدافه ودعم أسرته ومجتمعه. لذلك اتجه «أبو غسان» للمساهمة في العديد من المشاريع غير الربحية؛ تأسيس جمعية الثقافة والتعليم الأرثوذكسية، إطلاق مشاريع التعليم غير الربحية، ابتعاث طلبة متفوقين للدراسة في الخارج، دعم مشاريع عمل إنسانية في الأردن مثل «تكية أم علي» ومشروع التغذية المدرسية، إضافة إلى مشروعه المتكامل في تبني لواء الكورة لإحداث تنمية مستدامة لدى سكانه.

رؤيته للاستثمار تنبع من المصلحة العليا. «أيُّ استثمار لا يحمل قيمة مضافة للأردن يجب عدم الترحيب به».

يبتسم بودّ حين يُسأل عن سبب عدم انخراطه هو أو أحد أبنائه في غمار السياسة، ويؤكد: «نحن عائلة تجارة وصناعة، ولسنا أصحاب سياسة».

أجمل الهدايا التي تلقّاها كانت في عيد ميلاده الخامس والسبعين. إذ أهدته ابنته رندة لوحة لمدينة الرملة، رُسمت النسخة الأصلية منها في العام 1839 بريشة روبرتس.

حين ينظر إلى الوراء، يشعر بالرضا الكامل عن النفس، فمصانعه تنتشر في معظم البلاد العربية، مستفيداً منها نحو 6 آلاف إنسان، ومنتجاته تصل إلى أكثر من 45 سوقاً في أنحاء العالم. وهو لا يخفي اعتزازه حين يقول إنّ مصانعه في إرينبة، جنوب العاصمة عمان، تُصدّر منتجاتها إلى لندن، بعد أن ظل الأردن يستورد هذه المنتجات طيلة عقود من إنجلترا.

إيليا نقل: حلم بلا حدود انطلق من سوق السكر
 
01-Aug-2009
 
العدد 2