العدد 2 - ... ودقّة على المسمار | ||||||||||||||
يُعاب على السياسيين أنهم يقولون ولا «يفعلون». ولكن ذلك ينطوي على جهل بكون السياسة في المحصلة مجرد كلام، بمعنى أن «فِعْلَها» هو كلامُها، والسياسي مهما حاول لا يمتلك ما يقدمه سوى الكلام، وبالطبع يمكن بعد ذلك الخلافُ حول طبيعة ومحتوى هذا الكلام، أما الاعتراض على الكلام بحد ذاته فهو اعتراض في غير محله. المادة الخام للنشاط السياسي هي الكلام، فالمواقف السياسية والبيانات والمؤتمرات والمهرجانات والخطابات والانتخابات والأحزاب.. كل ذلك هو بشكل رئيسي كلام، وأصحابه لا ينكرون ذلك، ويسمّون كلامهم: آراء، ويدعون إلى احترام الرأي والرأي الآخر، أي إلى احترام الكلام منطوقاً أو مكتوباً أو مضمراً. السياسي كصانع كلام والناس لا ينتظرون من رَجُل السياسة سوى أن يتكلم، وحتى عندما تُتَّهم جهة سياسية أنها لم «تحرك» ساكناً، أو لم «تفعل» شيئاً ما، أو لم تتخذ «ردَّ فعلٍ» ما، فإن الحديث يكون أساساً عن أنها لم تتكلم. حتى التظاهرات، وهي أكثر أشكال العمل السياسي حركة وشدة، كلام أيضاً، وما يميزها عن غيرها أن الكلام فيها يجري من وضعية المشي ورفع الأيدي والصوت أحياناً، وليس من وضعية الجلوس أو الوقوف كما هي حال الكلام عادة. لكن السياسي لا يخفى عليه أن كون صنعته تعتمد على الكلام يُضعفها، فتجده يستعير من أشكال النشاط الأخرى ما يعينه على رفع مستوى وقيمة منتوجه، أي كلامه. فالسياسيون يتحدثون مثلاً عن «صناعة» المواقف، ويصفون المفكر السياسي أو النظرية السياسية بأنه أو بأنها «منجم أفكار»، وإذا أقدم سياسي على اقتراح فكرة جديدة قيل إنه «يحرث» في أرض بكر، كما يكثر القول إن السياسي «يحصد» نتيجة مواقفه، ويوصف السياسي المعارض من قبل الحكومة أنه «مِعْولُ» هدم، مع أنه قد لا يعرف ما هو المعول. كنّاسو مزبلة التاريخ ويتحدث الناس عن سياسيين من «معادن» مختلفة، فواحد صلب كالفولاذ، وآخر مثل «الصخر»، وصولاً إلى السياسي «اللين» الذي يتخذ مواقف «شوربة». يستعير السياسي إذن من النشاطات الأخرى ما يحتاج لكي يعلي من شأن مهنته، وهو لا يوفر مهنة إلا ويستعير منها.. فهو «يحمل» قضيته على أكتافه، و«يحفر» عميقاً في الأفكار والمواقف المطروحة، وعندما يتناقش السياسيون فإن الواحد منهم «يقنّـي» للآخر، وقد «يحلق» السياسي لخصمه أو «ينعّم» له، بل إن السياسيين يقولون إنهم «يكنّسون» الأفكار البالية والاستعمار والإمبريالية إلى مزبلة التاريخ، مع أنهم قد لا يكنسون أمام بيوتهم (كما لاحظ المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري)، مع ملاحظة أن مزبلة التاريخ تختلف عن بقية المزابل، بدليل أن وزارة البيئة لا تكترث لها. |
|
|||||||||||||