العدد 2 - اجتماعي
 

يحمل الشاب حنطيُّ البشرة والحائز على شهادة الإعدادية، دلّةَ شاي بالنعناع كبيرة، وأكواباً بلاستيكية صبيحة كل يوم، مستعداً لـ«سقاية» زوار المدرج الروماني، وسط البلد. وهو يزور غرفته الصغيرة الواقعة قرب المدرج مرتين أو ثلاث مرات يومياً، لملء دلّته، وتناول وجبة متواضعة تُعينه على ساعات العمل الطويلة.

محمد عبده، 32 عاماً، العامل سابقاً في محل شاورما أقفلته وزارة الصحة، ينهي عمله في ساعات الليل المتأخرة بمردود يقارب العشرين ديناراً كل يوم، يشتري ببعضها خبزاً وبندورة وسجائر، بينما يدّخر الباقي «للزمن وغدره»، بحسب تعبيره.

صعوبات الحياة تجبر عديدين على التكيّف مع وضع اقتصادي متردٍّ، أو تحدٍّ صحي أو إعاقة جسدية، من خلال سلوكيات إبداعية تتسم بالمرونة، ومهن ذات تكاليف إنشائية متواضعة، تضمن لهم قدراً من الاكتفاء الذاتي، وتنأى بهم عن أن يكونوا عالة على الآخرين.

أستاذة علم النفس الاجتماعي في جامعة يال الأميركية، شيلي تيلور، تضع هذه المهن تحت ما يسمّى: «استراتيجيات أو آليات التكيّف»، وتعرّفها على أنّها: «جهود محدّدة على المستويَين السّلوكي والنّفسي يلجأ إليها المرء لتجاوز الصّعوبات الحياتية المحيطة».

تيلور تقسّم استراتيجيات التكيّف إلى نوعين: يركّز الأول على حل المشاكل بشكل عملي Problem Solving، ويُعنى الثاني بالجانب العاطفي Emotions Focused Coping Strategies.

الأربعينية سما حمدي، اعتادت منذ 9 أعوام، شراء خضراواتها يومياً من «الحسبة»، ما يُعرف بـ«سوق عمان المركزي»، في السادسة صباحاً، وتحميلها في باص النقل العام، إلى أعتاب سوق الخضار في سقف السيل. تغادر المكان مساء بعد خلوّه من الشارين، حاملةً لأبنائها «خبزاً ونواشف وخضاراً بايتة». تقول لـ«السجّل»: «لا تدخل اللحمة بيتنا إلا نادراً».

الأرملةُ الوحيدة، لا تفك الخط العربي، بينما ترك أصغر أبنائها محمد، 12 عاماً، التعليم مؤخراً، ليرافق أمّه للسّوق، ويعمل في أحد محال البقالة المجاورة، لـ«عدم توافر تكاليف تعليمه»، بحسب أمه التي تقول إن عملها فرّاشةً في مستشفى، ثم في مدرسة «لم يكن كافياً بتأمين نفقات البيت»، وتضيف باعتزاز ممزوج بالأسى: «استطعت تعليم اثنتين من بناتي، فأكملن الثانوية العامة، وما زال هناك اثنان في المدرسة».

أبو مايكل، ستيني، اختار التقاعد مبكراً من سلاح الجو الملكي، وعمل سائقاً على تكسي خاص به، لينفق على بناته الثلاث كي يكملن تعليمهن الجامعي. يلجأ أبو مايكل عند الحاجة لمبالغ مالية طارئة، للمشاركة في «جمعيّة» مع عاملين في المهنة نفسها، ويوضّح: «أقوم حالياً بدفع 50 ديناراً كل شهر، لأحصل على مبلغ 1000 دينار عند حلول دَوري بالقرعة، في أيلول /سبتمبر المقبل، بينما ألتزم بدفع القسط الشهري حتى عشرين شهراً، هي مدة الجمعية».

تمثل «الجمعيات» إحدى الوسائل الشعبية للحصول على مبلغ مالي مناسب لمواجهة الأزمات وحالات الطوارئ، دون الاضطرار إلى الاقتراض من بنوك، وتحمّل الفائدة. وفيها، يتم إخضاع المشاركين للقرعة لتحديد أدوارهم، أو الاتفاق على الأدوار بحسب حاجة كلٍّ منهم. وهي شائعة في أوساط النساء، الموظفات وربات البيوت على السواء، وفي أوساط العاملين في المهن المختلفة. وترتبط قيمة كل جمعية، بعدد المشاركين، وعدد الأسهم التي يشاركون فيها.

صعوبات الحياة المعيشية تدفع بكثيرين لممارسة مهن متعددة في الوقت نفسه، لـ«تحقيق مستوى معيشي أفضل»، كما تقول العشرينية ولاء بدور، وتقدّم نفسَها مثالاً. «أحمل شهادة تصميم داخلي، وأعمل مدرّسة للتدريب المهني في مدرسة حكومية، وأصمم الإكسسوارات وأبيعها على بسطة في سوق جارا كل جمعة». تؤكّد ولاء أن وظيفتها الحكومية تُشعرها بـ«الأمان والاستقرار»، وتضيف: «أما العمل الإضافي، فأستطيع من خلاله توفير مستلزماتي الشخصية من مساحيق تجميل وملابس وأحذية، دون اللجوء إلى زوجي وطلب النقود منه».

 أستاذ علم النفس الاجتماعي في الجامعة الأردنية موسى شتيوي، يقدم مفهوم «سبل العيش المستدامة» الوارد في تقرير التنمية البشرية المستدامة في الأردن للعام 2004، بوصفه أحد أشكال استراتيجيات التكيّف، موضّحاً أن المفهوم «يعبّر عن سلوكيات مختلفة، منها تغيير أولويات المعيشية، التقنين في الصّرف، واستبدال بضائع أقلّ ثمناً بأخرى، وابتكار مشاريع عمل جديدة تساهم في الدخل».  

التقرير الصادر عن وزارة التخطيط والتّعاون الدّولي، وبرنامج الأمم المتّحدة الإنمائي، والصندوق الأردني الهاشمي للتنمية البشرية في معهد الملكة زين الشرف التنموي، عرّف المستوى المعيشي الجيد بـ: «وصول الأسرة لمستوى الحياة الكريمة، أي للوضع الذي تستطيع فيه الأسرة أن تضمن قُوْتها ويزداد دخلها، وتقل فيه قابلية التعرض للصدمات المفاجئة ونضب الموارد المتاحة».

مدير المرافق والأسواق المتخصصة في أمانة عمان الكبرى، محمد صادق الجيّوسي، يرى في مكالمة هاتفية أجرتها معه «ے»، أن ظاهرة البسطات المرخّصة والمنتشرة في العاصمة عمّان، «أحد أشكال سُبل العيش المستدامة». يصل عدد هذه البسطات، وفقاً للجيوسي، إلى 640 بسطة، موزّعة في 5 أسواق، من بينها 278 بسطة لـ«حالات إنسانية». يوضح الجيوسي في هذا السياق: «الحالة التي لا يستطيع صاحبها العمل في ظروف طبيعية بسبب تحدٍّ جسدي يطاله أو أحد أفراد عائلته، تندرج ضمن الحالات الإنسانية». مضيفاً أن هذه الحالات تشمل أولئك الذين يتمتعون بوضع صحي سليم، لكنهم لا يجدون عملاً، أو المسؤولين عن أسر كبيرة ومتعطلين عن العمل.

وفقاً لبيانات أمانة عمّان الكبرى، تتوزع البسطات في: سوق الوحدات الشعبي الذي يتسع لـ 263 بسطة، منها 150 لحالات إنسانية؛ وسوق الحسين في منطقة بسمان الذي يحوي 255 بسطة منها 53 لحالات إنسانية؛ وسوق أم تينة في حي اليرموك بجبل الجوفة، وفيه 106 بسطات منها 30 لحالات إنسانية؛ وسوق وادي السير في البيادر الذي يضم 17 بسطة لحالات إنسانية من أصل 52 بسطة؛ وسوق الهاشمي الذي يصل عدد بسطاته 68 منها 23 لحالات إنسانية.

الجيّوسي كشف أن تعاون جهات رسمية وشعبية في العاصمة لإنشاء البسطات، يوفّر مئات فرص العمل، ويفتح باب الرّزق أمام كثيرين، مؤكّداً «عزم الأمانة المساهمة في مساعدة المواطنين من خلال فتح سوق شعبية جديدة للبسطات في منطقة رأس العين قبل نهاية العام الجاري، مخصصة للحرف والفنون والطعام وغيرها».

من بين الجهات التي تتعاون مع «الأمانة» في هذا المجال، وفقاً للجيوسي: وزارة الثقافة، وزارة البيئة، مؤسسة المواصفات والمقاييس، الجمعية العلمية الملكية، وزارة العمل، شركات في القطاع الخاص، منظمات غير حكومية، منظمات المجتمع المدني، مديرية الدفاع المدني، مديرية الأمن العام، شركة الكهرباء، وشركة مياهنا.

يستمر السّجال بين المواطن والحكومة حول البسطات وفتح أسواق شعبية جديدة. فبينما تؤكد الحكومة على لسان رؤساء وزراء متعاقبين، التزامها بتلبية احتياجات الفقراء على المديين القصير والمتوسّط عن طريق استراتيجية مكافحة الفقر التي أُطلقت العام 2001، مستهدفةً ما يزيد على 800 ألف نسمة، يفيد تقرير التنمية البشرية 2004 أن «برنامج المعونة الوطنية المتكررة الذي يُعدّ من أبرز مشاريع صندوق المعونة الوطنية، واجه ردة فعل تتسم بالاتكاليّة لدى الأفراد الخاضعين له لدخول سوق العمل، ومزاولة أعمال مؤقتة متدنية الأجر أو غير مضمونة».

الأرملة منذ 3 أعوام، القاطنة في ضاحية الرّشيد، والتي اعتادت صنع المعجّنات والكبّة والشيشبرك والمقلوبة وغيرها من «الطبائخ» البيتية، لتلبية رغبات زبوناتها من سيدات المنازل، تنفي هذا «الاتهام». فأم عماد، 44 عاماً، تلازم بيتها لعدم استطاعتها تأمين نفقات علاج أصغر أبنائها الذي يعاني تلفاً في الخلايا الدماغية وبعض مظاهر مرض التوحد، وتقول إن المعونات الحكومية «قد تثبط من همّة بعضهم»، لكنها على أية حال «لا تكفي المصاريف الحياتية في هذا الزمن».  

يوافقها شتيوي في هذا الرأي. «الحكومة تساعد الطبقة الفقيرة من خلال المعونات النقدية، وتمويل مشاريع صغيرة ومتوسطة، غير أن هذا لا يُعدّ حلاًّ لمشكلة الفقر والبطالة، بل إنه يسهم في التخفيف من آثارها فقط».

هذه المبادرات الفردية المثيرة للإعجاب، تبقى «جنينية»، ولا تشكل وحدها حلاًّ لمشاكل الفقر وتردّي الأوضاع الاقتصادية، ما يدعو مؤسسات الدولة المختلفة لوضع استراتيجيات وحلول لمحاربة الفقر وتمويل المشاريع الصغيرة، إضافة إلى توفير فرص عمل خارج إطار الدولة لتحقيق الرّفاء، وتخفيض العبء المتراكم على الموازنة العامة.

البسطة والدلّة والعرباية: فن التكيُّف وانتزاع لقمة شريفة
 
01-Aug-2009
 
العدد 2