العدد 2 - ثقافي | ||||||||||||||
ما زال علي الجابري حاضراً عبر إبداعه التشكيلي، رغم الحادثة المأساوية العنيفة التي طوت الصفحة الأخيرة من حياته، في العام 2002. رسم الجابري من خلال أعماله، صورة واقعية للمشهد العربي، وكتب عن هذا المشهد كما عاينه وعاش أحداثه. جمع في داخله ثقافته الإنجليزية وانتماءه لوطنه العربي الذي ارتجي أن يجد لنفسه فيه محطةً يرتاح إليها، كما كان أسيراً لموهبته وفهمه الخاص لهويته وفخره بالانتماء إلى عائلة مميزة، وفقاً لما جاء على غلاف كتاب أصدرته بالإنجليزية أمل غندور في حزيران/يونيو 2009، حول هذا الفنان وتجربته. تقول غندور لـ«ے» حول دافعها لإنجاز كتابها: «الطريقة التي رسم فيها علي العالم العربي، والكيفية التي كتب فيها عنه، ورحلة عائلته، جعلت قصته مذهلة»، وتضيف: «عندما رحل علي، عرفتُ أن له حكاية مثيرة جداً يجب أن تُكتب». الكتــاب صدر عن إيلاند – لندن، ويحمل عنوان عـن رجل اسمه علي: الحياة القرمزية لفنان عربي. ينتمي الجابري لعائلة سورية عريقة، كان القرن العشرين شديد القسوة عليها، وقد ظلَّ يستشعر تاريخ عائلته بـ«كثير من الألم والعاطفة»، بحسب تعبير غندور. كان عاشقاً للكتابة ورسم الصور، وكان متمكناً بشكل عبقري منهما، ليشكل رؤاه وخبراته وإلهامه الفريد. صورة مؤلمة وعميقة تلك التي ترسمها غندور للجابري عبر الكلمات، وهي لا تقف عند حدود البحث في مسيرة هذا الفنان الإشكالي فحسْب، بل تتجاوز ذلك إلى الكشف عن حكاية شعب عاش حقبة تاريخية حساسة، راصدةً التأثيرات التي أنتجتها الاتجاهات والمواقف الكولونيالية، وكيف أدت الأنظمة العسكرية والأصولية إلى زعزعة المنطقة العربية: سياسياً واجتماعياً وثقافياً. تقول: «كل شبر من المنطقة العربية صار مسبباً للصداع.. وحيث نام الناس سوريين نهضوا في الصباح التالي لبنانيين»، في إشارة تحمل قدراً كبيراً من السخرية والقلق معاً، من تداعيات تجزئة المنطقة بحدود وكيانات مصطنعة. لم يكتفِ الجابري برسم العالم العربي بروح شاعرية، بل كان مراقباً محنكاً للساحة السياسية، ومتابعاً فطناً على الساحة الاجتماعية، وراوياً للحقائق التي أظهر بها «ما هو شاعري وجيّاش ومأساوي فينا كعرب». رفضَ البقاء في المنفى معزولاً في قاعات الفن بمانهاتن ولندن وباريس، والتصق بالمكان العربي الذي تعلّق به كقيمة أصيلة تمثل تراث الأمة وحضارتها، حتى إنه اتخذ موقفاً ضدّياً من التنمية والتطوير العشوائيين للأماكن التي أحبّ، بخاصة العقبة والبترا. في هذا السياق، تؤكد غندور في حديثها لـ«ے»، أن الجابري لم يكن سجين الماضي على الإطلاق، بل كان على وعي بـ«استمرارية التاريخ، ودوره المحوري في التأكيد على هوية الشعب». أدرك بوضوح أثر الحداثة في ذاكرة الشعب، وقدرتها على احترام الماضي، والمضي، في الوقت نفسه، بخطى ثابتة إلى الأمام. وقاوم محاولات المساس بروح الأماكن القديمة، لكنه «لم يتملك الخصائص التي تمكّنه من المقاومة؛ كرهَ المساومة وتقديم التنازلات، لم يكن مؤهلاً ليكون جزءاً من لعبة الفريق، ولم يعمل بناءً على برامج محددة بمواعيد نهائية» تقول غندور، مضيفةً: «عندما يتجلى مبدأ الحفاظ على التراث، كان علي قادراً على تطبيقه فوق قماشة الرسم، لكنه كان يُحبَط دوماً خارجها». تربط الكاتبة بين ما تعرّض له الجابري من مآسٍ، وما تمثّله عائلته تاريخياً، إذ بدأت هذه العائلة الأرستقراطية تتخبط مع تخبُّط العالم العربي. وتلفت إلى أن وصفي التل، رئيس الوزراء الأسبق في الأردن، كان يمثل بالنسبة لعلي «الرجل الأخير، والأمل الأخير». كان وصفي زوج خالته سعدية، وعندما اغتيل، وقعت الحادثة كالصاعقة على علي الذي عاش في كنف وصفي وأحبه بشغف. تستذكر غندور ليلة 3 كانون الأول/ ديسمبر 2002 التي عُثر فيها على علي مقتولاً في بيته. اكتشفت الأمر أولاً أخته ديالا، فاتصلت بأصدقائه، ومنهم فادي غندور: كان ملقى على أرض الغرفة، لا وجود لآثار عنف أو قتال سابق، كانت آثار الدماء واضحة، وكذلك آثار الطعنات التي أودت بحياته. كتبت غندور عن علي «لأجل الصديق في الإنسان، ولأجل الشاعر في الفنان، ولأجل الشاهد في الرسام، ولأجل الفقير في الأرستقراطي، لأجل إدمانه لهذه الأرض وكل ما هو مأساوي عليها». علي الذي حظي بمكانة جيدة في الأردن، وبشكل أقلّ عربياً وعالمياً، «مات وهو غير معروف، كما كان يرغب» تقول غندور، مؤكدة: «لم يكن يبغض شيئاً أكثر من بيع رسوماته مقابل المال، كان يضطر للبيع من أجل العيش»، في إشارة إلى الكفاف الذي عاشه الفنان سليل الأسرة العريقة. كان الجابري مثْلياً، متصالحاً مع هويته الجنسية. وبحسب غندور، «كانت له علامات استفهام على كثير من مواضيع الحياة، لكن بما يخص هويته الجنسية، لم تكن لديه أيّ علامة استفهام». تقتبس غندور ما كتبه جين بيار بيرونسيل هوغو، عن الجابري، من أنه كان مميزاً في الطريقة التي أظهر بها الروح الشاعرية والمشاعر الجيّاشة في العالم العربي: «الفنان السوري الأردني علي الجابري كان قادراً على أن يخط على الورق الروح الشاعرية للعرب وحساسيتهم العنيفة. إنه استثناء وحيد في الشرق الأوسط». تتضح هذه الروح الشاعرية، من خلال «رحلة العودة، علي الجابري في مصر، 1977»، المعرض الأول الذي تنظمه مؤسسة علي الجابري للتراث الإنساني، وهي مؤسسة أنشأها مجموعة من أصدقاء علي وفاءً لذكراه، ويرأس مجلس إدارتها فادي غندور. يقول غندور، كما جاء في الكتيّب التعريفي بالمعرض: «لأن عليّ يتصف بالغموض، فقد كان أفضل رواة القصص، وكان بالفعل يريد من العالم أن يسمع قصته، ومؤسسة علي الجابري ستكرس نفسها من أجل سرد هذه القصة». المعرض الذي يقام بين حزيران/يونيو وكانون الأول/ديسمبر 2009، يتضمن رسومات ودفاتر رسم ويوميات ولوحات، هي جزءٌ من مجموعة مؤسسة علي الجابري، تؤشر على تلك الفترة التي قضاها عليّ في مصر والتي كانت أول محطة له في رحلة عودته الى العالم العربي. يمنح المعرض زائره مدى الإلهام الذي استمده الفنان من المواقع التاريخية في القاهرة، ونبض الحياة الشعبية فيها، وذلك من منظور سياسي اجتماعي. مديرة المؤسسة هانية صلاح، تحدّثت خلال زيارة «ے» للمؤسسة وجولتها في المعرض، عن أهمية مرحلة إقامة الجابري في مصر، ودورها في تشكيل ملامح فنّه، إذ بدأ يتجه نحو الاهتمام بالثقافة والحضارة والتقاليد العربية، وكرّس نفسه منذ ذلك الوقت، لـ«الحفاظ على التراث العربي الإسلامي»، معتنياً بصفاء التفاصيل التي يبرزها بألوان حية ومميزة تنبض بالإنسانية. بحسب صلاح، فإن المعرض يهدف إلى إتاحة الفرصة لإعادة اكتشاف أعمال فنان مبدع، ودراستها وتأملها والتمتع بها، «فنان أضاء القماش ودفاتر الرسم واليوميات بالهجاء والتأمل والجمال». |
|
|||||||||||||