العدد 2 - ثقافي
 

كتابة المذكرات لم تصبح بعد ضرباً شائعاً من ضروب الخطاب الأردني، رغم أن المذكرات تغني معرفة القارئ وتجعلها متنوعة، بخاصة عندما يكون أصحابها من ذوي الخبرة الحياتية، والمعرفة المتطورة. ومما يؤسَف له أن كثيراً من الشخصيات السياسية والحزبية في الأردن رحلت عن الدنيا، ولم تخلّف مذكرات منشورة في حياتها، أو متروكة لإصدارها بعد وفاتها. ويخطر في البال من هؤلاء: فؤاد نصّار، ومحمد عبد الرحمن خليفة، وتقي الدين النبهاني، ومحمود المعايطة. وليس المقصود هنا رجالات المعارضة وحسْب، بل رجالات الموالاة كذلك. وأيضاً أولئك الذين انتقلوا من اتجاه إلى آخر.

ما تقدم كان لا بُدّ منه قبل تسليط قدْر من الضوء على كتاب مذكرات فائق ورّاد - خمسون عاماً من النضال، الصادر عن منشورات حزب الشعب الفلسطيني (الشيوعي سابقاً)، برام الله، العام 2005.

اُستُهلّت المذكرات بمقدمة كتبها محمود شقير، المبدع، والمناضل الشيوعي على أرض الأردن، ثم أرض فلسطين في ما بعد. وهي تُلقي قدراً من الضوء على المذكرات بمصباح شيوعي. والواقع أن الكتاب يتألف من المذكرات التي تنتهي بصفحة 123، وفي العام 2003، والملحق الذي يضم منشورات ووثائق، وينتهي بصور اُلتقطت لورّاد بمناسبات مختلفة.

وُلِدَ في قرية بيتين العام 1926. لأسرة فلاّحية. فقد كان أبوه «مزارعاً يحرث أرضه وأرض الآخرين» (ص 12). أمّا أمّه، فقد كانت خيّاطة وذات شخصية قوية حازمة. ومثّلت دعامة وجدانية كبيرة له: «كانت تعلن افتخارها بي، واعتزازها بابنها الوحيد الذي يعارض الحكومة..» (ص53). أمّا جدّه، فقد كان «مختار القرية والشخصية الأكثر حضوراً فيها» (ص11).

ولهذا الجدّ، يعود الفضل بإلحاق فائق بالمدرسة، ومن الجدير بالملاحظة أنه كان دائماً الأول في صفه. وعندما انتقل إلى مدرسة البيرة كان ترتيبه الأول أيضاً. وقد أهّله ذلك للدراسة في الكلية الرشيدية. ويؤكد ورّاد أن ميوله كانت علمية، إذ كان «مبرزاً في الرياضيات طوال سني الدراسة» (ص 14). من بين الذين درّسوه في الكلية المذكورة: نقولا زيادة، الذي أصبح في ما بعد، أحد أبرز المؤرخين العرب، وجبرا إبراهيم جبرا، المبدع والمترجم.

ويبدو، كما يقول ورّاد، إنّ شيئاً من حماسة زيادة قد انتقلت إليه، لأنه ظل «مشدوداً إلى التاريخ، بقوانينه، بغموضه، وبمفاجآته» (ص 16). والسؤال الذي يخطر ببال القارئ المُلمّ بالسياسة: متى تَفتّح وعي ورّاد، وبالذات السياسي منه؟

ثورة 1936 كانت الشرارة الأولى التي ألهبت وعيه، رغم أنه شارك فيها من حيث لا يدري. فقد كان يرشق أعمدة الهاتف بالحجارة، اعتقاداً من الصغار - وهو أحدهم - «أن ذلك يسهم في إنجاح الثورة ضد الإنجليز» (ص 17). كان عمره آنذاك، عشر سنين. وفي العام 1938، جرت اشتباكات عنيفة بين مجموعة من الثوار وجيش الاحتلال البريطاني، ما دفع فلاّحي القرى المجاورة لرام الله والبيرة، لمساعدة الثوار، وإسنادهم. وثمّة دور أدّاه ورّاد في هذه المساعدة. فقد كان القرويون يقومون بإيصال الطعام للجرحى وحراستهم بشكل منظم. وكان جده أحد هؤلاء. إذ كلّفه بالذهاب إلى أحد الجرحى ليبقى معه «لمدة يوم كامل، ثم يحل محله آخر في اليوم التالي» (ص 19). وبعد أداء المهمة عاد وحده «راكباً على البغلة» التي نُقل عليها الطعام..» (ص 19). ويدل الوصف للطقس الذي ساد في أثناء العودة، على رباطة جأشه، وشجاعته.

رغم ما قام به، فإنّ ورّاد في فترة «الرشيدية» لم يرَ في نفسه «سوى طالب قروي جاء إلى المدينة ليدرس وينجح فقط، كان اهتمامه مُنصباً على الدراسة في الدرجة الأولى..» (ص 23)، ويبدو أنه لم يخطر بباله أن ينشغل بالهموم العامة. وعندما أدى امتحانات المترك، كان ورّاد «من الناجحين بامتياز في الرياضيات والطبيعيات» (ص 25).

عُيّن، بعد تخرّجه، معلماً في الخليل. وهنا، بدأ تكوينه السياسي يتبلور، إذ صار له عالمه الجديد. ففي هذه المدينة المحافظة تعرّف ورّاد إلى «أفكار التقدم»، وصار يعرف بالضبط إلى «أين يتجه» وماذا يختار، وكيف ينتبه. تفتح وعيه السياسي والاجتماعي عن طريق صحيفة «قُذفت بالصدفة» بالقرب من فراشه، فإذا بها «كنز للفكر وللحق وللعدالة» (ص 26- 27). كانت الصحيفة المقصودة هي الاتحاد التي أصدرتها عصبة التحرر الوطني، هذه الصحيفة التي، كما يقول، شدّته «بطريقة غريبة»، وفتحت أمامه «عالماً آخر» لم يكن يعرف عنه شيئاً.

كان في المدرسة اثنان من المعلمين هما: فؤاد الخوري، ومحمد فيّاض. وكان لهما ولـالاتحاد الأثر الأكبر في حياته السياسية. فقد صار يتردد معهما على النادي الرياضي. وهناك تعرّف إلى مخلص عمرو، الذي كان عضواً في هيئة السكرتاريا لعصبة التحرير الوطني. «ومن خلال هؤلاء الثلاثة: الخوري، وفيّاض، وعمرو، إضافة إلى الاتحاد، عرفتُ ما هي الشيوعية، التي بدأتُ أتعمق فيها، وأغوصُ أكثر فأكثر في ما تطرحه من قضايا على مستوى الفكر والعلم والاجتماع والسياسة والتاريخ، ومن ضمن ذلك بالطبع، الوضع السياسي في البلاد» (ص 26).

ومما كان يطالعه، إضافة إلى الاتحاد، مجلة الغد التي أصدرتها «رابطة المثقفين العرب» في القدس، وترأس تحريرها مخلص عمرو. وأيضاً صحيفة الاتحاد الأسبوعية الناطقة باسم مؤتمر العمّال العرب، التي كان يُشرف على تحريرها فؤاد نصّار.

يتضح، مما تقدم، أن ورّاد كان مُحاطاً بأعضاء بارزين من عصبة التحرر الوطني، وكان، في الوقت نفسه، قارئاً لما يصدر عنهم سواء كان صحيفة أو مجلة. كل ذلك أثّر فيه على نحو ملحوظ.

عند انتهاء السنة الأولى من التدريس، جرى نقله إلى قرية بيت فجار ليكون المعلم الوحيد فيها. ولكي يقاوم العزلة، والتخلف المهيمن على القرية، كان يذهب إلى القدس يومَي الخميس والجمعة زائراً لرابطة المثقفين العرب، ومجلة الغد. وهناك يتحاور ويتعرف إلى الجديد من ترجمات كثيرة ومجلات عربية مختلفة، منها الطريق اللبنانية. فضلاً عن شراء 3 - 4 كتب وكْرّاساتٌ ونشرات. ولم يكن حتى ذلك الوقت، كما يقول، قد أصبح «مناضلاً حزبياً» (ص 28). وإذ يؤكد ورّاد التأثير الملحوظ لعصبة التحرر الوطني ورابطة المثقفين العرب فيه، يقول عنهما: إنهما «الأقرب لميولي ورغباتي وأفكاري التي أصبحت تنجذب بحماسة للنظرية الماركسية» (ص 28 - 29). وفي غزّة التي عُيّن في كليتها معلماً للرياضيات والطبيعيات، التقى علي عاشور، صديقه وزميله في الدراسة بالكلية الرشيدية. ومما زاد سروره بالتقائه أنه وجده «عضواً في عصبة التحرر الوطني»، وصديقاً لمؤتمر العمال و«جمعية العمّال» (ص 29). وكان ورّاد يقضي معظم أوقات فراغه في الجمعية المذكورة، يلتقي العمّال ويسهم مع «إدارتها في كتابة البيانات والمعاملات والمذكرات» (ص 29). وفي ضوء ما تقدم، كانت الخطوة المتوقعة هي انضمامه للعصبة.. وهذا ما حدث، إذ كان «من الطبيعي أن أنضم لتنظيم العصبة، وسرعان ما تم اختياري عضواً في اللجنة المسؤولة عن منطقة غزّة..» (ص 29). كان ذلك في العام 1945. وبعدها بقليل صار عضواً في اللجنة المركزية، وتفرّغ للعمل السياسي، وهو يبلغ من العمر نحو عشرين عاماً، أو يزيد قليلاً.

عندما صدر قرار التقسيم العام 1947، وافقت العصبة عليه، «رغم ما فيه من إجحاف، وذلك تجنباً لمأساة رفضه» (ص 35). «ولكن هذا الموقف لم يعجب الأكثرية من الناس...» (ص 32).

فضلاً عن الموافقة على القرار المذكور، كانت العصبة تدعو إلى «استقلال فلسطين وإنهاء الانتداب البريطاني عليها، وإقامة دولة ديمقراطية في فلسطين لجميع سكانها العرب واليهود» (ص 33).

قد يتساءل المرء: ما الصلة بين موافقة الاتحاد السوفييتي على القرار المذكور، وموافقة العصبة عليه «رغم ما فيه من إجحاف». إعجاب ورّاد الشديد بالاتحاد السوفييتي لافت للنظر. فليس غريباً أن يكرر أنه كان «على حق» بهذه المناسبة أو تلك. ورغم ذلك، فإنّه يؤكد أننا «كنا نعمل ما نعمله انطلاقاً من مصلحة الشعب والوطن أولاً وأخيراً» (ص 65).

من الجدير بالذكر، أن ورّاد عند انقسام المشاركين في كونغرس العصبة بين مؤيد للتقسيم ومعارض له، كان من المؤيدين. وفي تلك الأثناء أصدرت الأحزاب الشيوعية في سورية ولبنان والعراق، بياناً يؤيد التقسيم. وهنا يُطرح السؤال الآتي: ما تأثير الموقف السوفييتي في هذا البيان؟

ترتّبَ على الموافقة على قرار التقسيم، ومناهضة حرب 48، أن اُتهم أعضاء العصبة بالخيانة، كما أن هؤلاء الأعضاء تشتتوا، شأنهم في ذلك شأن شعبهم. وفي أيار/مايو 1951، عندما وجدوا أنفسهم «أردنيين» بعد الضم الذي وقفوا ضده، وليس «ضد الأردن»، كما يقول، تغيّر اسم العصبة، وذلك بعد انضمام الماركسيين الأردنيين إليه.

وإذا كان ورّاد أصغر عضو في اللجنة المركزية، فقد كان في برلمان 1956 - 1957 أصغر نائب، إذ لم يكن يتجاوز الثلاثين سنة إلا بأيام. ومن تداعيات إقالة حكومة النابلسي في نيسان/إبريل 1957 اعتقال ورّاد وزجّه في سجن الجفر، ثم الحكم عليه بمقتضى محاكمة سرية. وقد قضى معتقلاً ثماني سنوات من عمره.

ثمّة وقائع عديدة حدثت بين إطلاق سبيله، العام 1965، وانتخابه العام 1976 أميناً عاماً للحزب الشيوعي الأردني، وهناك مواقف عديدة اتخذها الحزب بقيادته لا يتسع المقام لتسليط الضوء عليها، لعل أبرزها، معارضة فك الارتباط، مؤكداً أننا «كنا وما زلنا نعتبر أن العلاقة بين الأردنيين والفلسطينيين علاقة وثيقة جداً، وهي مرشحة دوماً لتكون مثالاً يحتذى في الوحدة والمصير المشترك» (ص 117).

يختم ورّاد مذكراته قائلاً إنه ليس نادماً على خياراته الفكرية، ولا على ما مضى من حياته في السجون والمنافي. لقد فهم الشيوعية على أنها «انحياز للعدالة وللمستقبل وموقف ضد الظلم والاستغلال، وإنها مع الإنسان ودفاع عنه، وهي ضد العدوان». ولهذا فإنّ اختياره لها اختيار ثابت وحقيقي. يقول: «لهذا كان أعداء حزبنا هم أعدائي، وهم على وجه التحديد: المحتلون الصهاينة والإمبريالية الأميركية المنحازة للاحتلال الإسرائيلي لأرضنا الفلسطينية العربية» (ص 122).

فائق ورّاد في مذكراته نَهَلَ أفكار التقدّم في مدينة مُحافِظة
 
01-Aug-2009
 
العدد 2