العدد 2 - ثقافي
 

والتر ليبمان و«جمهور الأشباح»

أصدر الصحفي الأميركي الشهير والتر ليبمان العام 1925 كتاباً عنوانه جمهور الأشباح، تأمّلَ فيه فاعلية الدعاية الإعلامية، التي تقنع الجمهور بأن ممثليه السياسيين يفعلون ما لا يستطيع فعله، وأنهم يُؤمّنون مصالحه ومصالح بلاده. ومع أن الكتاب بدا، ذات مرة، جزءاً من الماضي، فإن أزمة «الليبرالية الجديدة» بعثته من جديد، فحظي بأكثر من قراءة، في بلاده، وفي فرنسا بشكل خاص.

تكمن أسباب بعث الكتاب في خطابه الملتبس الذي يدافع، في وجه منه، عن الدور الحاسم للنخبة السياسية في تقرير شؤون المجتمع والوطن، وينقد، في وجه آخر، غلوَّ الخطاب الإعلامي السياسي في قمع عقول البشر وتحويلهم إلى قطيع قليل المشاكسة. يتحدّث الكتاب عن سلبية الجمهور، الذي لا يختلف عن «المتفرّج المسرحي الأصمَّ الجالس في الصف الأخير»، الذي يغلبه النعاس دون أن يكترث بالعرض الذي يدور أمامه. والسؤال الذي لا بدّ منه: هل تعود سلبية الجمهور إلى طبيعته، أم إلى الآلة الإعلامية التي تنتج سلبيّته؟

يعثر ليبمان على الجواب في فكرة «اللامرئي»، التي تعني أن تعقّد القضايا السياسية والاقتصادية يدفع بالجمهور إلى تعيين غيره ناطقاً باسمه، مقتنعاً بثنائية النخبة/العامة، حيث الأولى تفكّر وتقرّر، والثانية تقبل وتنصاع. تلغي هذه الثنائية، في المجتمع الديمقراطي، معنى الديمقراطية، وتحوّل «حكم الشعب بالشعب» إلى تحكّم الأقلية بالأكثرية. وتصبح «الإرادة الجماعية» مهملة مستحيلة، لا يختلف حالها عن حال «الإنسان البدين الذي يحلم بأن يكون راقصاً يشدّ إليه الأنظار»، كما يقول ليبمان، ذلك أن الجمهور السلبي عاجز عن وضع برنامج سياسي، وعاجز أكثر عن صوغ سياسة اقتصادية أو ثقافية.

نقدَ ليبمان سلبية الجمهور مسوّغاً ثنائية النخبة / العامة. غير أن القراءة المتأنية تعثرُ في كتاب جمهور الأشباح على نص آخر ينقد في «الديمقراطية البرجوازية» وجوهاً عديدة: فالديمقراطية مثال جميل أكثر منه حقيقة فعلية، الأمر الذي يضع في تطبيقها صعوبات كثيرة، ويصيّر «التعدّدية السياسية» أحادية سياسية. وعلى هذا فالمطلوب ليس تحويل الديمقراطية إلى «شعار غنائي» حاشد بمبالغات تقلب الديمقراطية إلى نقيضها، بل التعامل معها بوصفها مثالاً نبيلاً، يُسهم في صياغتها البشر جميعاً. يتضمن كتاب ليبمان، في جوهره العميق، خطابين متناقضين، يدافع أحدهما عن الليبرالية الجديدة ونزعتها النخبوية، التي تقصي الشعب خارجاً، وينقد ثانيهما الديمقراطية الشكلانية، ويطالب بإصلاح سياسي، يقصّر المسافة بين النخبة السياسية المحترفة والجمهور.

Walter Lippmann, Le Public fantome , Demopolis, Paris, 2008, 191  p.

جاك رانسيير المتفرّج المتحرّر

يستأنف رانسيير، وهو واحد من وجوه الفلسفة الأوروبية المعاصرة، في كتابه الجديد المتفرّج المتحرّر، فكرته الأساسية عن علاقة المثقف بالجمهور، القائلة بقدرات البشر المتساوية على المحاكمة والفهم والتفكير. ينقد الفيلسوف، اعتماداً على هذه الفكرة، دعاوى المثقفين القائلة بضرورة إرشاد الجمهور وترشيده، كما لو كان هذا الأخير قاصراً عقلياً وعاجزاً عن التفكير وحده. وبسبب ذلك يرى الفيلسوف في «الأدب الهادف» صياغة أخرى لثنائية السيطرة / الإذعان، لأن هذا الأدب يقفز فوق فكرة «تساوي البشر»، ويقسم البشر إلى فئة تفهم وتفكّر وتعلّم، وفئة أخرى تحتاج إلى من يلقّنها أصول الفهم والتفكير.

تدفع قناعة رانسيير، التي لا تنقصها المبالغة ولا الارتباك، إلى نقد المسرح السياسي، في أكثر أشكاله شهرة وإبداعاً، كان ذلك عند بريشت وآرتو وبيتر فايس وغيرهم، معتبراً أن المتفرّج يتعلّم وحده ولا يحتاج إلى من يعلّمه. غير أن الفيلسوف لا يكتفي بنقد «المدارس القديمة»، فهو يقرأ تراجع فاعلية الفن في زمن الليبرالية الجديدة متوقفاً أمام ظاهرتين مختلفتين، ترتبط إحداهما بالنظريات الفنية الجديدة، وتحيل ثانيتهما على معايير السوق والتسليع.

نقد رانسيير النظريات التي تلغي الحدود بين الممارسات الفنية المختلفة، مساوية بين الشعبي وغير الشعبي، والفني والتجاري، وبين الإبداعي والاستهلاكي.. يوهم إلغاء الحدود بتعميم الفن ونشره بين الجمهور، بينما يقوم فعلياً بإلغاء الفن، لأنه لا فن إلا بما يميّزه عن غيره. وواقع الأمر، وكما يرى الفيلسوف، أن إلغاء الفن عن طريق «انتشاره الجماهيري» ضرورة من ضرورات السوق، التي تعطي السلع المختلفة شكلاً فنياً زائفاً وتختزل الفن إلى سلعة بين سلع أخرى، سلعة جميلة لا تحديد فيها، ترضي جمهوراً واسعاً من المستهلكين.

إذا كانت «المساواة بين البشر» تعبيراً عن الديمقراطية ومقدّمة لكل فن ديمقراطي، فإن سوق الليبرالية الجديدة، في سلعها المختلفة، تجسيدٌ للاستبداد وباعثٌ على إنتاج: «الفن المستبد»، رغم التباس العبارة.

دور الفن، كما يرى رانسيير، ليس «تهذيب المتفرج»، فهو ليس بحاجة إلى هذا، إنما دوره الكشف عن الواقع الحقيقي الكامن وراء الواقع الزائف، الذي تخلقه الصناعة الإعلامية. يتناقض الفيلسوف، في النهاية، مع ذاته، لأن في الكشف عن الواقع الحقيقي بُعداً تعليمياً وتنويرياً، لا يستطيع «المتفرّج المتحرّر» أن يصل إليه وحيداً. واقع الأمر أن رانسيير، تلميذ الفيلسوف الماركسي الشهير آلتوسير الذي تمرّد على أستاذه، يريد أن يكون ماركسياً وغير ماركسي في الوقت نفسه: يريد أن يكون ماركسياً وهو ينقد «صنمية السلعة»، التي تجعل البشر ينظرون إلى العالم من وجهة نظر السلع نفسها، ولا يريد أن يكون ماركسياً حين يعتقد أن «المتفرّج المتحرّر» يحرّر ذاته، ناسياً أن ماركس كان يقول: «إن التعامل مع الأعمال الفنية يحتاج إلى تربية فنية»، فالوعي الاجتماعي لا ينبثق من الروح، بل تأتي به الممارسات الاجتماعية.

Jacques Ranciere, Le Spectateur émancipé, La Fabrique, Paris, 2008 , 150 p.

هال فوستر: التصميم والجريمة

أدرج جاك رانسيير في نصه فكرتين تقول الأولى: لا ينفد الفن، في زمن الليبرالية الجديدة وانحسار الديمقراطية بعامة، إلى جوهر الواقع ويكتفي بسطحه الخارجي. وتقول الثانية: لا تسمح هيمنة أيديولوجيا السوق، في زمن تراجع السياسة، بإنتاج فن يقول الحقيقة الموضوعية. وصل الأميركي هال فوستر، الأستاذ في جامعة برنستون والمهتم بقضايا الفن، إلى موقف قريب في كتابه: التصميم والجريمة، الذي استند فيه إلى كتاب: ثقافة التسويق وتسويق الثقافة لجون سيبروك، الذي ظهر العام 2001. تأمل الطرفان الفرنسي والأميركي فاعلية الفن اليوم، ولم يصلا إلى جواب واضح، مصرّحين بالكثير من الشك وبـ«كآبة يسارية»، كما يقول بعضهم.

انطلق هال فوستر من التصور التقليدي لوظيفة الفن النقدية، التي قال بها المثقفون التنويريون في القرن التاسع عشر وجزء كبير من القرن العشرين. لكنه يقرّر، سريعاً، أن التحوّلات الاجتماعية في العقود الأخيرة أنتجت فناً له شكل جديد، لا يستطيع أن يستأنف وظيفه الفن «القديمة»، بقدر ما أنتجت جمهوراً جديداً، لم يعد يكترث كثيراً بعلاقة الفن بالسياسة ولا بالمعايير الفنية القديمة. والأساسي في كتاب هال التمييز بين الحداثة، التي قالت بـ«الاستقلال الذاتي للعمل الفني»، حيث لكل فن، مسرحاً كان أو رسماً أو سينما، حدود خاصة به وسمات وخصائص تميّزه عن غيره، و«ما بعد الحداثة» التي فتحت الفنون على بعضها وألغت «التمايز الفني» الذي استندت إليه الحداثة.

مع أن فوستر يؤيد انفتاح الفنون المختلفة بعضها على بعض، فهو يتوقف، مثل رانسيير، أمام جملة ظواهر سلبية تربك معنى العمل الفني وتعطّل وظيفته الاجتماعية أولها: غياب السمات الواضحة في الإنتاج الفني، الذي يؤدي «إلى خلط السياسة بالفن التافه والمزج بين الفن والخلاعة»، منتهياً إلى تشكيلات لا معنى لها، تفسد معنى الفن والسياسة معاً.

يدعو فوستر من أجل تجديد البحث النظري، إلى الاستفادة من «الدراسات الثقافية» في فروعها المختلفة، مثل «الدراسات البصرية»، التي لم يهتم بها المختصون الكبار، رغم الأسئلة الخصيبة التي تحضّ عليها. فلا يمكن تهميش البعد البصري في أشكال التعبير الشعبية، و«السينما» و«التلفزيون» والدعاية، ولا في «التمثيلات البصرية الخاصة بالفن العسكري والطب والصناعة»، التي تجعل من عالمنا «فرجة واسعة قوامها السلع والتكنولوجيات البصرية والمعلومات والتسلية». تفتح هذه الظواهر الحداثة الكلاسيكية على ظواهر ما بعد الحداثة، وتقضي بتصور نظري يرى تداخل الظواهر المختلفة ولا يخطئ السمات الخاصة بكل منها.

يتقاسم كتابا رانسيير وفوستر السؤال التالي: كيف يمكن للوعي النقدي التنويري، الذي تأقلم كثيراً مع معطيات النصف الثاني من القرن العشرين، أن يتكيّف مع «المجتمع المعلوماتي» وأن يحتفظ برسالته السياسية التي تريد تغيير العالم؟ ينطوي الكتابان على وعي مأزوم، يدافع عن الحداثة ويرفض عدمية ما بعد الحداثة، ويحلم بتغيير العالم في زمن انحسار السياسة. إنها فضيلة الوعي القلق، الذي يدرك أن الأزمنة الجديدة لا تقبل بالإجابات القديمة. وهذا الوعي هو الذي أيقظ كتاب ليبمان من سباته، وأعطاه قراءة متجددة.

Hal Foster, Design & Crime, Les Prairies ordinaires, Paris, 2008, 92 p.

الليبرالية الجديدة وصناعة الجمهور
 
01-Aug-2009
 
العدد 2