العدد 2 - حريات | ||||||||||||||
كان عبد الله، 19 عاماً، في الثالثة من عمره، عندما بدأت تصيبه نوبات غير مفهومة من الضحك الهستيري، تليها نوبات أخرى من البكاء الشديد، وقد شخّص الأطباء حالته بأنها «ذهان طفولي»، مصحوب بإعاقة عقلية متوسطة. التشخيص كان بداية انقلاب هائل في حياة عائلة زيدان قريع المقيمة في رومانيا، فقد اضطرت إلى العودة للأردن لمتابعة حالة الطفل، حيث أُدخل إلى أحد المراكز الخاصة النهارية، حتى بلغ الرابعة عشرة. يقول والده: «كان عبد الله يكسّر ويخرب ويعتدي على الآخرين بالضرب، لكنه في النهاية كان طفلاً يمكن السيطرة عليه»، أمّا المشاكل الحقيقية فقد بدأت عندما أصبح يافعاً، إذ «ازداد سلوكه عدوانية وشراسة، ولم يعد بالإمكان ضبطه». أرسل قريع ابنه إلى «مركز جرش لرعاية المعاقين» الذي يقدم خدمتَي الإيواء والتأهيل، ومكث عبدالله هناك خمس سنوات، قبل أن يعيده المركز مطلع العام الجاري، لأنه «ليس بالإمكان الإبقاء عليه أكثر»، فهناك كثيرون على قوائم الانتظار، وبحاجة لأن ينالوا فرصتهم هم أيضاً، بحسب ما قاله قريع لـ«ے» نقلاً عن إدارة المركز. قريع يضيف بحسرة، أن عائلته «على وشك أن تدمَّر»، لأن ابنه الذي أصبح شابّاً الآن، «يشكل خطراً حقيقياً على نفسه وعلى أسرته»، وقد حاول مؤخراً إحراق المنزل، ما تطلّب استدعاء رجال الدفاع المدني الذين حوّلوه إلى الأمن العام، ثم حُوِّل إلى المحافظ، الذي حوّله بدوره إلى وزارة التنمية، لكنها رفضت استقباله، فأعيد إلى أسرته. عبد الله، نموذج لحالات كثيرة لأشخاص يعانون من إعاقات عقلية متوسطة وشديدة، تقول أسرهم إنها تعجز عن التعامل معهم، في الوقت الذي تقرّ فيه وزارة التنمية الاجتماعية أنها لا تستطيع بإمكاناتها الحالية أن توفر لهم «أكثر من خدمة إيواء لمدة محددة»، كما تقول مديرة «شؤون المعاقين» في الوزارة فوزية السبع. لا رقم محدداً لأعداد المعوقين عقلياً في الأردن، ففي حين قدّر البنك الدولي أن نسبتهم تراوح بين 2 و4 في المئة من عدد السكان، فإن التعداد العام للسكان الذي أجري العام 2004، يؤكد أنهم يشكلون 1.2 في المئة، تبلغ نسبة المعوقين عقلياً نحو 16 في المئة منهم. هناك ثلاثة مراكز فقط تقدم خدمة الإيواء لهؤلاء في البلاد، في جرش والكرك والرصيفة، تبلغ طاقتها الاستيعابية مجتمعةً 400 سرير تقريباً، وينتفع منها فعلياً 444 معوقاً، وهي لا تقدم خدمة الإيواء الدائم، بل هي «مراكز تأهيل تساعد المعوقين على الاندماج في أسرهم»، وفقاً للسبع، التي أوضحت في تصريح لـ«ے»: «هناك اتجاه عالمي يدعو إلى أن يكون المعوق جزءاً من المجتمع، لذلك يقضي النظام الداخلي لمراكز الإيواء والتأهيل ألاّ يبقى المعوق في المركز أكثرَ من سنة، تجدَّد في حالات استثنائية بعد دراسة حالته ووضع أسرته». أما خدمة الإيواء الدائم، فإنها تقدَّم لفئات محددة، تشمل «مجهولي النسب، والقادمين من عائلات مفككة، وآخرين يُعثر عليهم في الشوارع، ويتم الإبلاغ عنهم دون أن يتقدم أحد من ذويهم لتسلّمهم». المشكلة، كما يقول عاملون في مجال رعاية المعوقين، تكمن في أن كثيراً من الأهالي يرفضون تحمّل مسؤولياتهم، ويريدون أن يبقى أبناؤهم في مراكز الرعاية «إلى الأبد». مدير مركز جرش عوض سميرات، يؤكد لـ«ے» أن المعوقين «يتلقون تدريباً يؤهلهم للاعتناء بأنفسهم، وقضاء حاجاتهم اليومية الأساسية، وعلى أُسرهم أن تكمل المهمة». لكن قريع يرى أنه لا تأهيل حقيقياً تقدمه «التنمية»، وأن مراكزها ليست أكثر من «مضبّة» للمعوقين، ويوضح: «ابني دخل وخرج من المركز دون أن يكتسب أيّ مهارات». الأمر الذي يرد عليه سميرات بقوله إن المعوق، عندما يعاد إلى أسرته، «لا تتم متابعته من ذويه، ما يؤدي إلى فقدانه المهارات التي تعلمها»، ويضيف: «كثيراً ما يأتي المعوقون إلى المركز في حالة مزرية، ويعاني عدد كبير منهم من تشوهات في أجسادهم نتيجة سوء المعاملة». لكن قريع يصف كلام سميرات بأنه «كلمة حقّ يُراد بها باطل». يقول: «نعم، هناك عائلات تؤذي أبناءها المعوقين، لكن ذلك ليس قاعدة، وينبغي عدم استخدام حالات فردية كهذه مبرراً للتقصير الحكومي». يشير العامل في مجال رعاية المعوقين صادق الوزني، إلى «حلقة مفقودة» بين «التنمية» وأهالي المعوقين. «واضح أنه يجب أن يكون للوزارة دور أكبر في تأهيل أهالي المعوقين، وإرشادهم إلى طريقة التعامل مع أبنائهم». لكنّ أسراً في المقابل تقول إن التعامل مع الإعاقات المتوسطة والشديدة أمرٌ يفوق طاقتها، وإن الأسرة تجد في الغالب أن عليها أن «تضحّي بحياتها في سبيل المعوق». عادل، 64 عاماً، لديه ابن معوق يبلغ الآن التاسعة والثلاثين من العمر، أُصيب عندما كان في الرابعة في رأسه أثناء اللعب، ما تسبب بإعاقة عقلية شديدة. يقول عادل إنه عَرَض ابنه خلال سبع سنوات على عدد كبير من الأطباء، وسافر به إلى ألمانيا، إلى أن سَلَّم أخيراً بأنه «لا علاج»، واتخذ نتيجة ذلك ما يصفه بـ«القرار الصعب»: وضع ابنه في دار للإيواء. «أدركت وزوجتي أننا سنخسر أنفسنا وبقية أولادنا، كنّا في حالة طوارئ طوال اليوم، كانوا يكسر كل ما تحت يده، ويضرب كل من يراه، ويفتح الثلاجة ويرمي ما فيها من أطعمة على الأرض، لم نعد نزور أحداً لأنه لا يمكن تركه وحده أو مع أحد من إخوته الذين كان يقلّدونه في كل ما يفعل، وأصبح الناس يتجنبون زيارتنا لأنه يؤذيهم، ولم نكن نستطيع اصطحابه إلى حديقة أو «سينما»، ولا حتى تناول الطعام داخل المنزل بسلام». هذا الرأي يتبناه الوزني، الذي لديه هو نفسه ابن معوق في السابعة والثلاثين من عمره. «معظم وقت الأبوين يكرَّس لابنهما المعوق، بحيث لا يعود لديهما وقت لا لأبنائهما الآخرين، ولا لنفسيهما». يضيف الوزني: «حتى الأمور الصغيرة المتعلقة به تتحول إلى مآسٍ، مثلاً اضطر ابني مرة إلى خلع ضرس، عملية صغيرة مثل هذه تتم بدقائق في عيادة أسنان، لكن الأطباء أجروها له في غرفة العمليات تحت التخدير الكامل وكلفتني 600 دينار». عادل، الذي يمتلك تجارته الخاصة، يدفع 800 دينار شهرياً لمركز خاص، هو، وفقاً لبيانات منشورة على موقع وزارة التنمية الاجتماعية، واحد من بين 35 مركزاً خاصاً توفر خدمة الإيواء للمعوقين عقلياً، وينتفع من خدماتها نحو 750 معوقاً. ويقول الوزني إنها تتقاضى مبالغ تتراوح بين 350 ديناراً و1700 دينار شهرياً. في حين أن مركزاً واحداً فقط من 64 مركزاً تابعاً للقطاع التطوعي يقدم خدمة الإيواء، طاقته الاستيعابية 30، وينتفع منه 31 معوقاً، ويتقاضى مبلغاً يراوح بين 50 ديناراً و200 دينار، حيث تساهم وزارة التنمية الاجتماعية بتغطية جزء من التكلفة. هذا مقابل 2 - 10 دنانير شهرياً، تتقاضاها الوزارة عن إيواء المعوق ورعايته، في الوقت الذي تبلغ فيه التكلفة الفعلية للمعوق وتتحملها الوزارة، 400 دينار شهرياً، بحسب السبع. كثيرٌ من الناس غير قادرين على دفع مثل هذه المبالغ، وهؤلاء يقبع أبناؤهم المعوقون في قوائم الانتظار، ويبلغ عددهم 1085 معوقاً. تقول السبع إن الأسر التي «ظروفها قاهرة»، ولا تستطيع الانتظار، يمكن إدخال ابنها إلى المركز إذا أبدت استعدادها لدفع مبلغ مالي أكبر من الرسم المحدد، حيث تُنفَق هذه المبالغ في «تحسين خدمات المركز». هذا ما حدث مع أسماء، 38 عاماً، التي بقيت في مركز جرش سنة، كان أهلها يدفعون خلالها 120 ديناراً شهرياً. وهو أمر يرى الوزني أنه غير عادل. «هذا يعني أن هناك من يأخذ فرصة غيره، فقط لأنه قادر على الدفع». المعوقون عالقون في الوسط ما بين أهاليهم ووزارة التنمية، ولا يبدو أكثر تعبيراً عن هذه الحقيقة من الطريقة التي يرى ذوو معوقين |
|
|||||||||||||