العدد 2 - من حولنا | ||||||||||||||
اتهامات «موثّقة» في توقيت مشبوه، ومن قلب عمّان، نكأت جرحاً لم يندمل لدى الفلسطينيين، وجدّدت التساؤلات عن الغموض الذي لفّ وفاة قائد الثورة الفلسطينية ياسر عرفات في خريف العام 2004. رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية فاروق القدومي رمى قنبلته الصوتية ومشى. ثم تداعت أصداء اتهاماته بأن غريمه في حركة فتح محمود عباس، أبو مازن، تواطأ لتسميم عرفات مع رئيس وزراء إسرائيل المشلول أرييل شارون. الشكوك بموت عرفات مسموماً ليست جديدة، لكن صدورها عن أحد أعمدة فتح التاريخية في هذا التوقيت، يثير علامات استفهام كثيرة، بخاصة أن اتهاماته لامست تخوين رئيس السلطة وزعيم فتح الذي نجح في «اختطاف» مؤتمر الحركة السادس إلى داخل الأراضي الفلسطينية. بصرف النظر عن صدقية القدومي ومراميه الكامنة، فقد عزّزت اتهاماته قناعةً متنامية لدى غالبية الفلسطينيين وسائر العرب، بأن إسرائيل أجهزت على عرفات بعد عامين من احتجازه داخل ركام مبنى المقاطعة في رام الله. وهذا ما أعلنه لوسائل الإعلام مراراً، الطبيب الخاص لعرفات، الأردني أشرف الكردي. لكن الجديد هو التهمة بـ«تواطؤ» خليفة عرفات ورفيق دربه، عباس، مع ألدّ أعداء الشعب الفلسطيني، شارون، الذي يتأرجح بين الحياة والموت منذ ثلاث سنوات. تسريبات القدومي، أبو اللطف، رُتّبت مساء 12 تموز/يوليو 2009، مع ثلاثة صحفيين تابعين لصحف يومية؛ نادية سعد الدين من الغد، أسعد العزوني من العرب اليوم ورياض منصور من الدستور، إضافة إلى شاكر الجوهري الذي يكاتب صحفاً خليجية عدّة. وحدها مندوبة الغد نشرت مضمون حديث القدومي، في 14 تموز/يوليو بعد أن صوّت اجتماع التحرير لصالح النشر. فضائية الجزيرة التقطت الخيط، وبثت سلسلة تقارير تلفزيونية وأخرى على موقعها الإلكتروني، ما أثار زوبعة من التساؤلات، ذلك أن الاتهام صدر عن الرجل الثاني في حركة فتح ليؤكد بـ«التوثيق» وجود تواطؤ بين إسرائيل وخليفة عرفات أبو مازن، ومسؤول الأمن الوقائي السابق في قطاع غزة محمد دحلان. الرد جاء سريعاً من السلطة الفلسطينية التي أغلقت مكاتب الجزيرة في الضفة الغربية، واتهمتها بـ«الانحياز» في تغطيتها لصالح حماس الإسلامية. وأكد عبّاس والآلة الإعلامية للسلطة أن ما يصفها القدومي بـ«الوثيقة» نُشرت بأشكال مختلفة سابقاً على مواقع إسرائيلية، وحماسية في قطاع غزّة. في السياق، احتدم التراشق بالاتهامات بين مواقع إلكترونية تدور في فلك السلطة، وأخرى تابعة لحماس. وواصلت الجزيرة تشريحها للغز عرفات، عبر تخصيص حلقات حوارية، خرجت إحداها بتصويت نتيجته أن 91 في المئة من متابعي موقع الفضائية القطرية يعتقدون أن أبو مازن ودحلان شاركا في مؤامرة اغتيال عرفات. يُذكر أن عمليات التصويت قابلة للتلاعب بها عبر التصويت المتكرر. الحكومة الأردنية، لم تشأ الظهور بمظهر المؤيد، فطلبت من القدومي التوقف عن إصدار أي تصريح لحين خروجه من البلاد، بحسب ما أكد مسؤول رفيع، وأحد مساعدي القدومي. وهكذا صمت القدومي طيلة بقائه في عمّان لمعالجة أسنانه، حتّى غادرها إلى مقر إقامته الرسمي في دمشق مطلع الثلث الأخير من تموز/يوليو. وزير أردني، أكد لـ«ے»، أن الأردن لم يكن لديه علم مسبق بتصريحات القدومي، وأن المسؤولين الأردنيين تفأجأوا بها، مثلهم مثل غيرهم. الوزير الذي اشترط عدم ذكر اسمه، يعتقد أن «القدومي جاء إلى عمّان خصيصاً ليقول ما قاله، لأنه لا يتجرأ على إطلاق مثل هذه التصريحات من دمشق، حيث يقيم». وبحسب ما يرى الوزير، فإن ما أدلى به القدومي يجيء ضمن ردة فعله الغاضبة، على إثر إقرار عقد مؤتمر فتح بمدينة بيت لحم. أحد المواقع الإسلامية (وكالة حياد الإخبارية)، نَشر في 18 تموز/يوليو، تتمة للاتهامات الأولية بعنوان «القدومي يفجر قنبلة جديدة: تسجيلات صوتية لعرفات يتهم بها أبو مازن». لكن لدى محاولة التأكد من هذا النبأ، نفى مساعد القدومي، عمر الشكعة، صدور أيّ تصريحات جديدة عن المسؤول الفتحاوي. سياسياً، تكشف اتهامات القدومي شرخاً واسعاً في كبرى الفصائل الفلسطينية، تعمّقَ بعد أن حسمَ أبو مازن عقدَ مؤتمرها السادس في بيت لحم. وبذلك خطفَ راية الحركة إلى الداخل، بعد تعطُّل دام 20 عاماً، منذ التئام مؤتمرها الخامس في تونس. مصادر فتحاوية محسوبة على أبو مازن في رام الله تتوقع أن «تتجذر صناعة قرار الحركة داخل الوطن. بخلاف بوصلة حماس التي تتأرجح بين دمشق وطهران». هذا التوجه إلى الداخل «أقلق أبو اللطف الذي بات يخشى فقدان موقعه» بعد نصف قرن من انطلاقة فتح. تتحدث المصادر ذاتها عن احتمالية أن يجمّد مؤتمر فتح عضوية أبو اللطف، ويعمّق الانقسام مع قيادات الخارج، التي رفضت دخول مناطق الحكم الذاتي مع عرفات منتصف العقد الماضي. مصدر في عمّان مطلّ على حركة فتح، يرى أن سهم القدومي «لن يفيده بقدر ما قد يقوّض موقف دحلان وتقوية نفوذ عدد من منافسيه، في مقدمتهم أحمد قريع، جبريل الرجوب، ورئيس المجلس التشريعي السابق روحي فتوح». القدومي، الذي يستشهد بأن أبو مازن رفض تشريح جثة عرفات في فرنسا، ساهم في إزالة الحواجز بين ألدّ أعداء الأمس؛ أبو مازن وسهى عرفات، أرملة الزعيم الراحل. إذ أصدرت سهى بياناً رفضت فيه «هذا التجني غير المسؤول ضد رفيق درب أبو عمار»، ونفت أن يكون زوجها أطلعها «على الوثيقة المزعومة»، عادّة أنها «تحمل في طياتها جانباً يبرّئ إسرائيل». ومضت إلى القول: «أرفض وأدين هذا الاستغلال من أبو اللطف لموضوع استشهاد الرئيس الرمز، من أجل حسابات ومصالح لا علاقة لها بالشعب الفلسطيني ونضاله ضد الاحتلال». مصادر فلسطينية في رام الله، تؤكد أن سهى هي من «رفضَ تشريح جثّة عرفات»، وليس أبو مازن. كما منعت أبو مازن وابن شقيقة عرفات، ناصر القدوة، من رؤيته في المستشفى الفرنسي. وسمحت فقط لرئيس الوزراء الأسبق أحمد قريع، أبو العلاء، بالدخول إلى غرفته. ووصف مصدر فلسطيني «وثيقة» أبو اللطف بأنها «كلام فاضي»، مضيفاً أن أبو مازن «لم يكن يلتقي بالإسرائيليين في تلك الفترة، ولم يكن يتحاور مع شارون». المصدر اتهم أبو اللطف بـ«تلقي دعم من إيران ليبقى في دائرة الضوء، ويقوض أسس السلطة الفلسطينية». القدوة يرأس Arafat Foundation في رام الله، وهي مؤسسة معنية بالحفاظ على إرث الرجل والبحث عن أسرار موته. مصادر مقربة من المؤسسة كشفت أنها رتبت عقد لقاء لها في عمّان العام الفائت، إلا أن الفندق اعتذر عن استضافة المشاركين بعد أن كان وافق على ذلك. كما تراجعت شخصية أردنية رفيعة من أصول فلسطينية عن استضافة مجموعة المؤسسة على حفل عشاء. «ے» اتصلت مرتين بالقدوة، لمعرفة رأيه بتصريحات القدومي، لكنّه اعتذر عن التعليق بدعوى انشغاله باجتماعات. المستشار السياسي السابق لأبو عمار، بسّام أبو شريف، يؤكد أن أبو مازن لم يكن ضالعاً في عملية تصفية عرفات. كان أبو شريف اتهم إسرائيل بقتل الزعيم الفلسطيني بالطريقة نفسها التي قتلت فيها وديع حداد، أحد زعماء الجبهة الشعبية في ألمانيا الشرقية، العام 1978. وأوضح في مقابلات صحفية سابقة أن «السم الذي دُسّ لعرفات في الطعام غريب، يدخل ويقتل من خلال مسام التذوق في اللسان. ويستغرق بين ثمانية أشهر إلى عام حتى يقتل ضحيته. أي أن مفعول هذا السم بطيء ويعمل على تعطيل أجزاء الجسم الداخلية وآلياته واحدة تلو الأخرى حتى يصل إلى الدماغ، ومن ثم يقتل ضحيته». إلى ذلك، أكد أن «الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك يعرف جيداً هو وأطباؤه الثلاثة، أن عرفات مات مسموماً، إلا أنه لم يفصح عن ذلك من أجل المصلحة الفلسطينية». قبل اتهامات القدومي التي جاءت بنكهة سياسية، وبعدها أيضاً، يبدو أن موت عرفات سيبقى لغزاً محيراً. وسيبقى هذا الملف الغامض مفتوحاً، فيما يرقد جثمان الراحل مؤقتاً بجوار بحيرة ماء على سفح تل في رام الله، لحين نقله إلى القدس. |
|
|||||||||||||