العدد 2 - الملف
 

في ظهيرة تموزية حارقة كنت أقف وزوجتي أمام الفندق. لولا موعد غداء في بيت صديق ألحَّ، بشكل مزعج، على حضورنا لما غادرنا بهو الفندق المكيف. إنها ساعة الذروة. الشمس تقف عمودية فوق الرؤوس. أخيراً توقفت سيارة أجرة. فتحتُ الباب الخلفي وصعدنا، زوجتي وأنا، نقطر عرقاً. لم تتحرك السيارة. كان السائق ينظر إلينا من مرآته. لم أفهم. أعدت التأكيد على العنوان الذي نقصده، فقد ظننت أنه لم يسمعني أول مرة. قلت له: في إشي؟ فقال: إيوه في. فقلت: شو؟ فقال وهو يوالي النظر إليّ من المرآة: تفضل اقعد قدام! أدركت لحظتها لِمَ لم يتحرك السائق. فقلت له: هذه زوجتي وهذا دفتر العائلة. أخرجت دفتر العائلة، فعلاً، من حقيبتي وعرضته عليه. لكن السائق لم يعره اهتماماً. فقال وهو يواصل النظر إليّ من المرآة: دفتر عائلة ما دفتر عائلة ما بعرف. بدك تقعد قدام ولا بتنزل من السيارة؟ الحرّ الشديد وإصرار السائق على أن أجلس بجانبه كادا يفقدانني أعصابي. تعرف زوجتي فورتي العصبية وتخشى عواقبها. تعرف أيضاً أننا لن نجد سيارة أجرة بسهولة، فقالت لي تفادياً للأسوأ: روح اقعد قدام.

خطر لي أن الأمر يتعلق بزوجتي، التي لم يصدق السائق أنها زوجتي رغم أنني عرضت عليه إثباتاً حكومياً على صحة زعمي لا يرقى إليه الشك، ورغم أن كل شيء فينا يدل على أننا طاعنان في الزواج والأمومة والأبوة.

حاولت أن أحلل موقف السائق. تصرفه لم يكن وليد لحظة مزاجية سيئة. الأمر، إذن، يتعلق بعرف. بعادة. وبجلوسي إلى جانب زوجتي في المقعد الخلفي خرقت عرفاً واجتزت حدود «المتواضع» عليه في المدينة التي غادرتها في وقت لم تكن فيه سيارات الأجرة شائعة، ولا أعرف، بالتالي، التدبير المناسب لاستقلالها.

في زيارتي صيف السنة التالية لم أصحب زوجتي معي. ذهبت لزيارة أمي في مستشفى عسكري يقع على أطراف العاصمة. نسيت موقف العام السابق وعلى نحو أوتوماتيكي جلست في المقعد الخلفي. لكن السيارة لم تتحرك. نظرت إلى مرآة السائق الأمامية. رأيته ينظر إليّ. لم تكن عيناه بضراوة سائق العام السابق. لكن موقفه كذلك. قلت له، وأنا أنظر إليه في المرآة: شو الحكاية؟ فقال: أبداً. فقلت له: بدك تمشي ولا شو؟ فقال: مش أحسن تقعد قدام؟ فقلت: لأ، مش أحسن. فقال: ليش حضرتك منرفز؟ فقلت له: شي بينرفز. فقال: ليش لا سمح الله؟ فقلت: لأنو حضرتك ما بدك تتحرك إلا إذا قعدت قدام، وأنا ما بدي أقعد قدام، شو رأيك؟ فقال: على راحتك. وانطلقت السيارة. لم تكن كلمة «على راحتك» نهاية المطاف. لم يقبل السائق الشاب، على ما يبدو، أن ينتهي الأمر بانتصار سريع لصالح الراكب الذي خرق عرفاً متواضعاً عليه، أو ربما أراد أن يعرف طينة هذا الراكب الجريء الذي قرر، عن سبق إصرار وترصد، أن يجلس في المقعد الخلفي. بدا لي أنه لم يصادف وضعاً كهذا من قبل. نظر إلي السائق الشاب من المرآة وقال: واضح إنو حضرتك مش من هون. فقلت له: ماذا تعني بذلك. فقال: مش من البلد. فقلت له باقتضاب: لأ، من هون. فقال: أكيد مغترب. وافقته على استنتاجه. تباسُط الكلام بيننا وهدوء نبرته دفعاني لاستقصاء جذر مشكلة جلوس الراكب في المقعد الخلفي في بلادي التي غادرتها منذ زمن طويل. قلت له: أنا بعرف ليش بدك إياني أقعد قدام. فقال: ليش؟ فقلت له: لأنو راح تفكر إنك شوفير عندي. فوجىء بكلامي. واصلت: إنت شو بتشتغل؟ فقال: سائق تكسي. فقلت له: تقصد سيارة أجرة؟ فقال: مثل ما بدك. فقلت: لأ مش مثل ما بدي. أولاً كلمة شوفير مش عيب. هاي شغلتك، وظيفتك اللي بتعيش منها. وعشان هيك إنت شغّلت العداد من أول ما ركبت، يعني بلّشت تحسب الأجرة إللي راح أدفعها إلك. فقال: ولو، السيارة على حسابك. أخبرته أن الأمر ليس خدمة شخصية. فأنا لا أعرفه. ولا هو يعرفني. وأن ما بيننا تعاقد محدود. هو يوصلني إلى العنوان الذي أقصده، وأنا أدفع له مقابل ذلك أجرته، وبما أنني استأجرت سيارته لفترة من الوقت، وبما أنها مرخصة قانونياً على هذا الأساس، فمن حقي أن أجلس في المقعد الذي يريحني. صمت السائق الشاب. ظننت أنني فزت عليه بالضربة القاضية. ولكن قبل أن أهبط من السيارة نصحني أن لا أدخل في هذا الجدل مرة أخرى، فليس كل السائقين «متفهمين» للأمر مثله!

زرت بلاداً عربية عديدة. لم تصادفني مشكلة أين أجلس في سيارة أجرة. طبعاً لا يمكن أن تصادف المرء مشكلة من هذا النوع في الغرب أو الشرق. لكن في عاصمة بلادي لم يتحول العمل، على ما يبدو، إلى قيمة بحد ذاتها. إنه ما زال مرتبطاً بأخلاقيات ريفية، أو بدوية، متجذرة، بسياق اجتماعي كامل يحضر فيه اسم العائلة أو العشيرة أو المكان الذي تحدر منه أبوه وجده. العاصمة صارت غولاً عمرانياً وبشرياً، متاهة من الطرق والجسور والأنفاق والمولات، لكنها مع ذلك لم تستطع أن تمدن، حتى الآن، سكانها الذين يتحدر معظمهم من جذور فلاحية أو بدوية. لم تصهرهم في مرجل اجتماع المدينة وقيمها رغم كل مظاهر التقدم العمراني مادية الطابع. لا يأنف الرجل أو الشاب أن يعمل سائق سيارة أجرة، لكنه في الوقت نفسه يرفض أن يدخل في التعاقد الاجتماعي والسلوكي الضمني الذي تفرضه عليه طبيعة عمله. فالجلوس في المقعد الخلفي لسيارة الأجرة يُعَدّ، في وضعية اجتماعية كهذه، إهانة شخصية: شو أنا بشتغل شوفير عند اللي خلّّفك!.

تعليمات «الشوفير»: تفضّل اقعد قُدَّام!
 
01-Aug-2009
 
العدد 2