العدد 2 - الملف | ||||||||||||||
المجال العام بهذا المعنى يمتد على مساحة مفترضة واسعة، تبدأ منذ لحظة خروج الفرد من عالمه ونشاطه الخاص، وتمحوره على ذاته لينخرط في نشاط وفعاليات مع أفراد آخرين، وينتهي لحظة وصوله إلى حدود مجال الدولة بأجهزتها وفعالياتها ونشاطاتها. بذلك يكون المجال الواقع بين دائرتَي المجال الخاص ومجال الدولة تفاعلياً في جوهره، فاتساعه وفاعليته غير محدَدين مسبقاً، ويرتهن بقدرة الفرد وحريته في الانخراط في هذا الفضاء العام غير المحدد بقواعد تستثني بعضهم، وتحابي بعضهم الآخر، في إطار من غياب المراتبية، وضمان المساواة في الفرص وضمان سيادة القانون على الجميع، وبالذات على الدولة للحد من تدخليتها وهيمنتها. فالمجال العام ليس مجالاً عاماً ما لم يتمتع بدرجة عالية من الاستقلالية، بل إن مدى اتساعه يرتبط بمدى تمتعه بالاستقلالية. والمجال العام حيز تتسم به المجتمعات الحديثة، يقوم على ارتباط الأفراد في المجتمع الحديث مع أفراد آخرين، ثم السعي للارتباط مع جماعات في إطار من انتماءات طوعية حديثة قائمة على موقع الفرد في المجتمع، ومصالحه ومدى وعيه بهذه المصالح. فلا يمكن التحدث عن مجال عام يعبّر عن جماعات منظمة ومرتبطة بأجهزة الدولة، أو جماعات تحتل هذا المجال بفعل ارتباطها القرابي غير الطوعي. لذا فإن أهمية هذا الحيز تكمن في كونه إطاراً تفاعلياً تولد فيه وجهات النظر العامة للمجتمع، وتبنى التوافقات، وفيه يتم التعبير عن مطالبات المجتمع وحاجاته، كما يمثل إطاراً لعلاقة تبادلية بين الدولة والأفراد كجماعات، بل إن هذا المجال يتسع لوجهات نظر محدودة التأثير، ولا تعبّر عن نمط عام، لكنه يتيح لأصحابها التعبير عن أفكارهم. دينامية المجال العام واتساعه يعكسان حالة متقدمة من التشاركية، تصبح مصدراً أساسياً لإضفاء شرعية على النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بصفة عامة، ومصدراً لشرعية الدولة وسلطاتها بصفة خاصة. ولكون هذا المجال مرتهناً بعاملين أساسيين هما: سياق ميلاد المجتمع الحديث، وسياق ميلاد الدولة الحديثة، فإن قراءته وفقاً لذلك تصبح أكثر صعوبة في حالة الأردن. فالمجال العام في الأردن وفي الدول المجاورة هو حيز تشكّلَ حديثاً، مترافقاً مع نشأة المجتمعات الحديثة والدولة الحديثة، وكان بذلك عرضة للمؤثرات والعوامل التي أدت دوراً في نشأة المجتمع الحديث والدولة الحديثة، وهو سيبقى متأثراً بتطورات المجتمع والدولة. والواقع أن الدولة الحديثة في الأردن، شأنها شأن كثير من دول العالم الثالث، لم تنشأ في ظل أسس موضوعية لميلاد الدولة، فلم تكن نتاجاً لتحولات اجتماعية واقتصادية فرضت ميلاد دولة حديثة تعبّر عن توازنات اجتماعية، وتمثل مصالح فئات وتيارات داخل هذا المجتمع. بل جاء ذلك في إطار تركيب هيكل الدولة الحديثة على إطار اجتماعي تم سلخه من محيطه الأوسع، وافتقد الشروط الموضوعية لإنشاء دولة حديثة بشكل تلقائي، كما هي الحال في الكيانَين الفلسطيني واللبناني، وإلى حد ما السوري، جاءت الدولة بهياكلها المختلفة أسبق على سيرورة التشكيلة الاجتماعية والاقتصادية. أي أن الدولة في تطورها الهيكلي كانت متقدمة على التطور الهيكلي للمجتمع في الأردن. هذا بحد ذاته –وخلافاً للنمط العام- أخل بعلاقة التأثير التبادلية بين الدولة والمجتمع، ووفر للدولة اليد العليا في صياغة المجتمع. وقد ساهم في استمرار هذا الدور الواسع للدولة شحُّ الموارد الاقتصادية والتبلور البطيء للطبقات والفئات الاجتماعية. أما ميلاد المجتمع الحديث في الأردن، فلم يتم في سياق سيرورة اقتصادية واجتماعية داخلية، فهذا المجتمع اجتزئ من محيط أوسع هو المشرق العربي، الذي تحولت أنماطه الاقتصادية والاجتماعية نتيجة سيادة نظام رأسمالي وُلد في أوروبا واستُقبل في مشرقنا العربي. هنالك اختلاف جوهري في بنية المجتمع الذي نتج عن التحول الذي وُلد داخلياً في أوروبا، وذلك المجتمع الذي نتج عن استقبال بلادنا لهذا التحول. ففي الحالة الأولى نشأ ضمن صراع بين قوى حديثة النشأة وأخرى مساندة للأنظمة القديمة، وكانت نتيجته انتصار القوى الحديثة التي أسست إطاراً جديداً بما فيه الدولة الحديثة والتنظيم السياسي والمدني، القائم على مصالح فئات وطبقات اجتماعية. أما في الحالة الثانية التي تنطبق على المنطقة العربية، فقد أنتج التحول مجتمعاً مُركَباً، لم تتصارع فيه القوى القديمة مع القوى حديثة النشأة، بل تعايشت مع بعضها بعضاً. لذا لم تتحول انتماءات الأفراد من البنى القديمة إلى بنى جديدة، بل تعايش الفرد مع انتماءات متعددة الجذور، بعضها يمتد الى القوى الإرثية وبعضها الآخر في القوى الحديثة. ولكون التحديث في الأردن، وربما نتيجة لخيارات الدولة في بناء شرعيتها، عملية اتسمت بالخجل دائماً، فقد ساهم ذلك في إرساء توازن أدى، في كثير من الأحيان، إلى ازدواجية فعل الفرد. لقد أنتجت هذه الحالة وضعاً ذا طبيعة خاصة، فمن ناحية هنالك مجالات تتجاوز حدود المجال الخاص للفرد، لكنها لا ترتقي لدرجة تكون فيها مجالاً عاماً رغم قيامها ببعض الوظائف الحيوية للمجال العام. ولعل أفضل مثال على ذلك هو دواوين وجمعيات العشائر أو منطقة الأصل، إذ أتاحت هذه المجالات للأفراد وبالذات الذكور منهم، اللقاء في إطار جمعي يعبّر جزئياً عن مصالحهم، وتتطور لتصبح حيزاً يتم فيه مناقشة العلاقة التبادلية بين هذا المجموع والدولة. وبالتزامن مع تطوّر المجتمع الأردني خلال العقود الستة الأخيرة، وثراء مسيرته عبر دولة الضفتين أو الهجرات الفلسطينية المتتالية، انهمكت القوى الحديثة والقوى التقليدية في صراع دائم على استيعاب أثر هذه المتغيرات. لذا فإن التركيبة كانت على مستوى عال من التشوه البنيوي. بهذا لم يعد المجال العام هو الحيز الذي ينخرط به الأفراد بفعلهم الحر، فقد اتسع هذا المجال ليتم احتلاله من جماعات غير طوعية (قرابية، جهوية، ذكورية). المجالات الموازية للمجال العام انتقصت من فاعلية هذا الأخير، وسلوك الدولة نتيجة ظروفها الإقليمية والدولية، وتحكّم رؤية وتركيبة النخبة السياسية، جعلها ذات نمط شبه تسلطي، يفرض العديد من القيود على حرية التنظيم السياسي والمدني مثل: قوانين الاجتماعات العامة، الأحزاب السياسية، الصحافة، الجمعيات، مع بناء قنوات تواصل مباشرة مع المواطنين من خلال الأطر الإرثية القائمة (عشائرية، جهوية، أطر تتعامل مع الجماعات بحكم مسقط رأسها). هذا الأمر أدى إلى ضعف بنيوي وعلى مدى زمني طويل للمنظمات المدنية والسياسية، وأدى لضعف المبادرة في بناء تشكيلات، حتى وإن كانت ذات هيكلية فضفاضة. وساهم في هذا التعقيد أيضاً إمكانية انخراط الفرد في فضاءات تسمح له بالتعبير الجزئي، أو اقتحام الأطر الإرثية للمجال العام. بهذا أصبح المجال العام في بعض أجزائه مشوهاً، فالقوى التقليدية غير المدنية فاعلة فيه وتتنافس مع قوى حديثة قائمة. إضافة إلى الدور التدخلي للدولة في المجال العام، ووجود مجالات موازية متأهبة للمنافسة، قائمة على أسس تقليدية غير حداثية، بدلاً من أساس المصالح والوعي بتلك المصالح. إن أزمة عدم بناء توافقات عامة بين قطاعات المجتمع، دفع هذه القطاعات للارتداد في انتمائها لجماعات تعبّر جزئياً عنها مثل بلد الأصل. لقد أصبح الانفصام نمطاً عاماً في الفعل المدني والسياسي، فالفرد ينخرط في نشاط مدني صباحاً وفي نشاط مناقض في إطار جماعته الإرثية مساءً. وتاريخ تطور المجتمع والدولة في الأردن يشير إلى ذلك بوضوح، ففي الفترات التي كانت تنسحب فيها الدولة من حضورها القوي في المجال العام، وتتيح للمواطنين الانخراط الحر في أطر تنظيمية أو تشكيلات غير هيكلية، يزداد المجال العام قوة. ويتيح الفرصة لنقاش عام مفتوح، ويعود إلى طرح أسئلة مهمة حول ماهية المجتمع وطبيعة التوافقات بين قواه، كما تطرح للنقاش العلاقة التبادلية مع الدولة، بل وتصبح شرعية الدولة مرتكزة على وجود المجال العام، وما يُنتجه من نقاشات. |
|
|||||||||||||