العدد 3 - بورتريه | ||||||||||||||
أمران يتنازعان حياة سهى شومان: الذكرى، والخيال. في الأول تظل رانيةً إلى وطن يحزُّه الاحتلال. كان والدها أحمد حلمي عبد الباقي، وهو بالمناسبة شاعر، تسلمَ قيادة حكومة عموم فلسطين بغزّة 1948. كما غاب شريك العمر، بعد معاناة جالدَ فيها «السرطان». وفي الثاني، لوحةٌ تجمع فيها كل حبِّها ووفائها وصبرها المسكون بحزنٍ لا يفارق ملامح تندى عن سمة الصابرين وطمأنينتهم. ولفرطِ حُبِّ يحسب أن أبناء هذا الزمان أضاعوه في متاهات الدنيا وضجيجها، اختارت الفنانة التي عشقت البترا، مثوى زوجها خالد شومان، مزاراً لها على قمة في المدينة الوردية، وفي عزلتها الصوفية، تناجي الذكرى بلوحات مقطوعة من سطح المكان وفراغاته وحزوزه وكُتَله، التي تضجّ بأصوات وأثرِ خُطى تركها الأنباط. وهي من أوائل الفنانين الذين استعاروا رملَ البترا، ومزجوا القماش بحُزَم ألوانه، وزخرفوا لوحاتهم بتعرجاته، فجاءت أعمالها تشبه حيطان الكهوف العتيقة. تعبيراً عن اهتمامها بالنسيج الاجتماعي للمنطقة، أسست سهى في العام 1989 جمعية في البترا لتوفير فرص عمل للأهالي هناك. دارة الفنون التي كان اتخذ رئيس الحكومة الأسبق سليمان النابلسي، أحد مبانيها مسكناً له، كما قائد الجيش البريطاني بك باشا، وشاعر الثورة العربية الكبرى فؤاد الخطيب، هي كل عالمها. تمثل الدارة مشروعَ سهى الذي يضارع الروح. كانت الدارة قبل ذلك جزءاً من مشروع ثقافي وتنويري اقترحه البنك العربي لتدشين مؤسسة شومان بتشجيع وبدعم من زوجها، وقت كان شقيقه عبد المجيد شومان، نائباً لرئيس مجلس الإدارة، ومديراً عاماً للبنك العربي بفروعه التي تزيد على 150 فرعاً في العالم، غير أن هذه الشراكة انفصمت بُعيد رحيل خالد، وتخصصت الدارة التي حملت اسمه تكريساً لذكراه، بالفنون التشكيلية، والبصرية بعامة، فيما ظلت مؤسسة شومان ومنتداها يركزان على المحاضرات والندوات والإصدارات والمكتبات. لم تغب الدارة عن مسؤولياتٍ نهضت بها المؤسسة قُبيل التسعينيات وخلالها، كمتنفس للنخبة والفنانين والمثقفين في إعلاء صوت الحوارات التي تتصل بالقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولفترة طويلة ظلت تنوب عن الأحزاب السياسية التي غيبتها مرحلة الأحكام العرفية، وهو دور واصلته الدارة عبر خطاب يرى في المواجهة والحوار مع الآخر، وسيلة لإبراز طاقة الإنسان الجمالية والثقافية، وأداة للنهوض والتقدم. وُلدت سهى، في القدس ورصدت المعاناة بعينيها وكل حواسّها، فنانة تنتمي إلى قضيتها، وتوجّه الدعم للعديد من الفعاليات الفنية والثقافية في فلسطين، يصدُر عشقها عن بحثٍ عن مواطن القوة التي تستوطن إبداع الشباب، وتتوقف كثيراً عند فكرة الكبرياء، وتعوّل على السلام الذي يحفظ كرامة الإنسان، وتمقت التطرف حيثما كان. لكنها لا تساوم على الجرح والدم، فقد طردت السفير الإسرائيلي أثناء حضوره أحد النشاطات، قائلة: «أبناؤنا يموتون وأنتَ تجلس في الصف الأول، تستمتع بجراحهم، اخرج..». كان للتحولات الأخيرة بُعيد الانتفاضة، تأثير في تقنياتها الفنية، إذ اتجهت إلى «الفيديو آرت»، لإبراز الحركة والصوت بالبعدَين الثالث والرابع، بعد أن أدركت أن السطح لا يلبي حاجات التعبير، فكان عملها الفني «بكفي مشان الله»، بعد «الزمن والضوء»، بمثابة صرخة لوقف القتل وإراقة الدم المجاني، واستراقة نظر للجنون الذي يجري في غير مكان من زوايا الكرة الأرضية. الفنانة سهى شومان التي يقال إن ثروتها تقدَّر باكثر من ربع مليار، لها قلب يتسع لمليار إنسان، لطيبةٍ وكرم وبساطةٍ ورقّةٍ وحبٍّ للإنسان، فرغم ما تمتاز به الأزياء التي تختارها من أناقة، إلا أنها تتسم بالبساطة، وغالباً ما تتشابه خطوط أزيائها مع ألوان لوحاتها التي يغلب عليها التُّرابيّات، والأسود، لعشقٍ لرمل البترا ولحزنٍ شفيف تركه غياب زوجها الذي وفر لها ما تتمنى لنجاح مشروعها الفني. في العمل لا تجامل، وهي صارمة إلى حدٍّ لا مجال للنقاش فيه، تسمع من الجميع، غير أنها تنفذ ما يشيره عليها عقلها المليء بالبرامج والأفكار التي تَعهَد بتنفيذها إلى العاملين لديها كل صباح، وكأنها قضت ليلَها في إعدادها لنهارٍ مقبلٍ يُشرق بالعمل والجدّ. أمٌّ حنون، وستُّ بيت راقية، لها ابن وابنة: عمر، وعايشة، ولم تكن تركن إلى أحد للعناية بهما، إذ تحضر الوجبات لهما بنفسها، وتجلس إلى جوارهما تغنّي لهما وتقصّ على مسامعهما الحكايات حتى يسرقهما النوم. في بيتها المتواضع جوار الدوار الرابع، جمال وافر تنطق به لوحات وأثاث بسيط اختارته بعين الفنانة، وقليل من البذخ. وفي النشاطات التي تقيمها الدارة، تختار أن تكون بين الحضور ومعهم، وتسأل، وتودّ لو تقابل كلَّ واحد منهم تستمع إليه، وهي تنأى عن الأضواء، وغالباً ما تحيل الإعلام إلى أصحاب الاختصاص في الدارة، وتدع النشاط الذي تقيمه يتحدث عن نفسه. تشتغل سهى بدأب على لوحاتها، وهي لا تبيع أعمالها بأي سعر، إذ تحتفظ بها لنفسها، ولا تؤمن بالتفريق التجنيسي لأعمال تميز بين منجز الرجل والمرأة. وهي مخلصةٌ لمعلمتها فخر النساء زيد، وتحتفظ بالعديد من أعمالها. تحرص أن تكون متميزة وسبّاقة في كل شيء، وتصادف متعتها الكبرى في السفر، لأنه وسيلة المعرفة وصفاء النفس. |
|
|||||||||||||