العدد 1 - بورتريه
 

ترجّلَ بنبل.

هذا ما يتفق عليه كثير ممن عرفوه من قرب، أو عملوا معه، سواء من خصومه أو من أصدقائه الذين التفّوا حوله وهو يؤدي أكثر من دور؛ ولي العهد، رئيس منتدى الفكر العربي، وقبل ذلك وبعده: الأمير المثقف.

عرفه الأردنيون منذ كان شابّاً يافعاً متوقّداً، إلى أن سلّم الرايةَ بشجاعةٍ وكرامة، للوريث الشاب. عرفوه أخاً للملك ومساعداً له ونائباً له، لذا لم يكن غريباً أن ترتبط صورته بصورة الحسين طوال ما يقرب من أربعين عاماً.

منذ العشرينيات من عمره وهو يشارك في المحافل الدولية، ويتحدث في أكثر المواضيع تعقيداً، بخاصة الاقتصاد، تماماً مثل أساتذة الاقتصاد في الجامعات.

عمل طيلة 34 عاماً، تولّى فيها العهد، بطاقةٍ غبَطُه عليها كثيرون، وفي الوقت نفسه، تذمَّرَ كثيرون من «حاشيته» ومستشاريه، من دافعيةٍ اتّسم بها الأميرُ و«ضاقوا بها ذرعاً».

في الوقت الذي كان أقرانُه من أولياء العهد في دول العالم الثالث، يقضون نهاراتهم ولياليهم تُلتقَط لهم الصور في «الكازينوهات» وعلى الشواطئ، كانت وسائل الإعلام تُظهره متحدّثاً لبقاً، بعيدَ النظر في المحافل الدولية، ومناقشاً بارعاً في منتديات الحوار. لقد أعطى للأردن صورة بـلد أكثر تحضراً، بـفضل لباقته وثقـافته وقــوة حضــوره. وصفــه أحـد السياسيين الأجـانـب بقولـه:

«He gave Jordan an image of sophistication that really exceeded the reality of the place».

على هذه الخلفية من الثقافة واللباقة والحضور القوي، حظي بعدد كبير من الصداقات، لكنه ربما حظي بما يساويهم من الخصوم في الداخل والخارج.

تربّى على يديه، بموافقة الحسين الراحل، جيلٌ من السياسيين، تنكّرَ له معظمهم في ما بعد، رغم أن ذلك لم يكن مطلوباً منهم. إذ «لم يُعاقَب أحد على الإطلاق ممن خدم في معية سيدي حسن بعد أن سلّم الراية»، يقول وزيرٌ خـدمَ فـي الحكومـة التـي تشكلت بإشـرافه، أثنـاء تلقّي الحسين للعلاج في مايو كلينيك.

يروي أحد المقرّبين منه، إنه ذهب لتعزيته بعد رحيل الحسين: «ذُهلتُ عندما دخلتُ إلى المكاتب. كنتُ أظن أنني سأجد المكان يعجّ بالمعزّين، ولكن لم يكن هناك غيري من خارج كادر المكتب. خرجَ الأمير للسلام عليّ، فاندفعت نحوه بالأحضان أعزّيه، فقال بحسرة الذي فقدَ شقيقَه: شايف.. وفاء الأصدقاء، وأشار بيديه إلى فراغ المكتب الذي كثيراً ما شكّل «المطبخ الحقيقي» الذي كانت تخرُج منه المقترحات للحسين، لتتُرجَم في ما بعد إلى سياسات عامة للبلاد».

كان ملاذاً لكلّ من لم يستطع الوصول إلى الحسين، يأتون إليه، فيفتح الأبواب لهم. كان يلتقي الأمناء العامين للأحزاب، والنقباء، وممثلي مؤسسات المجتمع المدني، يحاورهم في العمق، ويتدخل في كثير من الأحيان عند «الأجهزة» للكفّ عن مطاردة سياسي، أو للحيلولة دون اعتقال آخر «في الفترات الحرجة»، بعد انتهاء مرحلة الأحكام العرفية، كما يؤكد أحد الناشطين الحزبيين.

فاعليته لم تقتصر على الداخل، فقد كانت له مساهمات غير منظورة أحياناً، على الصعيد الدولي؛ من خلاله حقق الأردن حضوراً مهماً في نشاطات ومنابر لم تُعِرْها الدبلوماسية الرسمية الأردنية أيَّ اهتمام، وذلك بإصراره الدؤوب على المشاركة في المؤتمرات الدورية والسنوية التي تعقدها الأحزاب الأوروبية الرئيسية على اختلاف توجهاتها، باستثناء الفاشية منها. وحين يتعذّر حضوره، كان يبتعث مندوبين إليها. ويُستقبل المندوب -رجلاً أو امرأة - بحفاوةٍ من المنظّمين.

مشاركاته تترك دائماً وأبداً انطباعات إيجابية عن الأردن، ما سهّلَ للمفاوض الأردني، إلى حدّ كبير، نيل مكتسبات من دول الغرب، نظراً لأن الأحزاب في الغرب تُمَثَّل في برلمانات بلادها، إما في المعارضة أو في الحكم.

بعد أشهرٍ من مغادرته ولاية العهد، توجّه لحضور مباراة لكرة اليد بين فريقين وطنيين. عندما دخل الملعب قوبل بتصفيق حارّ من الجمهور الكبير الذي ملأ المدرجات، الذي ردّد بعفوية المحبّ: «أهلا بهالطلّة».

في مطلع الألفية الجديدة، دُعي لإلقاء محاضرة في مدرج الهندسة بالجامعة الأردنية. «كان الملك وافق بحرارة على أن يتوجه الأمير إلى الجامعة لإلقاء تلك المحاضرة»، يقول أحد المقربين منه، لكن «للأسف، حاولت أطراف حكومية حينئذ الحيلولة دون إقامتها»، وكان إلقاء المحاضرات «إبداعاً آخر من إبداعاته». بعد ذلك دار حوار بينه وبين الجمهور، فرفع أحد الحضور يده وقال: «أنا مواطن أردني واسمي:... لم يتسنَّ لي أن ألتقي بك بعد أن سلّمتَ الأمانة، حتى أشكرك على ما تمتعتَ به من نبلٍ وكرامة، وأخلاق هاشمية». وما كان من الحضور إلا أن التهبت أيديهم بالتصفيق، بمن فيهم مسؤولون كبار في الدولة، كانوا في الصف الأول بالمدرج.

يقول أحد كبار رجال الدولة ممن ساهموا في تشكيل مجلس الأعيان الأخير، إن أحد الحضور اعترض على التجديد لاسمٍ بعينه في المجلس، لكن «الملك عبد الله أصرَّ على إبقائه قائلاً: هذا الرجل ما زال يخدم في معية عمّي بوفاء وإخلاص».

هو لم يتقاعد، فما زالت له مساهماته القوية والفاعلة والمؤثرة في مجالات الفكر وحوار الحضارات والثقافات والأديان، والتنمية المستدامة، وحقوق الفلسطينيين.

إنه الحسن بن طلال.

الهاشمي الذي ترجل بنبل- السجل – خاص
 
01-Jul-2009
 
العدد 1