العدد 1 - سينما وتلفزيون | ||||||||||||||
في وقت كان فيه سياسيون يركزون على تجنيب لبنان، الخارج توّاً من رحم حرب تموز/يوليو 2006، ويلات حرب أهلية محتملة، والسعي لإنجاح انتخاب رئيس جديد للبلاد آنذاك، زارت مخرجة الأفلام الوثائقية داليا الكوري أقارب والدتها القاطنين في قرية «بيوت الأسياد» الواقعة على الشريط الحدودي بين جنوب لبنان وإسرائيل، لتقدم صورة دافئة وعميقة للحياة العائلية في القرية، تتقاطع مع الأحداث السياسية العامة. مشاهد القصف الإسرائيلي لجنوب لبنان تفتتح الحكاية، ثم تقترب عدسة المخرجة موثِّقةً تفاصيل حياة خالها رامي الذي يحلم بالبحر والسفر، وزوجته دلال التي تتحدث عن الحقائب المجهزة دائماً بما تحتاجه العائلة إذا ما اضطرت لترك المنزل، وعن الخوف والرعب الذي عاشته خلال الحرب، بينما تلتقط الصغيرة مريم الميكروفون لتلعب به. محمد، المقاوم العنيد، يتحدث عن اعتقال الإسرائيليين له العام 1982، خلال الاجتياح الثاني، ثم يستذكر بمرح كيف خرج من القرية، بُعيد القصف خلال الحرب الأخيرة، حاملاً على درّاجته أطفاله الأربعة وزوجته، ثم يضحك وهو يعيد تمثيل الحدث أمام الكاميرا، داعياً أطفاله وزوجته لركوب الدراجة التي اتسعت لهم جميعاً. المزارع علي، شقيق دلال، يستذكر حفل زفافه، وكيف اعتقله الإسرائيليون وهو ما زال يرتدي بدلة العرس، يضحك وهو يطلّ من بين أشجار الموز التي دمر القصف الإسرائيلي معظمها، لكن علي أعاد ترميمها لتعود «أحسن مما كانت عليه». في ساحة بيته المدمر أسوةً بمعظم بيوت القرية، يجلس علي بجانب دلال متحدثاً عن الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982، عندها كانت دلال -الطفلة آنذاك- تربّي جَدْيَيْن صغيرين، وتعتني بهما، وتُرضعهما الحليب، حتى باتا يعرفانها من صوتها ويلحقان بها أينما ذهبت. خلال القصف سقطت قذيفة على أحدهما فتمزق إرباً، وهو ما سبب الحزن لدلال أياماً عزفت خلالها عن الأكل. ذاكرة الحرب في لبنان تمتد جيلاً بعد جيل، إذ ما زال أبو علي يتذكر جيداً حادثة اعتقاله العام 1978 من جانب الإسرائيليين، وكيف مُنعت رسائله من الوصول لعائلته. تلك الرسائل ما زالت وثائق يحتفظ بها أبو علي، ويقرأها بين حين وآخر، كما تحتفظ الجدّة بقصص مرتبطة بأشجار بستانها، تلك الأشجار التي قُصفت وعادت لتنبت خضراء مرة أخرى، كأنها تتحدّى الحرب بأسلوبها الخاص. في الفيلم الذي عرضته مؤسسة خالد شومان – دارة الفنون، عائلات تروي آلامها بالبسمة والضحكة الصافية، مؤكدةً صمودها وخروجها من الرماد منتصرةً للحياة. فمحمد يمارس هواية الصيد باستخدام بقايا بارود القنابل والصواريخ، بينما يُجري علي «عملية قيصرية» تساعد جنين الموز على الخروج للنور، أما النساء فيواصلن الإنجاب، ووفقاً لما يرويه محمد بفكاهة، فإن السبب في كثرة الإنجاب يعود لـ«انقطاع الكهرباء». الكوري المولودة العام 1980، والحاصلة على شهادة الماجستير في صنع الأفلام الوثائقية من جامعة غولد سميث البريطانية، تشكّل لوحة فسيفسائية لنوع المرح اللبناني الذي يساعد عائلات الجنوب على تحمُّل حروب ما يزال حضورها طازجاً في الذاكرة، مستثمرةً في لوحتها صوراً حية، وأخرى فوتوغرافية، يتداخل عرضها على الشاشة مع حكايات أبطال الفيلم وصوت التلفاز الذي يبث نشرات الأخبار، والموسيقى المتشكل بعضها من صوت رامي وهو يغنّي لطفلته مريم: «البنات البنات.. ألطف الكائنات»، والطفلة ربى المحبة للرقص والغناء، وصوت هدير البحر على الكورنيش، أو صوت ضحكات عائلية، وأصوات لأناس يتسامرون خلف شبابيك حرصت الكوري أن تكون مصدراً للضوء في محيط خارجي يلفه السواد. الفيلم الذي صَوَّرَ في البداية الصغيرةَ مريم داخل عربتها (الكراجة)، ينتهي بها وهي تتدرب على المشي، تسقط قليلاً، لكنها، وهي ابنة الجنوب بامتياز، تواصل الخطو للأمام. ولها تهدي الكوري فيلمها الذي نال العام 2008 جائزة مهرجان قرطاج الدولي للأفلام الوثائقية. تطرح الكوري في فيلمها الذي أنتجته فضائية العربية الإخبارية، رؤية جمالية غنية يتقاطع فيها العام بالخاص، وتسترجع عبر قصة عائلة تشتت أفرادها منذ نكبة 1948 بين الأردن وفلسطين ولبنان وكندا، تاريخاً حافلاً بالحروب، متلمسةً الحلم الفردي/الجمعي بالأمن والاستقرار والحفاظ على الهوية. كل ذلك دون أن تتخلى الكوري التي أنجزت أفلاماً عدة منها: «عربيزي»، «احذر أمامك تعليق»، «الكوفية» و«صنع في الصين»، عن وضع المشاهد في أجواء الدعابة المتشكلة من مواقف ساخرة، مخضّلة بالدم والدمار. |
|
|||||||||||||