العدد 1 - قارئ/كاتب
 

هنا نحن لا نتحدث عن كتابة التاريخ، فتلك مهمة لها منهجيتها العلمية وشموليتها وتعدد مصادرها ومقارناتها. لكن تناول الأحداث التاريخية من خلال السيرة الذاتية تفتح نافذة مهمة للاطلاع عليها ومعرفة حقائقها ومنهجها، بخاصة في ظل غياب التوثيق والدراسات العلمية والموضوعية لهذا التاريخ.

من هنا تأتي أهمية قراءة مذكرات ضافي الجمعاني، التي تضاف إلى مذكرات عدد ممن عاشوا تلك المراحل، بل رافقوه في رحلة العمر أو بعضها. وهي أهمية خاصة لما تضمنته المذكرات من تفاصيل مباشرة لقضايا وأحداث كانت عناوين رئيسية في أوقاتها، وأثّرت بشكل مباشر في مجريات الأحداث وتطورات الحياة السياسية والعامة في الأردن والمنطقة.

الأهمية الأخرى لهذه المذكرات، في سياق تقييم المذكرات الشخصية للعديد من صناع تلك المرحلة، تكمن في ما تطرحه من تحليلات ما زالت تتخذ المواقف نفسها التي اتخذتها في تلك المرحلة، بما فيها من خلافات وتخندق في المواقع الفكرية والسياسية، رغم نضج التجربة والوعي بها، وهي مواقف لا بد من فهمها في سياقها التاريخي ومراحلها، كما لا بد من تقدير الصراحة والشجاعة لكاتبها الذي ما زال متمسكاً بها، وإن اختلف المرء معها أو مع بعضها.

تلك مقدمة تعكس ما مثلته مذكرات الجمعاني، الضابط في الجيش العربي، ابن البادية وأحد شبان الأربعينيات والخمسينيات، زمن النكبة الفلسطينية والمد القومي والوطني، والمناضل العنيد الذي دفع سنوات من حياته في السجون يفوق ما أمضاه نلسون مانديلا من سنوات.

أهم ما ميز نشأة ضافي، أنه درس في مدرسة المطران، ولعل ذلك أسهم في خلق وعي مبكر لديه، والمحطة الأهم هي دخوله الجيش، الخطوة التي حددت سيرة حياته اللاحقة.

في مرحلة شهدت نمو حركة الاستقلال العربي، واغتصاب فلسطين وهزيمة 1948، وفي ظل الصراع الدولي واستقطاب المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، انخرط ضافي كما يقول في مذكراته، في «حركة الضباط الأحرار» في الجيش، وانتمى لـ«حزب البعث العربي الاشتراكي»، مع رفاقه شاهر يوسف أبو شحوت ومحمود المعايطة، وعدد آخر من الضباط الذين شكلوا جميعاً جزءاً من ذكريات ضافي في فترة الخمسينيات وما تلاها، حيث يتحدث عن علاقته بهم ورأيه فيهم ودورهم في تلك الأحداث.

تقدم مذكرات ضافي رؤية وتسرد أحداثاً وتطرح موقفاً من مرحلة الخمسينيات وتشكيل «الحكومة الوطنية»، حكومة سليمان النابلسي، ودور الجيش و«حركة الضباط الأحرار» وواقع الحركة السياسية وأحزابها في تلك المرحلة وبشكل خاص «مؤامرة 1957»، وتفاصيلها كما يرويها ضافي، الذي يؤكد، كما أكد غيره من الضباط في مذكراتهم وأحاديثهم، أنه لم يكن هناك «انقلاب»، بل تحرك لغرض إعادة حكومة النابلسي بعد إقالتها.

المميز في مذكرات ضافي أنه يطرح خلافه الرئيسي مع «حركة الضباط الأحرار»، وحتى مع «حزب البعث»، وهو ما يُرْجعه في مذكراته إلى ما يصفه بـ«تخلي الحركة والحزب عن هدف استبدال النظام السياسي»، لصالح هدف آخر هو إبعاد «كلوب» وتعريب قيادة الجيش. وضافي في كل سرده وتحليله لأحداث تلك المرحلة يرى أن ذلك هو السبب الرئيسي في النتائج التي وصلت إليها «الحركة»، وفي انتهاء المرحلة «الديمقراطية».

يذكر ضافي أسماء تنظيم الضباط أو قيادته: شاهر أبو شاحوت، محمود المعايطة، ضافي الجمعاني، قاسم الناصر، تركي الهنداوي، أحمد زعرور، نذير الرشيد، شوكت السبول، جعفر الشامي، غازي العربيات، عبد الله قاعد، مازن العجلوني، محمود الروسان وسواهم.

ولعل من أدق تحليلاته عن الحركة أنها بحثت عن «محمد نجيب» أردني، فوجدته في علي أبو نوار، وذلك بعد أن رفض علي الحياري.

كما يذكر أنهم اتصلوا بالإخوان المسلمين الذين اشترطوا الالتزام بحركتهم للتعاون معهم.

ويروي الجمعاني دوره وقصته في عملية طرد «كلوب» التي تمت بأمر من الملك حسين، وقاد محمود المعايطة عملية الإبعاد، إذ كان دوره تأمين المعسكر الرئيسي في الزرقاء.

كانت إقالة حكومة النابلسي في نسيان/أبريل 1957 بداية النهاية لمرحلة تاريخية جديدة، حيث حُظر العمل الحزبي، واعُتقل بعض أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، وهرب آخرون إلى سورية بعد أحداث الزرقاء والاضطرابات في صفوف الجيش.

تسرد المذكرات تفاصيل التحقيقات والمحاكمة التي جرت لهم، فقد حُكم على معظمهم بالسجن لمدة عشر سنوات.

يروي ضافي في مذكراته حياة السجن في المحطة والجفر، وعلاقات السجناء بعضهم ببعض وحياتهم اليومية وخلافاتهم السياسية ومناقشاتهم بعد أن اختلطوا بالعديد من قادة الأحزاب في ذلك الوقت، مثل: منيف الرزاز، فائق وراد، يعقوب الزيادين ووديع حداد. كما يروي قصة حفر نفق ومحاولة الهرب عبره من سجن الجفر، وتطورات الأحداث العامة والخاصة وتأثيرها فيهم وهم بعيدون عنها، وعلاقتهم بإدارة السجن والحرس.... إلخ، ثم خروجهم من السجن في زمن حكومة وصفي التل الأولى وعودتهم إليه بعد فترة، حيث تم اعتقال عدد منهم لمدة عام على إثر انقلابَي حزب البعث في سورية والعراق العام 1963.

في الجزء الثالث من المذكرات يروي ضافي علاقته بحزب البعث وموقفه من قيادته القومية وانتمائه لتنظيم البعث (حركة 23 شباط/فبراير في سورية)، ولعبه دوراً رئيسياً في حياة التنظيم (الفلسطيني الموحد) بتسلمه منصب أمين سر قيادته القطرية، وعلاقته بعدد من قيادييه وتقييمه لهم.

وهو في سرده لكل تلك الذكريات يؤكد على موقفه الفكري والسياسي وفهمه لحركة «البعث» وأهدافها ودورها، وهو موقف نقدي للعديد من الأحداث والقيادات، بما في ذلك قيادة حركة 23 شباط/فبراير التي عمل معها، وكان تحليله الأساسي يستند إلى التخلي عن هدف تغيير النظام واستمرار المطالبة بالديمقراطية والدفاع عنها، وهو فهم نجده لدى العديدين ممن شاركوا في الحركة السياسية، لشعار الحرية في «البعث»، هذا الفهم وهذا الموقف الذي كان يرفض ما كان يُطلق عليه «الديمقراطية الرأسمالية»، ويطرح في تلك المراحل شعار «الديمقراطية المركزية».

لكن تلك المواقف لا يجدها المرء في المذكرات حين تتحدث عن العراق، إذ يكتفي الجمعاني بموقفه المؤيد لتصدي العراق للطائفية في إيران وللمخططات الأميركية، وهو تجاهل مفهوم يؤكد فيه المؤلف موقفه الفكري والسياسي.

كما أن مجمل تناول المذكرات للأحداث، كبيرها وصغيرها، دائماً ما يرتبط بوجود «المؤامرة» تصريحاً أو تلميحاً، لذلك تظهر فقرات وعبارات لم تُستكمل، وفي الغالب، لأسباب تتعلق بأشخاص يريد المؤلف أن يتجنب الوضوح في الحديث عنهم.

مذكرات ضافي الجمعاني تقدم أحداثاً في مراحل مهمة شهدها الأردن والمنطقة، وتفاصيل تمثل أدواراً لعبها أشخاص في تلك الأحداث. وهو في كل ذلك يتبنى موقفاً يذكّرنا بتلك المواقف التي كانت سائدة في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وذلك يزيدها أهمية، لأنها تمكّن من إعادة النظر والتقييم النقدي لتلك المراحل.

ضافي الجمعاني، من الحزب إلى السجن 1948-1994، مذكرات، دار الريس، لندن، 2007

ضافي الجمعاني: من حزبه إلى سجنه
 
01-Jul-2009
 
العدد 1