العدد 3 - اجتماعي | ||||||||||||||
هناك عائلات تشكل حاويات القمامة مصدراً للقمة عيشها، بخاصة الحاويات المتوافرة في أحياء الميسورين. وكثيراً ما يتكرر المشهد نفسه: شبّان يجمعون ما تطاله أيديهم من هذه الحاويات على مدار الأسبوع ليبيعوه في سوق خاصة بهذا النوع من المبيعات، هي سوق الخميس بمخيم البقعة. فعلى جنبات شارع يمتد من نهاية سوق الخضار في المخيم إلى المقبرة، تتوزع عشرات البسطات، تزخر محتوياتها بأشياء ثمينة وأخرى غير ذات بال، يتوافد المئات للحصول عليها بأسعار «رمزية للغاية». تُفتتح السوق في الخامسة صباحاً، وتمتد حتى يوم الجمعة، وتشهد ازدحاماً منذ ساعات الفجر الأولى، للاستئثار بـ«أفضل الأشياء» من البضاعة المعروضة على قارعة الطريق. ابتياعُ أشياء كانت في بطن الحاوية، فكرة تبدو منفّرة وغير مستساغة، لكن سرعان ما يتغاضى المرء عن ذلك، وهو يعثر على كثير من الأشياء التي تلزمه في هذه السوق: أقلام، تحف، أجهزة كهربائية، أجهزة كمبيوتر، جواهر تقليدية، كتب، أحذية، وملابس. المفارقة أن زبائن السوق ليسوا من ساكني المخيم فقط، فهناك تجار متخصصون من خارج البقعة، يشترون الأشياء «اللقطة» ليعرضوها في أسواق أخرى، بشكل أكثر جاذبية، وبسعر أعلى، بل إن من زوار السوق ميسورين، أو أشخاصاً لا يبدو عليهم العوز أو الفقر، يستهويهم البحث عن أشياء بعينها، يدركون أنهم لن يجدوها في مكان آخر. أُنشئت السوق على يد شخصَين، أحدهما يدعى محمد الغزاوي. إذ توجه الغزاوي في أحد أيام الخميس، سنة 1992، إلى موقع ما أصبح الآن يدعى بـ«سوق الخميس»، ليعرض بضاعته فيها، وبعد 17 عاماً ها هي السوق تضم نحو 200 بائع. هذه السوق تُعرف أيضاً بـ«سوق الأمانة»، نظراً لأن معظم البائعين فيها عمال نظافة في أمانة عمّان الكبرى، بخاصة في الأحياء الراقية، يجمعون ما يجدونه ذا قيمة من الحاويات، لبيعه في سوق الخميس. جامعو النفايات من ساكني مخيم البقعة، يبحثون عن لقمة تسد الرمق وتستر الحال، ولا يطمعون في تكوين ثروة. فهم يعانون ظروفاً معيشية صعبة، وليس بمقدورهم سد حاجاتهم الأساسية. «ے» رافقت محمد الغزاوي، أبو إيهاب، في رحلة بحثه عن أشياء تصلح للبيع، أو يمكن استصلاحها، في حاويات موزّعة في مناطق بعينها، مثل ضاحية الرشيد، الغاردنز، تلاع العلي، عبدون. بدأت الجولة مساء كي لا يراه أحد، فـ«ما زالت النظرة دونية تجاه الباحثين في القمامة»، كما يقول. توقف «البكب» في أحد الأحياء بمنطقة ضاحية الرشيد. اصطحب الغزاوي ابنه إيهاب، 10 سنوات، الذي يشاركه العمل أثناء العطلة الصيفية، ويتولى مهمة القفز في الحاوية ليُخرج ما فيها من أشياء تصلح للبيع، مثل: علب العطر الفارغة، الملابس، والكتب. حتى الخبز، يمكن أن يتحول إلى لُقيا، طازجاً أو جافّاً، ويتم بيعه في السوق. الجولة يبدو وكأنها تقود صاحبها إلى مصير مجهول، وتعرّضه إلى الخطر. أبو إيهاب أصيب في إحدى الجولات بجرح في يده أدى إلى تسمُّمه، الأمر الذي أقعده عن العمل فترة طويلة. يقول: «نتعرض لمخاطر كبيرة، لكن ماذا نفعل؟ هذا مصدر رزقنا». أبو إيهاب، لا يحمل رقماً وطنياً، فهو من أبناء قطاع غزة، لذلك يجد صعوبة في العثور على عمل، ويعاني مثل بقية الغزيين بسبب مشاكل يواجهونها في «التأمين الصحي، والتعليم ومجالات أخرى»، بحسب قوله. بعد فترة طويلة في البحث عن عمل، وجد أبو إيهاب نفسه يجمع القمامة، ويوزع العمل على أفراد عائلته، لفرز ما تجود به الحاويات. يقول: «الفواكه لا أستطيع شراءها لأبنائي، لذلك أحصل عليها من الحاويات، وعادةً ما تكون في حالة جيدة». أحياناً قد لا يوفَّق في رحلة البحث، كما حدث في هذه الجولة. إذ لم يعثر سوى على أشياء بسيطة: قطع بلاستيكية، ومعدنية، وأحذية، جمعها ليبيعها بـ«أيّ سعر»، ليسد حاجة أسرته. يهزّ أبو إيهاب رأسه برضا، قائلاً: «نعمة، ولا البلاش». أبو إيهاب استطاع شراء سيارة «بكب» خلال عمله في هذا المجال، وهو يستخدم «البكب» لنقل ما يُخرجه من الحاويات بعد أن أمضى سنواتٍ طوالاً يحمل الأكياس على ظهره. وتدور حكايات حول تجار في السوق حالفهم الحظ، إذ أصبحوا من ملاّكي العقارات، فغادروا السوق إلى الأبد. حكايات كثيرة تتردّد أصداؤها في السوق، أبطالها بائعون فقيرو الحال، يبحثون عن لقمة العيش. أم زياد، 40 عاماً، تعمل منذ 11 عاماً في السوق، تعيل أسرة من 3 أبناء وأب متخلّف عقلياً، تسكن في منزل أخيها، تبيع ملابس مستعملة تحصل عليها من أهل الإحسان، أو عبر خدمتها في المنازل. هاني، بائع تحف يتجاوز الخمسين، مُقعد بسبب مرض ألَمّ به، يعمل في جمع التحف، وجد نفسه في هذه السوق منذ 7 سنوات، يلتقط التحف ليبيعها على بسطات خاصة به، في مواقع أخرى. سعر القطعة يحددها نوعها، بحسب هاني، «هناك قطع لا يستطيع أهالي المخيم شراءها، فيشتريها تجار متخصصون بذلك من عمّان، أو هواة اقتناء الأثريات من الأغنياء». في إحدى زوايا السوق، حكاية أخرى لبائع الكتب عبد الرحمن المرزوقي، «الرجل المشاكس»، كما يصفونه، فهو «لا يخشى لومة لائم في قول الحق». المرزوقي نال شهادة الدبلوم في الصيدلة، وتغرّب لسنوات قبل أن يعود أثناء حرب الخليج الأولى، ويفاجأ بعدم الاعتراف بشهادته. فكّر في مشروع يوفر له الحياة الكريمة، ووجد ضالته في السوق. إذ اشترى كتباً ومجلات بخمسة دنانير، مثّلت نواة «مكتبة الرصيف» بحسب تعبيره. وهو يدعو المارة للإقبال على مكتبته مردّداً بفكاهة: «اطلب العلم ولو في الطين»، ذلك أن الكتب كثيراً ما تتّسخ، لأنها معروضة فوق التراب. المرزوقي لديه الآن ما يزيد على خمسة آلاف كتاب ومجلة، يشتريها من البائعين في سوق الخميس، أو ممّن يرغب في بيع الكتب من أهالي المخيم. وهو يدعو إلى إنشاء مكتبة ضخمة في نفق الجامعة الأردنية، ويتابع: «لا أجد من يسمعني، أو يفكر جدّياً بإنشاء هذا المشروع». علي، عامل نظافة في أمانة عمان، راتبه لا يكفي للإنفاق على عائلته. يقول: «ما يصلح في الحاويات للبيع، آخذه وأجري عليه ما يلزم من تعديلات، وأبيعه في سوق الخميس». تنتهي الجولة، فيما تظل في البال صورةٌ لا تُنسى عن هذه السوق، بحكاياتها ومعاناة أبطالها. |
|
|||||||||||||