العدد 1 - أفق
 

ليست الاشتراكية بنظر اليسار الديمقراطي ملْكية الدولة لوسائل الإنتاج، بل هي حركة لتنظيم المجتمع بشكل أكثر عدالة ومساواة وديمقراطية. ومن بديهيات الفكر الاشتراكي أنه إذا كانت الملْكية العامة على وسائل الإنتاج تعني ملْكية الدولة، فمن الواضح والبديهي أن تكون ملْكية دولة ديمقراطية.

يحق لنا الادعاء أن اليسار الأوروبي بشكل عام، ومنذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان أشدّ المدافعين عن توسيع الديمقراطية. على هذا، فإن اليسار غير الديمقراطي ليس يساراً بتعريف الكاتب لليسار، ذلك أنه لا يمكن في عصرنا فصل فكرة المساواة عن فكرة الديمقراطية.

لقد أدت الثورات الصناعية المتتالية إلى تغير سريع في علاقات الإنتاج والملْكية السائدة. وقد عبّر اليسار الديمقراطي عن نفسه في هذه الثورة بوسائل عديدة: النضالات النقابية المتواترة، الحركة الطلابية، الثورة الثقافية في الستينيات، الحركات النسوية، والتضامن مع حركات التحرر الوطني. كما عبّر عن نفسه أيضاً بالإصرار على تحرير قطاعات اجتماعية معينة من قوانين السوق، وبالنضال من أجل إخضاعها لأهداف اجتماعية سامية ولو على حساب التنافس وقوانين السوق، وبالنضال من أجل إخضاع المؤسسات الحكومية كافة للمراقبة والمساءلة، بما فيها تلك الأجهزة التي كانت تضع ذاتها فوق المحاسبة، بالاعتماد على شبح تهديد أمن الدولة أو وحدة الأمة وغير ذلك.

وعمل اليسار دائماً حين كان يساراً، على تنظيم الناس في مبادرات ذاتية وفي إدارات ذاتية ديمقراطية بما يتعلق بأحيائهم وبيئتهم وأماكن عملهم. لكن اليسار من ناحية أخرى يحارب استغلال هذه المبادرات لصالح ترسيخ ومأسسة النزعة المحافظة، التي قد تُستغل لمحاربة الحداثة، أو محاربة تشريعات تقدمية قد تقوم بها الدولة لتعزيز الحريات الفردية أو مساواة الرجل بالمرأة. وقد تكون البنية الاجتماعية المحافظة خاضعة في بعض الحالات، لسيطرة قوى أكثر محافظة من القوى التي تسنّ القوانين في الدولة.

لدى اليسار نزعةٌ فطرية سليمة تدفعه لأن يكون مع الشعب ومع الجماهير، لكن هذا يفترض، رغم صعوبة الأمر، أن يضع خطاً فاصلاً بين الشعبية والشعبوية، وأن يعتمد التوعية والتنوير والارتباط بمصالح الناس والجماهير الواسعة. وبذلك يختلف عن اليمين الشعبوي.

ينطلق اليسار، كما نفهمه، من افتراض أن الحرية تحقق جوهر الإنسان، وتصبح بالتالي شرطاً لتطور قدراته ومواهبه ولتحقيق الطاقة الكامنة فيه. لذلك، فإن النضال ضد العولمة لا يتوجه ضد تعميم الحاجات ولا تعميم التكنولوجيا، وإنما ضد تكريس العولمة نفسها للعجز عن تلبية الحاجات التي تخلقها وتعممها.

وإذا كان اليسار في الدولة الدكتاتورية يطالب بالديمقراطية السياسية كضرورة من ضرورات العدالة الاجتماعية، إلا أن الديمقراطية المقصودة ليست مجرد تعددية سياسية قد تتحول في بعض الدول إلى تعددية أقوامية إثنية أو طائفية أو عشائرية تعيد إنتاج النظام التقليدي، بل هي ضمانات ممأسسة ومتفق عليها، من كل الفئات الشرعية الفاعلة سياسياً لحقوق المواطن السياسية والاجتماعية، ولسيادة القانون واستقلال القضاء وحق محاسبة ومساءلة السلطة السياسية.

وجدت أزمة اليسار أكثر تعبيراتها وضوحاً بعد انهيار المعسكر الاشتراكي. لكن الأزمة تعود إلى ما قبل ذلك، وفي غمار هذه الأزمة نشأت نزعتان لدى قوى اليسار المأزومة التي لم تعد تجد لها خصوصية سياسية واجتماعية، بعد أن فقدت القاعدة الاجتماعية الطبقية والسياسية الحزبية التي استندت إليها:

- في العالم الثالث، انزلق قسم من اليسار المغترب عن القضايا الوطنية والقومية إلى التخلي الكامل عن قيم اليسار، بخاصة تلك التي تؤكد على العدالة الاجتماعية والمساواة، وتحوّلَ هذا «اليسار السابق» إلى الدعوة لاستيراد «وصفة الديمقراطية» على دبابة، وإلى عدّ العلمانية والعلمنة مهمة اليسار الأولى، بل الوحيدة، وتجاهل مهماته الأصلية التي تميزه، وركّز على العلمانية وحدها، التي قد تجمعه مع دكتاتوريات ومستعمرين ضد جماهير الشعب الفقيرة المنضوية تحت لواء الحركات الدينية.

تصبح العلمانية والديمقراطية في هذه الحالة مقولات جاهزة، تُردَّد كنوع من التقليعة السياسية دون مضمون اجتماعي سياسي، من قِبل نخب لا تأثير لها في المجتمع والسياسة. وغالباً ما انزلقت هذه «المراجعة النقدية» إلى معاداة الحزبية والحزبيين، وإلى معاداة عملية بناء المؤسسات، وأدارت ظهرها لمجتمعها في جمعيات نخبوية (وغير ديمقراطية في العادة) لا علاقة لها بالواقع السياسي القائم. وباتت هذه المراجعة النخبوية معادية للديمقراطية، بل ومجهضة لعملية التحول الديمقراطي.

- وقد انزلق قسم آخر من اليسار إلى التمسك بتعابير ومصطلحات معادية للتطور والتقدم، وبات يستخدم شعاراتٍ أصوليةً محلويّة تناهض الحداثة. هذا الجزء من «اليسار» سابقاً، بحثَ عن قواسم مشتركة مع أيٍّ كان في العداء للغرب وللعولمة، متجاهلاً، بل ومتستراً على حقيقة، أن هذا العداء قد يكون مدفوعاً بمنطلقات مختلفة، بل متناقضة. وفي سبيل هذه القواسم المشتركة في معاداة الغرب، تم تأجيل قضايا الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، كما تم تحييد النضال من أجل عقلنة العلاقات السياسية والاجتماعية في بلده.

اليسار، الذي لم يرَ العلاقة بين الأمة الحديثة والمواطنة، وبين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وشرعية الدولة، وتصارعها مع مفهوم الأمة، وضمور مفهوم المواطن مع عدم وضوح مفهوم الأمة، لم يكن بوسعه أن ينجب أيَّ فكر يساري ديمقراطي خلاّق قادر على تحديد تحدّيات المرحلة، وأشكال مواجهتها سياسياً على الطريق من أجل سعادة الإنسان وحريته في أوطاننا. فهذا الهَمّ يمر عبر المسألة العربية ومواجهة واقع التفتيت والتجزئة.

إن صيغة هذا الفكر عربياً غير ممكنة دون الربط بين قيم اليسار (المساواة، العدالة الاجتماعية، الحرية، قيم التنور الاجتماعي والتقدم وعقلنة العلاقات الاجتماعية والسياسة وأنسنتها)، وبين الديمقراطية كنظام حكم، وبين القضية القومية. كما أن الحديث عن وحدة الأمة بغياب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية هو خداع. فالثقافة السياسية اليسارية والديمقراطية غير قادرة على التغلغل والارتباط بقضايا الناس وحياتهم وثقافتهم دون الفعل السياسي، ودون الارتكاز على الانتماء للشعب، ودون معالجة قضايا الناس وأسباب معاناتهم الحياتية اليومية في الدول القائمة.

ملاحظات حول معنى اليسار
 
01-Jul-2009
 
العدد 1