العدد 1 - محلي | ||||||||||||||
«إن الثقافة والفنون انطلاقاً من كونها جزءاً من الحياة اليومية، لا بد أن تنعكس على حياة الناس، وكلّما حققت الرفاهية وتعاطَى معها الناس، أدّت وظيفتها». تثير هذه العبارة وسواها من عبارات وردت على لسان وزير الثقافة صبري الربيحات الاستغرابَ والاستهجان، بعدما أصبحت مكّوناً أساسياً لخطاب يتداوله الربيحات منذ توليه الوزارة. كيف يجب أن تنعكس الثقافة على حياة الناس كونها جزءاً من حياتهم اليومية؟ وكيف للثقافة أن تحقق الرفاهية كلما أدّت وظيفتها؟ سؤالان من بين أسئلة كثيرة تتبادر للذهن عند قراءة تصريحات الوزير هذه، وسواها التي تنساب في صحف محلية وعربية باستمرار. يقول في تصريح آخر: «إن دور الثقافة هو في إحداث حراك اجتماعي لتوليد الفنون، وإحياء ثقافة الفرح، ليكون الفعلُ الثقافي مكوناً أساسياً من مكونات حياتنا وفي بـلورة الهويـة الثقافيـة، وأن تكون ثقافتنا ثقافة حياة». ربما يتطلب فهم التصريح السابق وعياً من نوع خاص، لما يتلاطم فيه من تعابير واستنتاجات دون مقدمات. ويدعو الربيحات في مقابلة صحفية إلى ما أسماه «الثقافة المتحفية»، التي «تجسد صلة الإنسان بالمكان وبهويته الوطنية من خلال الفنون الأدائية وجوائز المبدعين ومكتبة الأسرة، وكل ما من شأنه تعزيز وإحياء الثقافة التراثية، وإشاعة أجواء الفرح والحياة الرائدة وعبر التوسع في ثقافة الحياة». في خطابات الوزير وتصريحاته، تتكرر مفردات وتعابير من مثل: «إشاعة أجواء الفرح» و«الحياة الرائدة» و«التوسع في ثقافة الحياة»، وهي تحتاج، في حدّها الأدنى، إلى توضيح حتى يحويها خطابٌ ثقافي، لا أن يغلب عليها الطابع الإنشائي، والافتقار إلى آليات عمل محددة أو مهام واضحة توضع على أجندة الوزارة، ما ينطبق كذلك على لقاءات الوزير المتجددة مع فعاليات ثقافية واجتماعية، حيث يحكمها إطارٌ فضفاض وأحاديث تميل إلى التعميم، وربما إلى التعمية. الوزير الذي يريد إدامة «الفرح»، يبثّ عبارات «غير مفهومة»، ولا تحمل دلالاتٍ محددة. من ذلك ما تضمنته كلمته في افتتاح مهرجان جامعة الزيتونة الثاني للثقافة والفنون: «علينا أن نتناقل ونتوارث الأغنيات الوطنية والشعبية ذات المعاني الصادقة، وأن تتوافق مع ما هو من محبة صادقة في القلوب، إلى تعابير وأحاسيس وإخلاص في العمل، وإن حضور مثل هؤلاء النخبة من الفنانين يزيد الفرحة والبهجة في النفوس». يضيف مخاطباً الفنانين: «أنتم صنّاع الفرح»، ومتوجهاً لإدارة الجامعة: «وأنتم صنّاع الحياة». التناقض الصريح والجذور الفكرية المحافظة، وذات النزعة السلطوية، تبدو حاضرةً بوضوح في قوله ضمن مقابلة مع صحيفة عربية، إن ازدياد الرقابة على المطبوعات والدعاوى القضائية ضد كتّاب أردنيين وعرب، «يأتي في إطار تنوع ثقافي يدلل على حراك ثقافي... وهذه مناخات دلالة تنوُّع وغنى وظاهرة صحّية»، غير مكترثٍ بدعوات مثقفين وهيئات ثقافية وأخرى معنية بالحريات، بضرورة إلغاء الرقابة. روائي أردني، فضّل عدم نشر اسمه، لعضويته في إحدى لجان وزارة الثقافة، علّق على ذلك بقوله لـ«السّجل»: «هذا التصريح يدين الوزير، وكان من الأفضل أن يدافع عن حرية الإبداع والتعبير بدلاً من إقامته في الطرف الآخر». يضيف الروائي: «كثيرٌ من تصريحات الوزير غير مفهومة، ولا تحمل أيَّ دلالة، نريده وزيراً يخطط ويدع الآخرين ينفّذون، لا مجرّد حكواتي في الثقافة. بل إنه ينبغي أن لا يلعب هذا الدور إطلاقاً». ويتابع: «يبدو أن الوزير يعتمد على الأداء الفردي One Man Show، بينما تحتاج الوزارة إلى روح الفريق الواحد من خلال عمل اللجان والمديريات، بدلاً من تغليب رأيه الشخصي واجتهاده الخاص». الباحث موفق محادين، قال لـ«السّجل»: «كل تصريحات الوزير لا تستحق التصريح، كان من الأفضل عدم تورطه في أيّة مقاربات، بخاصة أنه لم يأت من أوساط لها علاقة بالثقافة والمعرفة، مثله مثل معظم وزراء الثقافة السابقين الذي جاءوا في سياق محاصصات عشائرية وجهوية وشللية، وكانت وزارة الثقافة، على الدوام، جائزةَ ترضية للفئات الحكومية الأقل حظاً». محادين لفت إلى أن الوزير كان يمكنه «التحدث عن الأمن الثقافي، أو علاقة الشرطة بالثقافة، كونها علاقة وطيدة، فالثقافة في مفهومها الأكثر تداولاً - بحسب غرامشي وإيجلتون وألتوسير - هي التشذيب والتهذيب لخامة الطبيعة، أي إخضاع الرأي العام وإعادة إنتاجه في إطار ثقافة السلطة المهيمنة، وعليه، يكون اختيار الربيحات ذكياً». باحث وناشط حقوقي، طلب عدم نشر اسمه، نظراً لما يربطه بالربيحات من علاقةٍ «طيبة» لا يريد إفسادها، شبّه أداء الوزير «كمن يُعافَى من مرض، فتجده مقبلاً نحو الأكل والشرب والحياة بإفراط، غير أن ذلك لا يعبّر عن توجّه حقيقي لتطوير العمل الثقافي أو للإصلاح والتغيير». الوزير و«التغيير» منذ دخوله إلى وزارة الثقافة، أعلن الربيحات «التغيير» عنواناً أساسياً لإدارة الوزارة، التي جرّبت وزراء من خلفيات مختلفة، وحظيت باهتمام متزايد تمثَّلَ في رفع موازنتها مراتٍ عدة لتصل نحو 13 مليون دينار، واستيعابها مشاريعَ جديدة من أبرزها: مهرجان الأردن، مكتبة الأسرة، التفرغ الإبداعي، ومشروع مدن الثقافة الأردنية. سبق للربيحات أن تقلّد حقيبة التنمية السياسية، وهي تجربة تشكل مقياساً لمدى نجاحه أو فشله في موقعه الجديد. فالجميع شهدَ له باجتماعاته التي تواصلت مع فعاليات وقوى سياسية، وإلقائه عشرات الخطب، وإقامته الحوارات، لكن ديناميكيته تلك «لم تُفْضِ إلى نتيجة» كما يرى محلّلون وكتّاب أعمدة، بل إنها قادت أحياناً إلى نتائج عكسية، كما حدث في قانون الأحزاب. احتجّ الربيحات منذ توليه وزارة الثقافة على «بيئة الموظف»، وعدّها «غير ملائمة». لتحسين هذه «البيئة»، أصدر فور تولّيه المنصب قراراً بتبليط الدَّرَج الداخلي في الوزارة وتبديل الباب الخارجي، كما أمر بإعادة تبليط الرصيف أمام مبنى الوزارة، لكنه أبقى المكاتب والتجهيزات الداخلية التي يستخدمها الموظف طيلة ساعات دوامه، على حالها. بعدئذ توجّه الوزير إلى الإعلام ليؤكد إنجازه، فصرّح حينها: «بالنسبة لتبليط البنكيت والدَّرَج، فقد حاولنا العمل في بيئة مريحة، وسعينا لتحسين البيئة، وهذا أمر طبيعي. ولو كنت عاملاً لا وزيراً، لفعلت الشيء نفسه. رؤيتي أنه لا بدّ من تحفيز العاملين وتوزيع الأدوار عليهم لتنسجم مع الإيقاع. نفكر كيف نُغْني الثقافة الأردنية، وكيف نوزع اهتمام الناس بشكل متساوٍ بين صنوف الثقافة، وكيف يجد كل إنسان أردني نفسه في الفعل الثقافي، والباقي مجرد تفاصيل». الوزير الذي أبدى انضباطاً في جميع المواقع التي شغلها، يؤمن أن الموظف الناجح هو الذي يتأخر بعد ساعات الدوام الرسمي، ويداوم أيام العُطَل من دون أن ينال ما يستحق من مكافآت، ولا يَعُدّ ذلك مقياساً لنجاح العمل فحسْب، بل لـ«قياس الولاء للوطن» كما يردد دوماً. بعد «التبليط»، زار الهيئات الثقافيةََ في جميع المحافظات الأردنية خلال فترة قصيرة جداً، واستمع للمطالب التنموية لتلك الهيئات، وردّ عليها فوراً - عادةً - بالنفي أو الموافقة. كان من أبرز المطالب التي وافقَ عليها تأسيس فرقة موسيقية في جميع المحافظات لـ«يستفيد منها خريجو كليات الفنون في الجامعات الأردنية»، كما تنوي الوزارة إنشاء مركز ثقافي متكامل في كل محافظة. المتابع لتلك الزيارات، يلحظ اقتران العمل بالإعلام أكثر من العهود السابقة التي مرّت على الوزارة، ما دفع مسؤولين في مواقع متقدمة في الوزارة، إلى الهمس بتناقض ذلك مع تكرار الوزير لاعتبار فكرة العمل لصالح الوطن، لكن مسؤولين آخرين في مواقع موازية يتصدّون لذلك بقولهم: «إن ما يقوم به الوزير كل نهار يحتاج إلى صفحة كاملة في الصحف اليومية حتى يحظى بتغطية مناسبة». «التقشف» مهما كان الثمن تنظم الوزارة هذا العام كلاًّ من مهرجان الأردن واحتفالية الأردن بالقدس عاصمة الثقافة العربية 2009، واحتفالية الكرك مدينة الثقافة الأردنية 2009، ما يتطلب جهداً مضاعفاً من الموظفين، ولكن كل ذلك يجري من دون صرف المكافآت التي يستحقونها، حيث قنّن الوزير المكافآت وحدّدها بسقف معين، وهو ما لم يُرْضِهم، هم الذين يعانون من تدنّي رواتبهم. يعتقد أحد المدراء في الوزارة، اشترط للحديث مع «السّجل» عدم نشر اسمه، أن سياسة «الترشيد» التي ينتهجها الوزير لا تجدي نفعاً، مقابل ما يطلب من جهد إضافي من الموظفين. يقول: «كان من الأفضل تقدير المكافأة وفقاً للجهد المبذول، كما أن استغراب الوزير من تلقّي الكتاب والفنانين مكافآت نظيرَ مشاركتهم في نشاطات الوزارة هو في غير محلّه، فمحاولات خلط مفهوم خدمة الوطن بفكرة العمل التطوعي المجاني لا تتفق مع مؤسسية وزارة الثقافة، والسعي نحو تحسين الثقافة والمثقف الأردني». سياسة «الترشيد»، طالت مهرجان الأردن أيضاً، فرأى الوزير أن تُدعى الفرق الفنية والموسيقية من خلال اتفاقيات التبادل الثقافي التي وقّعتها الوزارة مع هذه الفرق أو الدول التي تمثلها، ما يعني عدم دفع أجور لهم، لكنه بعد مرور شهر، تفهَّمَ ضرورةَ دعوة فنانين عرب مثل: محمد عبده، محمد منير، زياد الرحباني، كاظم الساهر، ماجد المهندس، لكنه عاد مرة أخرى وأصرّ على حضورهم المجّاني، ما استنكره هؤلاء الفنانون عبر وسائل إعلام عربية. ميزانية المهرجان غير المعلَنة تتجاوز 3 ملايين دينار أردني، نقلاً عن المنسق العام لمهرجان الأردن رشيد ملحس. ما دفع إدارةَ المهرجان لإقناع الوزير بأهمية دعوة الفنانين العرب ودفع أجورهم. لا يمكن تقييم إنجازات الربيحات، بشكل نهائي، قبل نهاية العام، والنظر إلى نتائج مهرجان الأردن واحتفاليتَي القدس والكرك، أو أقلّه حتى مغادرته هذا المنصب. وعليه، فإن النقد الموجَّه إليه ينطلق من انطباعات سابقة ومؤشرات حالية قد لا تؤول إلى ما يتوقعه منتقدوه، الذين لا يرون من جهتهم أهميةً للانتظار. بين خطاب وزير الثقافة وسياسات «ترشيده» التي لا تنتهي، ودعوته لـ«تجسيد الولاء للوطن» من خلال العمل الإضافي المجّاني، و«ولعه» بالإعلام، لا يرى مثقفون غرابةً في كل ذلك، إذا ما أُخذت في الحسبان الفترةُ الزمنية القصيرة التي يتسلمها وزير الثقافة عادة، بينما قد لا يختلف خطابه كثيراً عن خطاب وزراء سابقين كانوا مثقفين جاءوا من صلب الحياة الثقافية الأردنية. |
|
|||||||||||||