العدد 3 - ترحال
 

المسير في وادي زرقاء ماعين درسٌ عميق في الفلسفة.

الرحلة في الوادي دليلها الأوحد والأكثر دقة ذلك الشلال الذي ينحدر من أعالي جبالٍ بازلتية داكنة اللون، لكن منظمي رحلة ارتأوا المشي «عكس» تيار المياه المنحدرة القوية.

عند رؤية صور هذا الوادي من رحلات سابقة، يتشكل لدى المرء شوق عظيمٌ لزيارته، كيف لا، وصَيف عمّان جاف وحارّ، بحيث تبدو رؤية المياه الدافقة الدافع الأكبر للاستيقاظ فجراً، استعداداً للانطلاق في رحلة نحو مجاهيل الطبيعة، ورغم أن المشي يمتد لأكثر من 16 كم على طرق عنيدة، إلا أنها تجربة يتشوق لها مَن يعاني صيفَ المدينة الحارّ.

بعد أقل من خمس دقائق، يمعن المرء في التفكير... لربما كان المشي ضد التيار خياراً غير صائب، فالمياه قوية، والإنسان لن يكون أشدّ بأساً من صخور عنيدة استحالت ملساء بعدما روّضتها مياه الوادي التي تتدفق بقوة رغم شحّ الأمطار..

أصبح الوصول إلى آخر الوادي هدفاً جماعياً كلما جدّ فريق المسير المكون من نحو 20 شخصاً من خلفيات مختلفة لم تجمعهم هنا سوى الرغبة في معاندة الوادي ذي الصخور العذراء التي روّضتها مياه قوية، أو سايرتها وحوشه من طير وحيوان وقّعت معه معاهدة تعايش أبدية...

باستمرار المسير يشتد عناد الوادي، وتزيد صخوره وعورة، وتصبح مياهه أكثر صخباً وأقوى تدفقاً.. وخلال ذلك، كثيراً ما امتدّت الأيدي لتساعد من يئسوا من محاولة الصعود نحو صخرة أكبر يجب تخطّيها، أو فشلوا في تسلّق شلال دافق، يتطلّب صعودُ الصخور الملساء تحته حَملاً ورَفعاً وربما سحباً بالحبال.

الانتباه الشديد إلى كل موطئ قدم أو صخرة ترتكز فوقها الخُطى، يجعل المرءَ يغفل النظر إلى أعلى، والتمتع بالمشاهد بالغة الروعة.

لوحات من الطبيعة كأنها بريشة فنان. السماء الزرقاء الصافية تعانق الجبال الشاهقة وشجيرات لم تتمكن من العيش هنا إلا لأنها قويّة، فبزغت من بين الصخور يانعة شديدة الخضرة، وطيرٌ يقتات على ما تنعم به الطبيعة، فيما المياه تهدر بين الصخور لخلق مشهد فردوسي يدفع إلى التساؤل: هل نحن حقاً في الأردن، كيف غبنا وغابت عنا كل هذه المشاهد الجميلة؟ وكأننا نسينا في غمرة العمل والدراسة والجلوس على المكاتب بين «أربعة حيطان» أن البلاد ذات طبيعة مدهشة، وجمالها يخلب الألباب، وأننا لسنا بحاجة سوى إلى مسير ساعات لتكافئنا الطبيعة بفتنة مناظرها.

نحن بين «أحضان الطبيعة». تبدو هذه عبارة كليشيهية ومكررة، لكنها تنطبق على جلستنا تلك، التي تَيَقّنا خلالها أنه لا ينبغي إزعاج الطبيعة، أو إيقاظ وحوشها التي ربما اختبأت منا، أو أنها ترتاح خلال نهارها تمهيداً لصيد ليلي.

ومع تخطّي العقبات، الواحدة تلو الأخرى، كان شوقٌ لرحلة العودة يتنامى شيئاً فشيئاً في دواخلنا، وكلنا أمل أن تساعدنا المياه الدافقة على الوصول الأسهل والأسرع إلى بداية الوادي، كيف لا، والمشي مع التيار أسهل وأيسر دائماً.. لا فلسفة هنا، فكل ما نبغيه مسايرةُ المياه الغاضبة الدافقة.

الأمر بدا مختلفاً هذه المرة. فالمشي مع التيار ليس سهلاً، بل أصعب من المشي عكسه... انحدار المياه كان «يدفشنا»، ويوقعنا في كثير من المرات. المياه أقوى من أرجلنا التي اعتادت على سهولة المشي في المدن.. والمشي مع التيار قادنا في اتجاهات لم نكن نُرِدْها، فصارت مسايرة المياه المتطلِّبة حِملاً ثقيلاً، ومهمة صعبة، ذكّرتنا أن علينا تحمُّل خياراتنا والمشي عكس التيار إذا لزم الأمر، في درسٍ سيطبقه كثيرون منا على حياتهم العملية.

شكراً لك، مرة أخرى، يا أمّنا الطبيعة.

السير مع التيار أصعب من المشي عكسه وادي زرقاء ماعين: مشهد فردوسي
 
01-Sep-2009
 
العدد 3