العدد 12 - اجتماعي
 

لبند الذي يسمح بزواج القصّر ممن أتموا الخامسة عشرة، كان واحداً من أكثر البنود إثارة للجدل في النقاش الذي دار حول مسودة مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد، رغم تأكيد دائرة قاضي القضاة أنه سيكون «محكوماً بضوابط».

المسودة أصدرتها الدائرة في نيسان/أبريل 2010، كبديل مقترح لقانون الأحوال الشخصية النافذ منذ العام 1976، وهو قانون كان قد حدد سن زواج الأنثى بـ15 عاماً، و16 عاماً للذكر، وعدّل العام 2001 بقانون مؤقت رفع سن الزواج للطرفين إلى 18 عاماً، لكنه سمح بتزويج من أتم الخامسة عشرة «إذا كان في زواجه مصلحة تحدد أسسها بمقتضى تعليمات يصدرها قاضي القضاة لهذه الغاية».

هذه التعليمات كما يقول القاضي في الدائرة أشرف العمري، ألزمت القاضي المعني بعقد الزواج بالتحقق من موافقة ولي الأمر، والقدرة المالية لطالب الزواج، لكنها لم تحدد ماهية «المصلحة» وتركتها لتقديره.

وفق أرقام دائرة قاضي القضاة، فإن هناك 9014 حالة زواج لقاصر العام 2008، مقابل 5349 حالة العام 2009، والتدقيق في نوعية الاستثناءات التي يكشف عنها العمري تؤكد الحاجة الماسة إلى استحداث آلية أكثر ضبطاً لهذه الاستثناءات. فإضافة إلى حالات العلاقات «غير الشرعية»، هناك حالات الفتيات الفقيرات اللواتي لا يكون لهن معيل، أو اليتيمات اللواتي بلا مأوى، والفتيات المعنفات في أسرهن، وهي حالات كما يقول العمري «لا يكون فيها أمام الفتيات سوى خيارين: الذهاب إلى دار للرعاية الاجتماعية، أو الزواج».

الطرح السابق يثير التساؤل، ذلك أن تقديم الرعاية للفقراء واليتامى والمعنّفين من القصّر، واجب مؤسسات الدولة في الأساس، ويجب أن لا يتم، بأي حال، اختزال مؤسسة الزواج لتصبح مأوى يقدم الطعام والحماية، والمؤلم أن يتمّ ذلك في مرحلة عمرية لا تكون فيها الفتاة ممتلكة لإرادتها، وبدلاً من توفير رعاية توصل الفتاة إلى سن الرشد بحد أدنى من الوعي الذي يؤهلها لأن تختار طريقها في الحياة، تصادَر منها حياتها قبل أن تبدأ لقاء مأوى.

هذا التوجه نحو الإبقاء على زواج القصّر هاجمه إعلاميون وناشطون في مجال حقوق الإنسان. إذ وصفه رئيس تحرير صحيفة الغد موسى برهومة، في مقالة له، بأنه «اغتصاب القاصرات بشكل شرعي»، وتساءل أستاذ علم الاجتماع في جامعة مؤتة حسين محادين، في تصريح لـے عن «النضج والمهارات الحياتية التي يمكن لطفل في الخامسة عشرة من عمره أن يكون قد اكتسبها وتجعله مؤهلاً لإدارة مؤسسة كالزواج».

المفارقة هنا أن مشروع القانون نفسه حدد سن الرشد بثمانية عشرة عاماً، ونص في المادة 205 على أن من أتم السابعة من عمره ولم يتم الثامنة عشرة بأنه «ناقص أهلية»، وعلى وليه أو وصيه تولي شؤونه. ويبدو غير مفهوم هنا كيف يقرّ موضع في القانون بأن شخصاً ما ناقص أهلية وبحاجة لمن يتولى شؤونه، ثم يُسمح في موضع آخر من القانون نفسه بزواجه.

المفارقة الثانية أنه بعد أسبوعين من صدور مسودة القانون، صدر تعديل على قانون العقوبات الأردني، تم بموجبه تشديد العقوبة على من أقام علاقة جنسية مع قاصر، وبعد أن كان القانون القديم يكتفي بتشديد العقوبة على «مواقعة» من لم يتم الخامسة عشرة من عمره، أقر التعديل تشديد العقوبة حتى سن الثامنة عشرة.

ما يثير التساؤل هنا، هو الحكمة من توسيع هامش الحماية المقدمة للقاصر في قانون العقوبات، وفي المقابل تضييقها عليه في بند التزويج في مشروع قانون الأحوال الشخصية، مع الأخذ في الحسبان أن القاصر هنا هو في الغالب الأعم أنثى. ووفق العمري، فإن حالات تزويج القصر الذكور «نادرة جداً، وغالباً لا تتم الموافقة عليها من دائرة قاضي القضاة».

فهل هدفُ المشرّع في هذه المسألة حمايةُ القاصر، أم حماية النظام والمواضعات الاجتماعية؟ ذلك أنه في الحالين هناك علاقة جنسية مع طفلة، لكن العلاقة التي تتم خارج المظلة الاجتماعية تعامَل كجريمة، أما العلاقة التي تتم داخل إطار الوصاية فإنها تحظى بحماية قانونية.

هناك ما يشبه ذلك في القانون الذي يُنزل العقوبة بمن ارتكب جريمة اغتصاب امرأة، لكنه لا يتعامل مع الاغتصاب كجريمة إن كانت هذه المرأة زوجته، فهناك في الحالين امرأة تعرضت للانتهاك، لكن القانون في هذه الحالة بالتحديد لا يقدم الحماية المفترضة للضحية، بل للنظام الاجتماعي الذي يرى أن المرأة حقٌّ لزوجها فقط، وبالتالي فإن العقوبة تنزل بمن تعدى على ما ليس حقاً له.

يبدو مثيراً لليأس، ونحن في القرن الواحد والعشرين، أن تُطرح مسألة كتزويج الأطفال للنقاش، وأن ينقسم الناس حولها، إذ يضع هذا علامة استفهام كبيرة على المسافة التي قطعها المجتمع حقيقة باتجاه التحديث. الأسوأ هو خطاب المدافعين عن المشروع، فكان لافتاً في هجومهم على المعارضين اعتمادهم لغة التخوين.

مجلس علماء جماعة الإخوان المسلمين أصدر بياناً حذر فيه من «الدور المشبوه» الذي تمارسه «جمعيات مشبوهة» و«جمعيات نسوية مستغربة» و«كتّاب يسيرون في فلك الغرب»، وأصدرت جمعية العفاف الخيرية بياناً اتهمت فيه من أسمتهم «المتباكين» على حقوق المرأة بـ«تنفيذ أجندات خارجية مدعومة بالأموال الطائلة والتمويل الخارجي المشبوه».

كما كتب أستاذ الشريعة في الجامعة الأردنية أمجد سعادة يتهم معارضي زواج القصر بأنهم يخالفون حكم الله الذي لم يحدد سنّاً معينة للزواج، بل جعل «القدرة على النكاح» هي «علامة الكبر»، وهو الحكم النافذ كما يقول منذ قرون مضت.

اتهام معارضي زواج القصّر بالتعدي على الشريعة يفنّده متخصصون في الشريعة، فالمحامية الشرعية عبير التميمي تقول إن عدم تحديد الإسلام لسن الزواج لا يعني إطلاقه، فالمسألة هنا تحكمها الأعراف المتبعة في كل عصر، وفي زمان معين كانت الفتيات يزوَّجن في سن 10 سنوات، لكن هذا لا يعني أن يحدث هذا الآن. وتضيف: «للمشرّع الحق في أن يقيّد حكماً شرعياً معيناً إن رأى أن تنفيذه يؤدي إلى التسبب بضرر، وتحديد سن الزواج هو واحد من هذه الأحكام».

إجمالاً، فإن مشهد السجال حول القضية لم يكن سوداوياً تماماً، فمقابل الإرهاب باسم الله الذي مارسه بعضهم، أبدت دائرة قاضي القضاة انفتاحاً تجلّى بدايةً في بادرتها غير المسبوقة بطرح مسودة المشروع للنقاش، وقد عقدت بالفعل أكثر من ندوة اشترك فيها علماء شريعة مع ممثلي مجتمع مدني ومتخصصين في علم الاجتماع.

وكان اللافت في النقاش الذي دار حول مشروع القانون هو «المرونة» التي أبدتها منظمات المجتمع المدني التي لم تدفع باتجاه الإلغاء الكلي لبند تزويج القاصر بقدر ما دفعت باتجاه تقييده، إذ طالبت اللجنة الوطنية لشؤون المرأة في بيان لها بأن تخضع الاستثناءات لتقدير هيئة من القضاة لا قاض واحد كما هو معمول به حاليّاً، الأمر الذي أكدت الدائرة أنها ستدرسه بجدية.

محادين طالب في السياق نفسه أن تقتصر هذه الاستثناءات على حالات العلاقات «غير الشرعية»، لافتاً إلى خطورة ربط هذه الاستثناءات بـ«تعليمات»، وطالب بربطها بـ«نظام»، ذلك أن «التعليمات قانونياً أدنى من النظام، ويمكن خرقها دون تبعات».

«التدرّج» الذي يبدو أن التحالف يعتمده في هذه القضية يبدو سياسة حكيمة، وفرض المزيد من القيود على الاستثناءات إن تحقق سيكون إنجازاً يضاف إلى الإنجاز الذي تحقق قبل تسع سنوات في التعديل الذي حوّل زواج القاصر من قاعدة إلى استثناء، مع الأخذ في الحسبان أنه ما زال إنجازاً يقف على الحافة، فالقانون المؤقت الذي تضمن هذا التعديل رُفض مرتين من مجلس النواب.

إلغاء الخلع: خطوة إلى الوراء

إضافة إلى تزويج القاصرات فإن إلغاء حق المرأة في خلع زوجها كان البند الآخر المثير للجدل، فبعد تسع سنوات من التعديل الذي تضمنه قانون العام 2001، ومُنحت بموجبه المرأة الحق في خلع زوجها مقابل التنازل عن حقوقها المالية، قصر مشروع القانون الجديد هذا الحق على حالات ما قبل الدخول، لكن المشروع تضمّن في المقابل «تسهيلات» لإجراءات الطلاق في قضايا الشقاق والنزاع، وهي تسهيلات قدّمتها الدائرة بوصفها تعويضاً عن الحق المسلوب.

«التسهيلات» تجلّت في أن مشروع القانون أعفى المرأة من تقديم «بيّنات» على وقائع تثبت أنها متضررة من الزواج، وأوكل مهمة التحقق من الضرر الواقع عليها إلى القاضي، ولكن هذا لا يبدو أنه سهّل كثيراً، فقناعة القاضي بوجود ضرر وليس رغبة المرأة، هي ما سيحدد في النهاية إن كان سيحكم لها بالطلاق. وهو أمر رأت الأمينة العامة للجنة الوطنية لشؤون المرأة أسمى خضر، أنه يخالف المغزى الأصلي للخلع الذي لا يشترط أن يكون لدى المرأة أي سبب يدعوها الطلاق، حيث تساءلت خضر في ندوة عقدتها صحيفة الغد لمناقشة المشروع، عن الحكمة في حرمان امرأة كرهت الحياة مع زوجها من حقها في الانفصال عنه، مشيرة إلى أن كثيراً من النساء يمتنعن عن إعلان الأسباب الحقيقية لطلبهن الطلاق حفاظاً على مشاعر أولادهن.

الدفاع الذي ساقته الدائرة في هذه القضية يرتكز على مسألتين: رغبة المشرّع في أن يجنّب المرأة خسارة حقوقها المالية، ورغبته في أن يجنّبها مغبّة التسرّع والتعسّف في طلب التفريق، فقضايا الخلع لا تتجاوز أحياناً الشهر، مقابل قضايا شقاق ونزاع تبقى في المحاكم لسنوات.

هذا الطرح يصدر عن ذهنية تفترض النقص في المرأة، وتتعامل معها ككائن يحتاج إلى وصاية تصل حدّ حرمانه من رخص منحه إياها الشرع بدعوى أنه أساء استخدامها، وهي ذهنية تتناسى أن الرجال يتسرعون أيضاً ويتعسفون في استخدام حق الطلاق، ولكن أحداً لم يفكر بتقييد حقهم هذا.

محادين الذي لفت إلى «الذكورية» التي كانت سمة لهذا القانون، شدد على ضرورة أن يتكافأ الرجل والمرأة في استخدام الرخص الشرعية، ورفض مبدأ الوصاية الذي يفترض أن المرأة ما زالت بحاجة إليها بوصفها غير ناضجة وغير أهْل لاتخاذ القرارات المناسبة، وقال: «يجب أن لا يتخذ القانون موقفاً من الفرد تبعاً لجنسه، بل عليه أن يتعامل مع الرجل والمرأة بوصف الاثنين عاقلَين بالغَين قادرين على اتخاذ القرارات المناسبة».

رغم ما سبق، فإن المتتبع للنقاش الدائر حول حق الخلع يكتشف أن السبب الأساسي لإلغاء هذا الحق هو «الحساسية» الاجتماعية التي تسبب بها للرجال «المخلوعين»، وفي الندوة سابقة الذكر استخدم أستاذ كلية الشريعة في الجامعة الأردنية على الصوا، وعضو لجنة المرأة في حزب جبهة العمل الإسلامي ساجدة أبو فارس العبارة نفسها للتعليق على إلغاء الخلع، وهي أنه «يحافظ على هيبة الرجل»، الأمر الذي أكدته التميمي بقولها: «الخلع شكّل انتهاكاً كبيراً لرجولة الرجال، وكان بمثابة تشهير بهم، وفي بداية تطبيقه كانت معظم الأحكام تصدر غيابياً لأن الرجال لم يكونوا يحتملون حضور الجلسة التي سيُخلعون فيها».

هذه الحساسية «الرجالية» تجاه الخلع كانت على ما يبدو سبباً رئيسياً في ردّه مرتين من مجلس النواب، لهذا دعت خضر إلى إعادة حق الخلع للمرأة ولكن مع «تلطيف الألفاظ التي تسببت بحساسية للرجال».

مشروع قانون للأحوال الشخصية: طريق الألف ميل
 
01-Jun-2010
 
العدد 12