العدد 12 - نبض البلد
 

كومة من الفناجين بدت كأنما أصابها زلزال طفيف، فأخذت ترتطم بعضها ببعض، فيما العيون مشدودة الانتباه لمعرفة كُنْه المدفون تحتها الذي بدأت تتشكّل ملامحه بالتدريج.

ومن بين ركام الفناجين البيضاء، ظهرت كومة بشرية بلون الـ«قهوة»، عنوان العرض، وتحركت ببطء وبتململ فوق الفناجين الزجاجية، وكأن الجسد يتقمص حالة القهوة السائلة عبر انثناءاته والتواءاته، وحتى في سكناته أيضاً.

يخرج الجسد البنّي من إسار الفناجين التي كانت تقيده، ويتحرك على إيقاع موسيقى هادئة، مواصلاً زحفه على خشبة مسرح الحسين الثقافي الذي احتضن العرض، 4 أيار/مايو 2010.

وإذ يعود الجسد مرة أخرى لطوق الفناجين، فإنه يعتلي الطاولة ويبدأ حركةً عكس عقارب الساعة تدل على التخبط والتوهان، وتجسّد لحظة بحث الإنسان عن ذاته، ثم يخيم السواد على الصالة وقد انتقلت حالة الترقب والخوف من المؤدي التونسي حفيظ ضو إلى الجمهور الذي تركزت أنظاره على الخشبة بحثاً عن بصيص ضوء، لتعاد الإضاءة تدريجياً للمكان.

وفي هذه المرة يقف الجسد على قدميه ويرفع رأسه باتجاه الصوت الذي لم يكن سوى صوت محمود درويش يقرأ من قصيدته «مقهى وأنت مع الجريدة»:

«مقهى

وأنت مع الجريدة جالس لا

لست وحدك. نصف كأسك فارغ

والشمس تملأ نصفها الثاني

ومن خلف الزجاج ترى المشاة المسرعين ولا تُرى،

إحدى صفات الغيب تلك: ترى ولكن لا تُرى،

كم أنت حر أيها المنسي في المقهى!

فلا أحدٌ يرى أثر الكمنجة فيك،

لا أحدٌ يحملقُ في حضورك أو غيابك».

فور انتهاء كلمات درويش، يبدأ جسد ضو بالاهتزاز محيلاً إلى حالة مواجهة حادة مع الذات، بحثاً عن الخلاص، وتتعالى مع هذه الاهتزازات موسيقى إلكترونية تقوم على دقات أشبه بنبضات القلب الواجف، كما تتحرك اليدان بسرعة كبيرة بحيث تبدو لكل واحدة منها ظلال متعددة، وكلما تصاعدت حدة الموسيقى تصاعدت معها حركات الجسد المنتفض.

تتجه الموسيقى نحو الخفوت ويستكين الجسد، بما يشير إلى حالة من التصالح مع الذات، ليعاود الجسد حركته بالتقاط فناجين القهوة وترتيبها على الخشبة مردداً أسماء أصحابها، فيما صوت صفارات القطارات والبواخر، وموسيقى الإعلان عن الرحلات في المطارات، تتعالى في الفضاء، ويظل ضو معها يردد أسماء من مروا وغابوا، مرتّباً الفناجين زمراً على المسرح بانتقاء شديد، وكأنما يعرف الأشخاص من فناجين قهوتهم لا العكس. يتردد في الأرجاء صوت هؤلاء الأشخاص، لكن المشاهد يشعر أن صوتهم يتردد في ذهن الشخصية التي يتقمصها ضو محتضناً رأسه بيديه ألماً.

ينتهي العرض بتضاؤل الأصوات المتداخلة في رأس الفنان، مع تصاعد موسيقى فرحة وكأنما أعيد للذات تآلفها مع نفسها.

ضو أوضح لـے أن اختيار عنوان «قهوة» للعرض، جاء لأن «القهوة ترتبط بشكل كبير بإيقاع حياتنا»، مضيفاً: «نحن نشرب فنجان القهوة في الصباح، ونتحدث عن أحلامنا ليلة أمس، وفي الوقت نفسه نخطط للقادم من يومنا».

ولفت ضو إلى استثمار العرض مفردة القهوة التي تنبه لها سابقاً درويش، وحاكَ منها قصيدة تعبّر عن قضايا إنسانية عميقة، متسائلاً: «هل يخطر ببال أحد منا بينما هو يشرب القهوة مرة المذاق، ما يبذله الناس من جهد لاستخراج هذا السائل، أو الاكتشافات البشرية التي أدت إليها، وكم هي المعاناة التي بُذلت للحصول على فنجان قهوة. كذلك في الرقص؛ هناك مقاومة مستمرة لجميع أشكال الضغوط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية».

هذا العرض التونسي صممته الفنانة وراقصة البالية عائشة مبارك، وقُدّم ضمن الدورة الرابعة لمهرجان عمان الدولي للرقص «زخارف حركية» الذي تديره فنياً دينا أبو حمدان وتدعمه مؤسسات رسمية وخاصة من مثل: أمانة عمان الكبرى، وزارة الثقافة، مركز هيا الثقافي، المورد الثقافي والمركز البريطاني، بمشاركة فرق من: الأردن، لبنان، الجزائر، تونس، إسبانيا، بريطانيا، أميركا، هولندا، ألمانيا، بلجيكا، كما تضمن إقامات فنية .

عُرض ضمن «زخارف حركية» - «قهوة»: بحث الإنسان عن ذاته
 
01-Jun-2010
 
العدد 12