العدد 12 - ثقافي
 

لم يكن للنسخة العربية من كتاب عمان مدينة الحجر والسلام أن تصدر في توقيت أفضل من هذا، وقت تعلو فيه أصوات تدعو إلى تقسيم الأردنيين حسب أصولهم، وتطالب تحت شعار «الأردن للأردنيين» بنفي المواطنة عن قسم، وتثبيتها على الآخر وفق هذه الأصول.

27 شخصية «عمّانية» ينحدرون من أصول شرق أردنية، فلسطينية، شركسية، لبنانية ويمنية، اهتم كلٌّ منهم بعمان على طريقته الخاصة وأسهم في نهضتها على طريقته الخاصة أيضاً، يروون في الكتاب تجاربهم في العيش فيها، ذكرياتهم عنها، أحلامهم، إنجازاتهم وخيباتهم، ليقدموا في المحصلة سبعة وعشرين وجهاً لعمان. وهي وجوه، على تنوعها والتناقض الظاهري بين بعضها وبعضها الآخر، متناغمة، إذ إن هذا التنوع هو ما يمنح المدن روحها النابضة، الثرية، المتحركة إلى الأمام.

الكتاب، وهو للفرنسية من أصل جزائري مريم عبابسة، صدر باللغة الفرنسية العام 2007، بدعم من السفارة الفرنسية في عمان، ضمن سلسلة كتب بعنوان «مدن متحركة»، وصدرت ترجمته العربية التي وُزعت مجاناً، بدعم من شركة إحياء عمان وأمانة عمان الكبرى 2010.

الفكرة الأساسية للكتاب، هي رصد الحراك الذي تعيشه المدينة في جوانب مختلفة من نشاطها، ويمكن عدّ أقسامه السبعة هي الساحات الأساسية لهذا النشاط، الذي نقل ملامحه في كل قسم أشخاص تحركوا في هذه الساحات.

في القسم الأول «مفترق طرق في منطقة الأزمات»، رصدٌ لمفارق طرق وقفت عليها عمان في إطار تحولاتها. فيقدم الباحث مصطفى الحمارنة عرضاً لتحولات عمان منذ الخمسينيات، عندما لم تكن المدينة قد شهدت بعد الظهور القوي للحركات الإسلامية، وكان التعبير السياسي للمجتمع الأردني رغم تدينه «قومياً عربياً»، تلا ذلك دخول الماركسية في أواسط الستينيات. حركة التحديث التي استمرت طيلة السبعينيات، أعاقتها أحداث مثل الثورة الإيرانية العام 1979، واجتياح لبنان العام 1982، وظهور حزب الله، وهي أحداث أدت إلى «فشل المشروع العربي للنهضة المعاصرة»، لأن الطروحات الإسلامية خلال الثمانينيات بدأت تحرز تقدماً على الأرض، تُوّج بفوز الإسلاميين في الانتخابات النيابية 1989.

يلفت الحمارنة إلى أن «الجوهر السياسي» للحركات السياسية التي تعاقبت على عمان من ناصرية وماركسية وإسلامية، كان القضيةَ الفلسطينية، التي ظلت «الدافع المحرك للأردنيين».

لكن عمان بعد العام 1989 لم تعد «مركزاً حضرياً»، لأن القانون الانتخابي المعتمد على الصوت الواحد جعلها غير «ممثّلة بما يكفي سياسياً».

في القسم نفسه، تروي عروب العابد التي تعمل بالتعاون مع منظمات دولية في برامج لتحسين الظروف المعيشية للاّجئين الفلسطينيين، وأجرت دراسات تتعلق باندماجهم الاقتصادي في الأردن، القصة الشخصية للجوء عائلتها التي أقامت العام 1948، في بيسان على حافة نهر الأردن، واضطرت إلى قطع النهر على الأقدام وقتَ هجوم المستوطنين على المدينة.

الكاتب إبراهيم غرايبة، العضو السابق في جماعة الإخوان المسلمين، يتحدث عن تحولاته الفكرية التي جعلته يترك الحركة التي تواجدت في الأردن منذ الثلاثينيات، وبدأت رسمياً العام 1945، عندما أدرك بعد سنوات من النشاط مع الحركة «ضرورة التمييز بين العمل السياسي والعمل الديني»، حيث يقع على العمل السياسي واجب الدفاع عن «حقوق المواطن وتأمين حرياته والدفاع عن الديمقراطية، وإن لم يكن متديناً أو مسلماً».

في «شكلٌ لمدينة»، يحكي المعماري الأشهر في الأردن جعفر طوقان، عن التحديثات التي أدخلها على نظام العمارة في الأردن، مثل البناء بالحجر على وجهه الخام غير المصقول، والمزج بين الحجر والباطون، وتشييد أبنية بالكامل بواسطة الزجاج والفولاذ.

وفي هذا القسم يتحدث المهندس رامي ضاهر عن خصوصية البداية التاريخية لعمان كـ«مدينة ملاذ»، وهي خصوصية يقول إن المستشرقين والباحثين المعاصرين لم ينتبهوا إليها، ما ادى إلى «الحطّ من مكانتها» مقارنة بمدن أخرى مثل دمشق والقاهرة، شكّلت «النموذج» لمنظّري المدن. ضاهر الذي قدمت عائلته من لبنان العام 1920، ينتقد تحوّل الفراغ العام للمدينة من صالات السينما والمسارح والمقاهي وساحات المدينة، لتصبح المراكز التجارية الكبرى هي المفردة الأساسية لهذا الفراغ.

في القسم نفسه، يشير المستثمر والناشط في مجال حماية الآثار والبيئة حازم ملحس، الذب أصبح وزيراً للبيئة، إلى ثغرة في القانون الأردني تتعلق بالمحافظة على الآثار، فالقانون الذي يوفر الحماية الرسمية فقط للمباني التي شُيدت قبل العام 1730، ترك القرى القديمة والأبينة العثمانية والمنازل التي شيدت أوائل القرن العشرين دون حماية.

هذا القصور في القانون كان الحافز لقيام ملحس مع مستثمرين آخرين بتأسيس شركة «إحياء عمان» التي قامت بشراء 40 مبنى قديماً.

في الجزء الثالث «المواطنية تحت المساءلة» يروي الناشط الحقوقي طالب السقاف جانباً من طفولته على سفح جبل القصور، الذي شيد عليه والده العام 1950 منزل العائلة، وكان جده اليمني الذي عمل طاهياً للأمير عبد الله بن الحسين، قد قدم إلى عمان مروراً بالحجاز مرافقاً للأمير. السقاف الذي يروي قصة تحوّله إلى ناشط في مجال حقوق الإنسان، يتحدث مطولاً عن جهل المواطنين بحقوقهم الأساسية، ويحمّل الحكومة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني مسؤولية التقصير في خلق الوعي بحقوق الإنسان.

في هذا القسم يتحدث أيضاً الكاتب الصحفي والباحث في علم الأنثروبولوجيا أحمد أبو خليل عن تجربته في إصدار أول مطبوعة في الوطن العربي متخصصة في قضايا الفقر، وينتقد خطط التطوير التي حولت وسط عمان إلى «مركز مدينة مشوه» يزداد ساكنوه فقراً، في وقت «يهرب» الأثرياء فيه إلى الأحياء الجديدة.

في الجزء الرابع «شرف النساء» تعرض مديرة مركز ميزان لحقوق الإنسان إيفا أبو حلاوة تجربة الوحدة القانونية المتنقلة التابعة للمركز، وهي سيارات تتنقل بمحامين تابعين للمركز إلى حيث توجد «الفئات الأكثر ضعفاً» كالنساء والأحداث والفقراء والمهمشين. وتروي قصة محزنة قدم فيها المركز الدعم لأسرة طفلة في الثانية عشرة حملت من جار لها في العشرين من عمره، وتمت متابعة حالتها إلى أن وضعت طفلها، لافتة إلى أن الكثير من جرائم الشرف يمكن تفاديها إذا تحققت مؤازرة العائلة وتوفير دعم يساعد الفتاة على «تحمُّل ألمها».

يقدم قسم «شرف النساء» أيضاً ناديا الخاروف التي تعيش في جبل التاج بعمان الشرقية، وأسست العام 1981 جمعية «المرأة المنتجة التعاونية» التي ساعدت خلال ثلاثين عاماً، آلاف النساء الفقيرات اللواتي عملن في إنتاج الملابس والحقائب وغيرها، على تحسين أوضاعهم المادية والاجتماعية، وكانت الخاروف في ذلك الزمن مضطرة للتأكيد بشكل متواصل أمام رجال الحي أن جميع العاملين في المركز، باستثناء المحاسب، من النساء، كي يسمح هؤلاء لنسائهم بالحضور.

أما وداد قعوار المهتمة بالأزياء الشعبية، فتحكي عن هوايتها في اقتناء الحلى والأثواب التقليدية الفلسطينية والأردنية والسورية، التي بدأتها العام 1956 واستطاعت تكوين مجموعة ذاع صيتها منذ بداية السبعينيات، ونظمت لها العديد من المعارض العالمية. قعوار التي ترى أن الحفاظ على الذاكرة هو «شكل من أشكال المقاومة»، تستغرب ظاهرةً تزايدت في الثمانينيات، تتمثل في عودة الفتيات إلى الحجاب بارتداء الفتيات الملابس، وليس الأثواب التقليدية المطرزة التي تغطي الجسم بكامله هي أيضاً.

يعرض القسم الخامس «مساحات عامة جديدة» تجارب شباب حاولوا خلق أنواع من النشاط كانت في وقتها جديدة على عمان. مظهر ومدين الجزيرة افتتحا Books@cafe، ولم تكن الجدة في مشروعهما مقتصرة على أنه المكان الأول في عمان الذي يندمج فيه مطعم يقدم المأكولات الخفيفة مع مكتبة مع مقهى إنترنت. الجديد الذي لم تكن قد ألفته المدينة هو «التسامح» الذي أبداه المكان تجاه «المختلفين» وعلى رأسهم مثليو الجنس، ما أثار حفيظة المجتمع المحلي، وتسبب في إغلاق المكان مدة عام كامل، قبل أن يعاود نشاطه العام 2000.

في هذا القسم يعرض التشكيلي محمد أبو عزيز تجربته كمدرب للرسم في مركز حماية الطفولة في مخيم جبل النصر، حيث يتعلم الأطفال في المحيط الفقير التعبير عن أنفسهم عن طريق الرسم والموسيقى والمسرح والشعر، ويتعلمون حماية أنفسهم من العنف. بتجارب بسيطة مثل تكليفهم بكتابة أسماء جميع الأطفال في المركز يتم تشجيع الأولاد والبنات على التعارف، الأمر الذي يراه عزيز مهماً، أن هؤلاء الأطفال لا يختبرون الاختلاط في مدارسهم.

القسم السادس «المشهد المسرحي الجديد» يقدم المخرجة المسرحية سمر دودين، التي أسهمت أواخر التسعينات في تأسيس شركة للاستشارات التربوية أسمتها «تكوين»، تحولت في ما بعد إلى مبادرة لإقامة عروض مسرحية وإبداعية للشباب والأطفال، كان هدفها الرئيسي هو إتاحة الفرصة لهذه الفئة كي توسع حدود هويتها، واختبار تجارب ثقافية متعددة.

دودين تحدثت في الكتاب عن طفولتها في جبل اللويبدة، الذي كان في السبعينيات «مجتمعاً متعدد الثقافات» يتعايش فيه المسلمون والمسيحيون والدروز، الأردنيون، الفلسطينيون، الأرمن، الشركس، السوريون واللبنانيون، دون أن يثير ذلك أيّ تساؤل.

في القسم الأخير «الفن من الذاكرة إلى الانصهار» يتحدث عازف العود إيليا خوري، الذي أسس مع شقيقيه باسل وعلي فرقة موسيقية قدمت حفلتها الأولى العام 2003، عن اختلاط أنواع مختلفة من الموسيقى في نفسه، فخوري المنتمي إلى الطائفة اليونانية الأرثوذكسية، والمقيم في مجتمع مسلم، والمنفتح على العالم، امتزجت في روحه -كما يقول- موسيقى الأناشيد الكنسية بالموسيقى الصوفية بالموسيقى الغربية.

كتاب عمان مدينة الحجر والسلام، هو بامتياز كتاب يحمل روح عمان.

«عمان مدينة الحجر والسلام»: روح المكان
 
01-Jun-2010
 
العدد 12