العدد 12 - من حولنا | ||||||||||||||
اكتسبت الانتخابات السودانية التي أجريت في الفترة 11-15 نيسان/إبريل 2010، صفة «الانتخابات الأكبر والأكثر تعقيداً». ويبدو هذا وصفاً دقيقاً، لأن هذه الانتخابات انعقدت في قطر مساحته مليون ميل مربع، إذ يبلغ طوله 1200 كيلو متر وعرضه 800 كيلو متر. ويجاور السودان كل من مصر وليبيا وأرتيريا وإثيوبيا وكينيا وأوغندا وإفريقيا الوسطى وتشاد والكونغو. وتسكنه حوالي عشرين مجموعة عرقية وإثنية رئيسية، وما يقارب 600 مجموعة فرعية. ويصل عدد سكانه -حسب آخر تعداد قبل عامين- إلى حوالي 39 مليون نسمة، يتحدثون حوالي 115 لغة للتخاطب وليس لهجة. أما التعقيد فمن أسبابه، انقطاع السودانيين عن ممارسة الانتخابات التعددية منذ العام 1986، حيث أجريت انتخابات حرة بعد سقوط المشير جعفر النميري العام 1985. كما أن البلاد ظلت تعاني من حرب أهلية ما يقرب من ربع قرن في الجنوب، بالإضافة إلى حرب في دارفور بغرب السودان منذ 2003. وزادت المفوضية القومية للانتخابات الوضع تعقيداً بسبب النظم التي أقرتها للاقتراع. فقد كان على المواطن في الشمال أن يقوم بثماني عمليات اقتراع في بطاقات مختلفة في إجراء واحد. أما في الجنوب، الذي تفوق نسبة الأمية فيه 85 في المئة، فقد كان على المقترع أن يقوم بـ12 عملية اقتراع في يوم واحد. فهو يصوت لرئيس جمهورية قومي، ورئيس حكومة للجنوب، وللولاة (حكام الأقاليم أو المحافظين)، ونواب مجالس تشريعية للجنوب بعامة وللولايات، وللمجلس الوطني، وقوائم المرأة، والتمثيل النسبي. كما أن السودان قطر شديد التشرذم حزبياً، فقد بلغ عدد الأحزاب المسجلة رسمياً فيه 73 حزباً. وتنافس على رئاسة الجمهورية 12 شخصاً حزبيين ومستقلين. كما تنافس 15 ألف مرشح على مقاعد في المجالس المحلية والولائية والقومية. جاءت الانتخابات كواحدة من أهمّ استحقاقات اتفاقية السلام الشامل التي أُبرمت في نيفاشا بكينيا، 9 كانون الثاني/يناير 2005، بين حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي تأسس في أيار/مايو 1991 ليشمل الإسلاميين والمؤيدين لانقلاب 1989؛ والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق. فقد جاء في المادة 1-8-3: «يتم استكمال الانتخابات العامة على جميع مستويات الحكم بحلول نهاية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية». وهذا يعني مطلع العام 2008، لكن هذا لم يحدث بسبب المشكلات المستمرة بين الشريكين ومماطلة الشريك الأكبر- المؤتمر الوطني. لذلك، كان مطلب الأحزاب المعارضة تأجيل الانتخابات حتى تشرين الثاني/نوفمبر 2010، منطقياً، على اعتبار أن الموعد الأصلي لم يُلتزم به. لكن المؤتمر الوطني لم يكن مستعداً لتلبية مطالب المعارضة، وأراد حرمانها من الاستعداد والتعبئة، فأصر على الموعد الحالي. ويشي هذا التأخير بعدم جدية الشريكين وعدم حرصهما على التطبيق الملتزم للاتفاقية. وقد دخلت قيادات الحزبين في خلافات وملاسنات علنية، وتبادل للاتهامات بالتقصير وأحياناً بالتآمر على الاتفاقية. وأكدت الاتفاقية على الحريات، ورفع كل القوانين المقيدة للحريات التي ورثها السودان من العهد الشمولي وإلغائها. كان من المفترض أن يقوم البرلمان بإلغاء كل القوانين التي تتعارض مع الدستور الانتقالي، بخاصة تلك المقيدة للحريات، والمخالفة لمبادئ حقوق الإنسان. لكن حزب المؤتمر الوطني، دخل في مناورات بقصد عدم مناقشة تلك القوانين في المجلس الوطني (البرلمان) المعين، رغم أن الاتفاقية منحته نسبة 52 في المئة لكي يضمن أغلبية تمرير القوانين والقرارات. ورفض حزب المؤتمر الوطني، مطلقاً، مناقشة قانون الأمن والمخابرات، بوصف ذلك من الثوابت الوطنية. ورأى في مناقشة القانون تهديداً لوجود الوطن نفسه، بينما عدّت القوى السياسية الأخرى أن استمرار القانون يحرمها من حقوقها الأساسية، لأن قانون الأمن الوطني يمنع التجمعات، وإقامة الليالي السياسية، ويفرض رقابة قبلية على الصحف، ويشدد على إصدار كل أنواع المطبوعات. وكادت مناقشة القانون تعصف بالشراكة بين الحركة والمؤتمر الوطني، لولا التدخلات المستمرة من الولايات المتحدة الأميركية ممثلة في المندوب الخاص للرئيس الأميركي، سكوت قرايشن. وانطبق الأمر نفسه على قوانين وإجراءات التحول الديمقراطي الأخرى مثل قانون الصحافة، قانون النقابات، القانون الجنائي، الإجراءات الجنائية وغيرها مما يساعد في تهئية المناخ الملائم لقيام انتخابات حرة ونزيهة. اعتمدت الأحزاب المعارضة على وجود الحركة الشعبية كشريك في الحكم، باعتبار أن الحركة سوف تقوم بالدفاع عن قضايا التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي. لكن، يبدو أن هذه الحركة فضّلت التركيز على مشكلات الجنوب وعدم إضاعة جهودها في قضايا قومية كبرى معقدة، تزجّ بها في مواجهات مع حزب المؤتمر الوطني. وكانت النتيجة أن تمادى المؤتمر الوطني في هندسة إجراءات الانتخابات النهائية بالطريقة التي تضمن له الأغلبية أو الهيمنة الكاملة. ورغم الاعتراضات على دقة وصحة التعداد السكاني الذي قُسمت في ضوئه الدوائر الانتخابية، فقد رفض المؤتمر مراجعة النتائج بحجة أنها عملية فنية تماماً شاركت فيها الأمم المتحدة، إلا أنه قام بتعديل توزيع الدوائر في جنوب كردفان، إرضاءً للحركة الشعبية. وحدث الأمر نفسه في تشكيل المفوضية القومية للانتخابات، إذ لم تُستشر الأحزاب ولم تهتم الحركة. كما لم يعر المؤتمر الوطني إذناً للاحتجاجات حول انتهاكات السجل الانتخابي. وكان من المفترض تشكيل حكومة قومية من كل القوى السياسية الرئيسية للإشراف على الانتخابات، كما حدث في انتخابات سابقة، بخاصة في العامين 1965 و1986. كانت نسبة المسجلين عالية، إذ فاق العدد، وفق تقرير المفوضية، 16 مليون نسمة، قبل مقاطعة الأحزاب. وفاق عدد المشاركين في التصويت، كما جاء في نتائج انتخابات الرئاسة والمجلس الوطني، 10مليون. وقد حصل عمر حسن البشير على نسبة 68.24 في المئة. وحصل المرشح التالي، رغم انسحابه، ياسر عرمان، من الحركة الشعبية، على نسبة 21,69 في المئة، وهو أمرٌ لم يكن متوقعاً، يشير إلى أنه كان يمكن أن ينافس البشير أو يجبره على خوض جولة ثانية على الأقل. أما في الجنوب، فقد نال سلفا كير ميارديت، مرشح الحركة الشعبية لحكومة جنوب السودان، 93 في المئة من الأصوات. وكسبت الحركة الشعبية 94 في المئة من مقاعد المجلس التشريعي للإقليم، أي 159 مقعداً من أصل 170. وفي الشمال أحرز المؤتمر الوطني النسبة نفسها تقريباً، حيث اكتسح مقاعد المجلس البالغ عددها 450، وهي مقسمة كما يلي: 270 دوائر جغرافية، 68 مقاعد الأحزاب السياسية لكل ولاية، 112 مقعداً للمرأة. وقد أفسح المؤتمر الوطني بعض الدوائر لحلفاء مختارين شاركوه الحكم خلال الفترة الماضية. وهكذا، اقتسم الشريكان، مجدداً، نتائج الانتخابات، ولكن هذه المرة عن طريق الاقتراع وليس عبر اتفاقية السلام. شهدت الانتخابات حضوراً كثيفاً للمراقبين الدوليين والمحليين، لكن وجودهم تركز في المدن والمراكز الحضرية، ولم ينتشروا كثيراً في الريف والبوادي، وهذا هو المهم، نظراً لتدني الوعي واحتمال التزوير. وذكرت أغلب التقارير وجود أخطاء فنية خطيرة، لكنها اختلفت حول التزوير«المنهجي» أو المقصود عمداً. وعلى سبيل المثال، جاء في تقرير الرئيس الأسبق جيمي كارتر، أنهم واجهوا مشكلتين على الأرض: قوائم الناخبين، ومواقع مراكز الاقتراع. فقوائم الناخبين اعتمدت على إحصاء سكاني معيب، وتم تعديل بياناتها، مما أدى إلى تأخير توزيعها الذي تم قبل يوم واحد من اليوم المحدد لانطلاق الانتخابات. كما تم تقليص عدد مواقع الاقتراع من 21,200 مركز إلى 16,500 مركز. وهذا جعل من الصعب على العديد من الأشخاص العثور على أسمائهم في قوائم الناخبين، وعلى مواقع اقتراعهم. وهناك إجماع على وجود أخطاء ملحوظة في العملية الانتخابية حالت دون استيفاء المعايير الدولية المعروفة، لكن بعض الحكومات الغربية التي ضمنت اتفاقية السلام الشامل، رأت في الانتخابات رغم كل ذلك، خطوة مهمة ومطلوبة على الطريق نحو التنفيذ الكامل للاتفاقية، وإجراء استفتاء في مطلع 2011 تشرف عليه حكومة منتخبة، وهذا ما تقوم به الانتخابات الحالية. ووصلت الإدارة الأميركية إلى حد القول إن الانتخابات «مزورة»، ولكن ستقبل بها من أجل إكمال خطوات الاستفتاء. وكان آخر من قال بذلك، سكوت قرايشن، مبعوث الرئيس الأميركي. وهددت الحكومة السودانية باستجوابه لدى عودته للخرطوم، لكن لم يحدث أي استدعاء له. أما الأحزاب المعارضة، التي كانت قد قاطعت الانتخابات، فقد جمعت كثيراً من الأدلة التي تثبت عمليات التزوير، وقالت إنها سوف تلجأ للمحكمة الدستورية. كما اتهمت حزب المؤتمر الوطني بتسخير موارد الدولة في حملته الانتخابية. لم تحقق الانتخابات الوفاق الوطني بين السودانيين ليواجهوا تحدّيات المرحلة المقبلة متفقين، وعلى رأسها احتمال انفصال الجنوب. فقد أقصى المؤتمر الوطني مجدداً بقية القوى السياسية، لكنه شعر بصعوبات تجاوز الواقع الراهن، وبخاصة معالجة قضيتَي الجنوب ودارفور والأزمة الاقتصادية المتفاقمة نتيجة فشل الموسم الزراعي والسياسات الصناعية. فقد تأخر تشكيل الحكومة، رغم اكتساح الانتخابات، لأن الحزب يبحث عن شركاء يتحملون معه المسؤولية التاريخية والأخلاقية لفصل الجنوب. ويستمر السودان في إعادة إنتاج أزمة الحكم الممتدة منذ الاستقلال العام 1956. |
|
|||||||||||||