العدد 12 - من حولنا
 

ليس غريباً ما يحدث في الأسابيع الأخيرة من تصعيد في الترهيب السياسي تجاه الفلسطينيين في الداخل.

والمفارقة أن المؤشرات والدلائل تتراكم دون رد فعل لائق من المجتمع العربي. فبعد ان أنيط تعامل الدولة مع الفلسطينيين في الداخل، وعلى غرار تعامل الاحتلال مع الفلسطينيين في مناطق 67، إلى جهاز الأمن الداخلي الشاباك، بخاصة على إثر نشر وثائق الرؤيا المستقبلية، وموقف الفلسطينيين في حرب لبنان، أخذ تعامل الدولة مع النشاط السياسي للفلسطينيين في الداخل يأخذ منحى أمنياً بشكل أكبر من السابق.

كانت ثلاث وثائق قد نُشرت، تقترح إعادة صياغة العلاقات بين المواطنين العرب على أساس الاعتراف بالفلسطينيين كأقلية وطن أصلانية لها حقوق وهي: وثيقة حيفا التي أصدرها مركز مدى الكرمل، وثيقة الرؤيا المستقبلية التي أصدرتها لجنة رؤساء السلطات المحلية العربية، واقتراح دستور ديمقراطي أصدره مركز عدالة-المركز العري للحقوق القانونية.

وبدا واضحاً أن المستهدَف الأساسي للترهيب الإسرائيلي يشمل التجمع الوطني الديمقراطي، والحركة الإسلامية - الشق الشمالي، وفق تحليل لاستنتاجات لجنة أور الحكومية التي حققت في المواجهات بين فلسطينيي الداخل والشرطة العام 2000.

لذلك، سعت أجهزة الأمن إلى تجريم العمل السياسي لهذين التيارين من خلال إنهاكهما قضائياً وأمنياً، استعداداً للقضاء عليهما، سياسياً على الأقل، متى سنحت الفرصة.

في السياق نفسه، يستذكر المرء تصريحات رئيس جهاز الأمن الداخلي الشاباك، في آذار/مارس 2007 حول تحول العرب في الداخل إلى «خطر إستراتيجي على يهودية الدولة»، وأن الشاباك «سوف يقمع أي محاولة لتغيير طابع الدولة، حتى لو كانت أدواتها ديمقراطية وقانونية».

وقد تنامت في السنوات الأخيرة وتيرة كشف، ما يسمّى إسرائيلياً، اتصالات شبّان من الداخل الفلسطيني مع «عناصر مخابرات أجنبية»، وهو كنية لتنظيم حزب الله بالأساس وعدد من المنظمات الفلسطينية الممانعة. وأدين عدد من الشبان بتهمة «التخابر مع أجهزة مخابرات معادية» في المحاكم الإسرائيلية. وعادة ما يرافق هذا النوع من القضايا الأمنية تعتيم إعلامي محكم في بداية القضية، ومن ثم تبدأ أجهزة الأمن السماح بتسريب معلومات بما يفيدها ويخدم غاياتها، إلى أن يُرفع التعتيم بعد فترة وتعلن النيابة العامة عن لائحة الاتهامات.

ومن الصعب في مثل هذه القضايا، الدفاع عن المتهمين، بسبب تقديم مواد ومعلومات سرية للقضاء الإسرائيلي، لا يتم إطلاع محامي الدفاع عليها، ما يعني أنه لا يمكن إثبات براءة المتهم، لأنه لا يمكن تفنيد رواية التخابر أو التعامل مع عميل أجنبي. فهل يُعقل مثلاً إحضار هذا «العميل» للشهادة أمام القضاء الإسرائيلي وإقناع القضاة أنه ليس «عميلاً» لجهاز مخابرات ما!

وفي السنوات الأخيرة، حُكم على شبان عرب بـ«التخابر مع منظمات فلسطينية معادية، والتخطيط للقيام بعمليات معادية» لإسرائيل، وحُكم عليهم بالسجن لفترات طويلة تتراوح بين 8 سنوات و12 سنة. وحُكم على الشاب راوي سلطاني بالسجن لمدة 6 سنوات بتهمة «التخابر مع حزب الله». وفي معظم الحالات ينتمي هؤلاء الشبان إلى الأحزاب العربية القومية، بخاصة التجمع الوطني الديمقراطي.

إلا أن التحول الأبرز في الأشهر الأخيرة، هو توقيف قياديين بارزين من فلسطينيي الداخل بتهم أمنية لم يُفصح عنها بعد، تتعلق وفق ما رشح من أخبار، بـ«التجسس الخطير لصالح حزب الله».

أول هؤلاء عمر سعيد، 48 عاماً، اختصاصي وباحث في مجال الطب البديل، وهو من المؤسسين والقياديين البارزين في حزب التجمّع الوطني الديمقراطي بقيادة عزمي بشارة. وكانت قوات كبيرة ومعزّزة من الشرطة الإسرائيلية قد اعتقلته في 24 نيسان/إبريل 2010 على جسر الملك حسين، حين كان متجهاً إلى الأردن. وقد أجرت الشرطة تفتيشاً تعسفياً في بيته، وصادرت حواسيبه وحواسيب العائلة، ومنعته طيلة فترة الاعتقال من لقاء محاميه، إلى أن سُمح له بذلك بعد 15 يوماً من اعتقاله.

أما الثاني فهو أمير مخول، 52 عاماً، الذي يعدّ واحداً من أبرز نشطاء العمل الأهلي في الداخل. ويرأس اتحاد جمعيات أهلية عربية «اتجاه»، كما يرأس «لجنة الحريات» المنبثقة عن لجنة المتباعة العليا لقضايا الجماهير العربية في الداخل، وله نشاط جماهيري واسع على الصعيد العام. وقد اعتقلته الشرطة الإسرائيلية فجر الخميس 6 أيار/مايو 2010، حين وصلت قوات كبيرة إلى بيته حيث أجرت تفتيشاً دقيقاً.

وقال المحامي حسين أبو حسين، محامي المعتقلَين سعيد ومخول، في تصريحات صحفية، إن الشبهات المنسوبة لهما، أي التجسس والاتصال بعميل أجنبي، أصبحت في الآونة الأخيرة بمثابة «تهم جاهزة يمكن تلفيقها ضد أي ناشط سياسي وحقوقي له علاقات مع العالم العربي ومع الحملة الدولية لمناهضة إسرائيل وممارساتها». وأضاف أن «المحاكم الإسرائيلية تتفهم الدواعي الأمنية، وتضفي شرعية على السواد الأعظم من نشاطات الأجهزة الأمنية».

ويرى فلسطينيون في الداخل، كما كشفت بيانات صحفية أصدرتها جمعيات أهلية عربية، ولجنة الحريات المنبثقة عن لجنة المتابعة العليا لقضايا الفلسطينيين في الداخل، وقيادات عربية على إثر اعتقال مخول وسعيد، أن ما يجري هو عملية «ملاحقة سياسية» بامتياز، وأن حملة الاعتقالات تندرج ضمن عملية إعادة بناء قواعد العمل السياسي والأهلي المسموح به إسرائيلياً، وتقييد سقف المطالب السياسية للفلسطينيين في الداخل، وقمع محاولات تواصلهم مع محيطهم العربي.

والأهم من ذلك، أن ما يحدث يقع ضمن حملة ترهيب فردي وجماعي لفلسطينيي الداخل، بخاصة أن وتيرة الملاحقات السياسية والأمنية لقيادات فلسطينية ازدادت بشكل ملحوظ منذ اندلاع هبة تشرين الأول/أكتوبر والانتفاضة الثانية 2000. إذ اعتُقل الشيح رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية-الشق الشمالي، في العام 2003، وحُكم عليه بالسجن لمدة عامين. كما جرى تلفيق تهم أمنية لعزمي بشارة في حرب تموز/يوليو 2006، ما اضطره للخروج قسراً من البلاد.

بموازاة الترهيب الفردي، بدأ أيضاًَ ترهيب جماعيّ، وهو لا يقل خطورة، ويرمي إلى الأهداف نفسها: تجريم المواقف السياسية القومية، وتجريم العمل على حفظ الذاكرة والهوية الجماعية، وخلق وعي سياسي مشوّه.

تجتمع في تلك السياسة الأحزاب الإسرائيلية كافة، باستثناء هامش مهمش كحزب ميرتس، في وقتٍ تحاول الكنسيت الحالية فيه، قمع الهوية والذاكرة الفلسطينية، بواسطة سن قوانين منع إحياء النكبة وفرض الولاء للدولة الصهيونية. وهذه الهجمة ليست هامشية داخل المشروع الصهيوني، بل تنبض من قلب الإجماع الصهيوني ومعسكراته على تنوع أطيافها.

فشل الترهيب الفردي يخلق حاجة لترهيب جماعي، والعكس صحيح. فشل الترهيب الجماعي يدفع الإسرائيليين إلى رفع وتيرة الترهيب الفردي وإلى ضرب رموز الممانعة القومية والوطنية، بل يطال أحياناً حالات اعتيادية للنضال السياسي للفلسطينيين، كالمشاركة في المظاهرات، والنضال لإنهاء الاحتلال، ومواجهة رجال الشرطة.

هذا الشكل من أشكال السلوك السياسيّ الإسرائيليّ ليس جديداً، فقد لجأت إليه إسرائيل لتثبيت احتلالها للضفّة الغربيّة وقطاع غزّة منذ العام 1967. وهو سلوك يعيد إلى الذاكرة أساليب «منظومة السيطرة» التي استعملها الاحتلال. ويبدو أنّ إسرائيل قرّرت نقل المنظومة نفسيها للتعامل مع الفلسطينيّين في الداخل.

نجاح الترهيب بشقّيه الفردي والجماعي، يسهم في تحويل التيارات السياسية القومية والممانعة إلى ظاهرة غريبة وهامشية وعبثية في المشهد السياسي الفلسطيني، أو ربما دخيلة على مفاهيم الفلسطينيين في الداخل، ولا مكان لها أصلاً في الفضاء السياسي «المؤسرَل». وفي هذا الواقع لا حاجة لفرض الولاء للدولة الصهيونية بالقانون، بل سوف يصبح ذاتياً لدى المواطن الفلسطيني. ولا حاجة لفرض الخدمة القومية أو العسكرية بالقانون، إذ ستكون طوعية. ولا حاجة لمنع التواصل مع عالمنا العربي، لأنه سيكون غريباً عنا.

ما شهدته الأسابيع الأخيرة من انفلات في الترهيب الفردي والجماعي، هدفه ضرب الرموز السياسية والأهلية والثقافية، على أمل أن ينجح تجريم عملهم السياسي والأهلي في ردعهم وترهيبهم، ولكي يكونوا عبرة لمن لا يعتبر. إلا أنه سيكون من الصعب تنفيذ مثل هذه المخططات، وها هي أحزاب ومنظمات أهلية عربية تعمل معاً لمواجهة الممارسات الإسرائيلية.

وتيرة الترهيب السياسي والأمني سوف تزداد في المستقبل على ما يبدو، مما يستدعي تمسك الفلسطينيين في الداخل بالعمل السياسي وبمطالبهم القومية الفردية، وهو ما يحتاج إلى موقف من الدول العربية لتقول للإسرائيليين إنها لم تتخلَّ عن البقية المتبقية من الشعب الفلسطيني التي بقيت في وطنها.

فلسطينيو الداخل: ملاحقات سياسية بحجج أمنية
 
01-Jun-2010
 
العدد 12