العدد 12 - اقتصادي
 

تتمثل التخاصية في تحويل الأصول المملوكة للدولة إلى أصول يديرها القطاع الخاص، إما بالتعاقد مع المنشآت الخاصة لإدارة هذه الأصول، أو ببيعها جزئياً أو كلياً لهذه المنشآت.

ولقد عدَّ جمهور من الاقتصاديين هذا التحويل أمراً إيجابياً، انطلاقاً من أن المشاريع المدارة من القطاع الخاص، سواء كان مالكاً أو متعاقداً على الإدارة، أكثر كفاءة وأقل عرضة للفساد من تلك المملوكة والمدارة من القطاع العام.

ولذلك عُدَّت سياسات التخاصية وإجراءاتها مكوّناً أساسياً لسياسات الإصلاح الاقتصادي القائمة على النظرية الاقتصادية الليبرالية بأن النشاط الاقتصادي يكون عند حده الأقصى من الكفاءة (أعلى مردود بأقل تكلفة) حين تسود الأسواق حالة «التنافس الكامل»، بحيث يتخذ المنتجون قراراتهم المدفوعة بتعظيم الربح، فينشطون للقيام بإنتاج قادر على المنافسة ضمن السعر الذي يحدده التنافس الحرّ، أي الإنتاج بأقصى كفاءة ممكنة.

إن شروط التنافس الحرّ تحول بين أي منتج، ضمن منتجين عديدين، وبين التأثير في السوق بصورة تتيح له جني الربح من دون تحقيق الكفاءة في الانتاج، كأن يحتكر السوق أو يتواطأ مع منتجين آخرين لممارسة هذا الاحتكار. كذلك تقضي شروط التنافس الحر بأن يتخذ المستهلكون قراراتهم بالشراء بوحي من تعظيم منفعتهم الاستهلاكية وذلك بدفع السعر إلى أدنى حدّ تقود إليه المنافسة. وعلى هذا النحو يكون النشاط الاقتصادي في حالة «التوازن التنافسي» الذي تنظمه آلية السعر. ومن شروط تحقق هذا التوازن التنافسي الانسياب الكفؤ والمتجانس للمعلومات عن سوق السلعة أو الخدمة المنتجة وعن طبيعة النشاط الذي يمارَس في السوق من المنتجين في ما يعرضون من الإنتاج، ومن المستهلكين في ما يطلبون للاستهلاك.

وعليه، فإن سياسة التخاصية ليست إلا جانباً من السياسة الاقتصادية الليبرالية التي تسعى إلى تحرير الأسواق، جميع الأسواق، وتحقيق كفاءة الأداء الاقتصادي من خلال تحقيق شروط التنافس الحر.

مع ذلك فمن اللافت أن برامج الإصلاح الاقتصادي في الأردن، كما في العديد من البلدان التي تأثرت بتوجيهات البنك والصندوق الدوليين، قلما أولت العناية الكافية لموضوع تحرير الأسواق ومكافحة الممارسات الاحتكارية فيها، مركّزة بدلاً من ذلك على إجراءات التخاصية في صورة بيع الممتلكات والأصول العامة إلى القطاع الخاص، وإجراء ذلك أحياناً بإحلال الاحتكار الخاص محل الاحتكار العام، أي في صورة تتناقض في الأساس مع الفلسفة الاقتصادية الليبرالية التي يتم باسمها ذلك الإجراء.

وفي تجربة الأردن في الإصلاح الاقتصادي، نجد أن السياسة الاقتصادية لم تتصدَّ لتحرير الأسواق عن طريق تدخل الدولة في مكافحة الاحتكار وإخضاع الأسواق لقوى التنافس المتكافئ بصورة متوازنة وشاملة لجميع مجالات النشاط الإنتاجي، علماً بأن هنالك العديد من المؤشرات على شيوع الممارسات الاحتكارية والاستغلال الجائر للمستهلك في شتى الأسواق لمختلف ضروب السلع والخدمات، في القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية، سواء ما يخص السلع والخدمات المنتجة محلياً أو المستوردة.

ويكفي المثال الصارخ في مقارنة ما يدفعه المستهلك ثمناً للمنتجات الزراعية مع ما يصل إلى المزارع فعلاً من عائد كدحه. وبدلاً من الاهتمام بتلك المشاكل المحورية لحرية الأسواق وفعالية المنافسة، ركزت سياسة الإصلاح الاقتصادي على تقليص دور القطاع العام عن طريق تخاصية المرافق العامة (الاتصالات والكهرباء والمياه)، وتخاصية الملْكية العامة في الثروات الطبيعية (الإسمنت والبوتاس والفوسفات)، رغم أن هذا الحيز من الملْكية العامة في الأردن كان منذ تأسيس الدولة متطابقاً مع تقاليد دول الاقتصاد الحرّ (الرأسمالية)، ولم يتجاوزها إلى تأميم المنشآت الإنتاجية المنتجة للسلع الخاصة في القطاع الخاص كما فعلت دول أخرى مثل مصر وسورية.

هذا الانحراف عن الدور المتوازن للدولة في الاقتصاد الحر، نحو التركيز المبالغ فيه على التخاصية، تحت تأثير «تفاهم واشنطن»، أي توصيات البنك والصندوق الدوليين، لم يكن في الغالب مبرراً بالتحليل الاقتصادي السليم.

إن المبرر الذي اعتيد تقديمه لتخلي الدولة عن ملْكيتها في المرافق العامة والثروات الطبيعية الكبرى هو استخدام مزايا القطاع الخاص في توفير كفاءة الإدارة والإنتاج في ظل السوق التنافسية. بيد أنه ليس ثمة سبب لافتراض أن ملْكية المنشأة تحول دون خضوع نشاطها لقوى السوق التنافسية. فالاستقلال المالي والإداري للمنشأة العامة يمكّنها من حرية التنافس في السوق وتحقيق شروط كفاءة الأداء دون تغيير الطبيعة العامة لملْكيتها. فإذا توفر ذلك للمنشأة، فإن لديها كل المجال لممارسة أفضل الأساليب الإدارية بما في ذلك تخاصية «الإدارة» في صورة التعاقد مع الكفاءات الإدارية الفردية (أشخاص) أو المؤسسية (شركات) من القطاع الخاص.

الواقع الراهن، أن فن الإدارة الاقتصادية الحديثة نجح في تطوير منهجيات لتحسين الكفاءة في المنشآت الحكومية من خلال تعريض هذه المنشآت لدرجات من التنافس من منشآت منافسة في القطاع الخاص، بحيث يتاح للمنشآت الخاصة كسر الاحتكار الحكومي حيثما تطلبت ذلك حالة السوق. بموازاة ذلك، اعتمد فن الإدارة الاقتصادية وسيلة غير سيطرة الحكومة الكاملة على نشاط إنتاجي معين بهدف ضمان توفير سلع أو خدمات معينة مطلوبة للمجتمع؛ ففي الإمكان توفير السلع أو الخدمات المطلوبة اجتماعياً بواسطة عقود تُبرم مع منشآت القطاع الخاص، أي دون تغيير ملْكية المنشآت الخاصة التي يتم التعاقد معها لإنتاج تلك السلع أو الخدمات.

وهكذا يكون التعاقد وما يماثله من الإجراءات الحكومية الضابطة للنشاط الاقتصادي بديلاً مجْدياً عوض الملْكية أو السيطرة الكاملة من القطاع العام على تلك المرافق. وبناء على ذلك، يجدر التكرار أن الفكر الاقتصادي الحديث الخاص بالتنظيم الاقتصادي للمجتمع لا يحمل أفكاراً مسبقة متحيزة للملْكية العامة، أو على العكس، متحيزة للملْكية الخاصة، بصورة مطلقة في جميع الأحوال. بل يعتمد الأمر على تحليل «شروط البداية» initial conditions التي تحكم أوضاع الاقتصاد والمجتمع حين يضعها الاقتصاد السياسي موضع الدراسة والتحليل.

وتشمل «شروط البداية» هذه نمط الملْكية والتنظيم الاجتماعي الذي يسود الاقتصاد. فإذا كان السائد هو الملْكية العامة والتنظيم المركزي المرتبط بها، كما في أمثلة من الاتحاد السوفييتي ومصر وسورية، عند ذلك يتمّ النظر في سياسات تحرير الاقتصاد ورفع كفاءة الأداء الإنتاجي من خلال تقليص دور الإدارة الحكومية في النشاط الإنتاجي، وإدخال جرعات قوية من المنافسة من القطاع الخاص. وإذا كان السائد هو الملْكية الخاصة في سياق ستغل النشاط الاقتصادي لتعزيز مصالح فئوية دون المصلحة الشاملة للمجتمع، عند ذلك يتم النظر في توسيع مداخلة الدولة وتشريع الأنظمة التي تكافح الانفلات وتحدّ من الممارسات الاحتكارية.

ما دام الأمر كذلك، لماذا يصرّ بعض الأطراف على تنازل القطاع العام عن ملْكيته للمرافق والأصول؟

يمكن التفكير في عدد من الأسباب:

- هناك الحالات التي تضخم فيها النشاط الاقتصادي للقطاع العام وأصبح مثقلاً بمسؤولية ملْكية المنشآت في عدد كبير من النشاطات المنتجة للسلع والخدمات الخاصة التي هي من طبيعة نشاط القطاع الخاص، والتي من غير الممكن تحقيق التنافس الحرّ في أسواقها إذا كان القطاع العام، بسطوته المعروفة، لاعباً فيها. والمثال الساطع على ذلك تجربة دول التخطيط المركزي، الاتحاد السوفييتي وكواكبه، وكذلك الدول التي اعتمدت التأميم غير المبرر للمنشآت المنتجة للسلع الخاصة ضمن مبادرات القطاع الخاص.

أما المرافق العامة، فإنها في غالب نشاطها منتجة لسلع عامة لا تخضع لقوى السوق من عرض وطلب وأثمان، وهي لهذا السبب غير قادرة حكماً على إنتاج حاجة المجتمع من السلع العامة إلا بقرارات يتخذها المجتمع من خلال الدولة.

- وهناك الاعتقاد بأن بيع الأصول العامة هو وسيلة لجذب الأموال الاستثمارية، بخاصة من الخارج. لعل هذه هي أوهى الحجج للتخلّي عن الملْكية العامة للأصول الاقتصادية. فإذا كان ثمة دور للاستثمار الأجنبي في التنمية فدوره هو إنشاء مشاريع إنتاجية جديدة وليس المشاركة في مشاريع قائمة.

- وأخيراً، هناك الحالات التي تحتاج فيها الإدارة الناجحة إلى خبرات عالية التقانة أو مزايا تسويقية موجودة عند شركات عالية الخبرة التقانية أو السيطرة التسويقية، لكن هذه الشركات لا تقبل أن تتيح هذه التقانة أو المزايا ما لم تكن شريكاً في الملْكية، وهي الحالات المعروفة بـ»الشراكة الإستراتيجية»، وتمثلها في الأردن مشاركة شركة لافارج الفرنسية في ملْكية الإسمنت، وشركة فرانس تلكوم الفرنسية في ملْكية الاتصالات، وشركة PCS الكندية في ملْكية البوتاس، ووكالة الاستثمار في بروناي في ملْكية الفوسفات. وفي هذا الشأن هناك شكوك كبيرة في أن الصفات السابق بيانها المطلوبة في الشريك الإستراتيجي تنطبق على الشركة الأخيرة، وكالة الاستمثار في بروناي، التي اشترت من الحكومة ما يعادل 37 في المئة من مجموع أسهم شركة الفوسفات.

وهنالك أحوال بالغة الأهمية تضع المؤسسات والمنشآت العامة موضع الانتقاد الصريح، وهي أحوال قد ترد حتى في المنشآت المستقلة مالياً وإدارياً، وهي أن يؤدي الاستقلال المالي والإداري إلى تسلل عناصر بشرية قابلة للفساد بحيث تستغل لمنافعها الشخصية مرونة صنع القرار التي يتيحها ذلك الاستقلال. وهذه هي الظاهرة المعروفة في علم الاقتصاد بظاهرة «الأصيل والوكيل» Principal-Agent، وهي حين يكون «الوكيل» المفوّض بالقرار نيابة عن المالك «الأصيل» حائزاً على المعرفة المباشرة والدقيقة عن نشاط المنشأة بصورة لا تتوفر لدى المالك «الأصيل» أو الأطراف الأخرى ذات الصلة، فيستغل امتيازه بهذه المعرفة من أجل الحصول على منافع شخصية.

فالجهاز الإداري الحكومي، موظفو الخدمة المدنية، هم «الوكيل» التنفيذي عن «الدولة» التي تضم عموم الشعب أو الأمة. وهم بهذه الصفة يتحملون مسؤولية القرارات التنفيذية في أمور هم الأكثر معرفة وأهلية بشروطها. وبحكم هذا الامتياز في المعرفة مع سلطة اتخاذ القرار، فإنهم معرضون لإغراء اتخاذ قرارات تصب في مصالحهم الشخصية أو الفئوية أكثر من ملاءمتها للمصلحة العامة للأمة أو الجهة الأصيلة التي يقومون بالوكالة عنها. ولذلك فإن الضمانة الأساسية للحد من احتمالات الفساد في الإدارة العامة هي توازنات الرقابة والرقابة المضادة بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وفي داخل أجهزة الإدارة الحكومية وضمن تنظيماتها.

وفي شركات القطاع الخاص، تُعتبر مجالس الإدارة والأجهزة الإدارية للشركات هي «الوكيل» عن المالك الأصيل وهو حمَلة الأسهم. وفي هذه الحالة أيضاً يكون المدراء أصحاب القرار في الشركات معرضين لإغراء اتخاذ قرارات تصب في مصالحهم الشخصية أكثر من مصلحة الشركة، بخاصة في غياب مقاييس حسن الأداء التي تفرضها الأسواق في حالات التنافس الحر الفعال، أو التي تفرضها أنظمة «الحوكمة» التي تحقق توازنات فعالة في الرقابة والمحاسبة ضمن الأنظمة والممارسات الإدارية للشركة.

وبالمنطق نفسه، تستطيع التخاصية أن تتجاوز مشكلة «الأصيل والوكيل» بشرط واحد، هو أن يقوم المالكون الخواصّ بإدارة المنشآت المتخاصة بأنفسهم، فيكون لديهم الحوافز المطلوبة لرفع كفاءة الأداء في هذه المنشآت. وهذا الشرط لا يتحقق في الغالب إلا في المنشآت الصغيرة التي يباشر أصحابها إدارتها بأنفسهم، والتي لا يُحتمل أن تكون أصلاً في حوزة القطاع العام حتى تكون موضوعاً للتخاصية، إلا في حالات قليلة مثل قيام الدولة بتوزيع الملْكية العامة في الأراضي الزراعية على صغار المزارعين.

أما في المنشآت التي يستوجب تنظيمها الفصل بين الملْكية والإدارة، كما هي الحال في الشركات المساهمة العامة وما شابهها من المنشآت الكبيرة في القطاع الخاص، فإن مشكلة «الأصيل والوكيل» تبقى قائمة بحذافيرها. لذلك يبدو أن إنجاز التخاصية في نفسه لا يستتبع حلاًّ مُرضياً لمشكلة «الأصيل والوكيل» بخلاف ما سبق بيانه.

أساسيات في مفهوم التخاصية وتطبيقها: مراجعة للحالة الأردنية
 
01-Jun-2010
 
العدد 12