العدد 12 - الملف | ||||||||||||||
لغةُ التحريض لغةُ عداء، بصرف النظر عن الجهة التي تُطلقها أو الجهة التي تُطلق تجاهها. وتستفحل هذه اللغة عندما يشعر المواطنون أن النخبة السياسية لم تعد تمثّلهم أو تهتم بمصالحهم بالشكل الذي يتوقعونه منها، أي أن مستويات الرضا عن أداء مؤسسات نظام الحكم تنخفض لمستوى يدفع بالناس للتنبيه أو ربما أكثر من ذلك. وتجد لغة التحريض أرضاً خصبة للتكاثر عندما يشعر مانحو الشرعية للدولة، وهم المواطنون، أن الدولة تُظهر بعض التراخي أو التراجع عن دور القيادة، أو عندما تشعر بعض مكونات المجتمع أن الدولة بدأت تفقد زمام المبادرة تجاه القضايا المصيرية التي تُقلق المجتمع أو بعض مكوناته. ضمور دور الدولة في الرعاية أو القيادة أو حتى التطمين، يُعطي الفرصة لمن يشعر بهذا الضمور، ليحاول ملء الفراغ الذي يراه. وهنا تبدأ مجموعات تعتقد أنها متجانسة المصالح، بمحاولة سد الفراغ الفعلي أو المتخيّل من خلال تطبيق أدوات تراها مناسبة. وقد تكون هذه الأدوات بيانات واجتماعات حوارية كما الحال في الأردن، أو عنيفة ودموية كما هي الحال في العراق ولبنان واليمن والسودان والصومال والجزائر، ولكن الطريقة التي يُعبّر بها الناس عن سد الفراغ محكومة بنوع النظام السياسي ومدى استجابته للمطالب المشابهة في تجارب سابقة. وهنا يبزر الفرق في الاستجابة بين النظام الديمقراطي وغيره من الأنظمة. فعندما تنشأ حالة من هذا النوع في النظام السياسي الديمقراطي، تبدأ العملية الديمقراطية بتصحيح نفسها من خلال انتخابات مبكّرة أو انتخابات دورية تضمن تجديد النخبة السياسية القيادية من خلال صندوق الاقتراع. وبهذا التجديد يتمكن أصحاب المصالح المتضررة من الحال الراهنة، من تصحيح ما يرونه خللاً، فيما ينتقل آخرون لمراقبة هؤلاء، والتأكد أن عملية التصحيح هذه لا تخرج عن الأطر المقبولة والأسس المتفق عليها. وهنا لا بد من التركيز على الاتفاق على الأسس. أما في حالة النظم غير الديمقراطية، فإن المجموعات المتضررة من الوضع القائم تبدأ باجتراح أدوات تعبيرية لإيصال مطالبها للنظام السياسي، وقد لا تروق هذه الأدوات للنظام السياسي إطلاقاً. في حالة الأردن، كانت أدوات التعبير بيانات سياسية غير مسبوقة في قوة طرحها والعناوين المقصودة بهذه البيانات. قوة الطرح هذه لم تخلُ من لغة تحريضية، والعناوين أخذت علماً بالمقاصد. لكن قبل هذا وذاك، على المرء أن يتذكر أن الحروب الأهلية وغير الأهلية تبدأ عادةً بلغة تحريضية اتهامية تحت ذرائع مختلفة. ربما تكون هذه الذرائع شرعية من وجهة نظر مطلقيها، لكن التحريض الاستعدائي والذرائع التي تُساق لتبريره ليست بالضرورة هي الطريق الأفضل والأمثل والأنجع لمعالجة الاختلالات القائمة في مجتمع ما، سواء كانت هذه الاختلالات حقيقة أو مُتخيّلة. كما أن الاختلاف العامودي في مجتمع غير محكوم بطريقة ديمقراطية، أي المجتمع الذي لم تتمكن دولته من تطوير أدوات ديمقراطية لحل الخلافات بين مكوناته بالطرق السلْمية والمدنية، يؤدي إلى حالة احتقان غير محمودة العواقب. هكذا بدأت الحروب الكبيرة؛ بالدعاية والتحريض وتصوير فئة أو طائفة أو مجتمع ما على أنه تهديد وجودي أو أقل من ذلك لفئات أخرى في المجتمع. تحضر في البال هنا حملة التحريض الإعلامي التي قادها الإعلام الغربي تمهيداً لغزو العراق واحتلاله، حتى إن كثيراً من العرب صدّقوا مضامينها ودافعوا عنها أو تبنّوها، وبرروا احتلال العراق بحجة القضاء على الدكتاتورية في الوقت الذي كانوا يدافعون فيه عن دكتاتوريات مشابهة في أماكن أخرى ويتحالفون معها لتحقيق مصالحهم. مناسبة هذا الحديث، هو التراشق الذي جرى في الأردن مؤخراً، والذي يعكس حالة من الفراغ السياسي في العلاقة بين المجتمع والدولة. هذا الفراغ ليس وليد اللحظة، وإنما هو حصيلة لتراجع مشروع الإصلاح السياسي في الأردن عن الخطوات التي تحققت سابقاً، ولعدم وفاء مؤسسات النظام السياسي بالخطاب الإصلاحي الذي تحدثت عنه، وكان مبشّراً على صعيد الشكل، لكنه كان محبطاً على صعيد الفعل. في ظل هذا التراجع، شعرت فئات من المجتمع أن الهوية الوطنية الجامعة لم تعد تعني لها الكثير في الوقت الذي تقتات فيه على الكفاف، كما أنها بدأت تشعر أن العدالة في إحداث التنمية مشوبة بكثير من الاختلالات غير المفهومة وربما غير المبررة في حال افتراض أن الأردنيين سواسية أمام الدستور والقانون. في هذه الأجواء، لا تتردد الحكومة في اتخاذ قرارات اقتصادية مؤلمة، مصرّة على أنها لا تسعى لـ«الشعبية الرخيصة». والأصل أن الشعبية تأتي من الإنجاز وتحسين حياة الناس، وفقدانها ينبغي أن يرتبط بعدم القدرة على تحسين ظروف الناس المعيشية. يرتكز الأمن الاستراتيجي في بعده الداخلي على قوة الدولة وقدرتها على فرض القانون على الجميع بالتساوي. ويشمل هذا الإطار ضمان المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين. والجدير بالذكر هنا أن الثقة العامة في مؤسسات الدولة تتعرض لتحديات وتجاوزات تسهم في ضعضعتها. ومن أبرز هذه التجاوزات تقديم الهوية الفرعية بتفرعاتها المختلفة من العشائرية، القبلية، العائلية، الإثنية، الطائفية والدينية، على المعايير المدنية التي تشكل أساساً لبناء الهوية الوطنية الجمعية. المعايير المدنية، أي غير البدائية، ترتكز على الكفاءة والقدرة والتأهيل في القيام بالواجبات والحصول على الحقوق، وفي التعيين في القطاعين العام والخاص. وتَجاوز هذه المعايير في المحصلة يكون على حساب الهوية المدنية للمواطنين، وبالتالي يقع الضرر على الجميع نظراً لتقديم هوية فرعية على حساب الهوية المدنية. الإشكالية الأساسية في نمو الهوية الفرعية، هي تحولها إلى هوية سياسية واقتصادية. عندما تكون الهوية الفرعية هي أساس العمل السياسي لفئة من المواطنين ويقدمونها على مواطنتهم، فإن هذه الفئة ستعمل من داخل الدولة على تقويض أسس المواطنة فيها، ربما عن غير قصد، ولكن النتائج لا ترتبط بالنيات بالضرورة. الخطر الكامن في هذا السلوك أن نجاح بعض الفئات في تعظيم امتيازاتها بسبب الانتماء العشائري أو الجهوي أو الإقليمي أو الديني أو الطائفي على حساب الآخرين، تعطي نموذجاً للآخرين لسلوك الطريق نفسها، وبهذا تصبح الهوية الفرعية مصدراً لتحقيق مصالح اقتصادية من خلال التوظيف السياسي للهوية الفرعية ومتعلقاتها. وهذا يعني أن كل مواطن من حيث المبدأ عرضة لهضم الحق، لأن لكل مواطن هوية فرعية، ولأن المعايير يتم تطبيقها بشكل مختلف من شخص لآخر ومن وقت لآخر. إن الهوية الفرعية التي لا تستطيع التعبير عن نفسها سياسياً واقتصادياً تشعر بعدم المساواة، لأن أداة القياس هي نجاح هويات فرعية أخرى في التعبير عن نفسها سياسياً واقتصادياً. ويأتي كل هذا على حساب العدالة بين المواطنين. فالأصل أن تكافؤ الفرص بين المواطنين مضمون بالقانون والممارسة، لكن هناك من يعتقد أن هذا المبدأ غير مطبَّق في الأردن، ومن أسباب عدم تطبيقه الهويات الفرعية. المساواة في العبء تعني كذلك المساواة في الفرص. ولكن عدم المساواة في الفرص والمساواة في العبء يخلق إحساساً غير إيجابي تجاه مكونات المجتمع والدولة. ولهذا الأمر نتائج غير إيجابية على الهوية الوطنية المدنية التي نصبو للوصول إليها. في المجتمع الأردني، هناك علاقة مباشرة بين نمو الهوية الفرعية على حساب الهوية المدنية من جهة، وبين ممارسة الواسطة والمحسوبية من جهة أخرى. كما أن هناك العديد من القوانين والممارسات التي ترعى الهوية الفرعية على حساب الهوية المدنية، منها قانون الانتخاب الذي يخصص مقاعد على أساس الدين والعرق والقومية، والذي يوفر الإطار التشريعي لنمو الهويات الفرعية الأخرى غير المنصوص عليها في القانون. وهنا تصعب الموازنة بين مفهوم التقدم الذي يعتمد على المواطنة من جهة، وبين تمييز الفرد بدينه أو عرقه أو أي هوية أولية أخرى. إن الخطر الذي ينجم عن هذا التقسيم هو نمو الهويات الفرعية على أسس غير مدنية. وما يخيف هنا أن الاستثناء للآخرين يقوم على أسس ليست من اختيارهم، فالمرء لا يختار الدين أو العرق أو الطائفة أو غيرها من الهويات الفرعية. فكيف يتم تعريفه بقانون الانتخاب، الذي يهدف لبناء مجتمع سياسي ديمقراطي، على أسس غير سياسية وغير ديمقراطية، وينتفي منها أحد أهم أسس الديمقراطية المتمثّل في الحق في الاختيار؟ في المحصلة، التناقض الرئيس هو بين الهوية العربية الجامعة بمكوناتها من جهة، وبين المشروع الصهيوني من جهة أخرى. الاختلاف بين مكونات المجتمع الأردني يجب أن يُدار من هذا المنظور الإستراتيجي الذي يقوّي المجتمع الأردني من جهة ولا يُشتّت الجهود عن الخطر الذي يتهدد الفلسطيني في فلسطين وفي كل مكان، ويستهدف الأردني كما يستهدف كل ما هو عربي ومعيق لمشروعه.
أستاذ مشارك، رئيس الهيئة البحثية في معهد البحوث الاجتماعية والاقتصادية – جامعة قطر. |
|
|||||||||||||