العدد 12 - الملف
 

حبس الشارع الأردني أنفاسة لأيام عدة، وهو يتابع وعداً أطلقه فريق ادّعى أنه سيضع النقاط على الحروف، ويعيد تعريف المصطلحات والمفاهيم، زاعماً تقديم الحلول، ليكتشف المرء أنه إزاء مسرحية تطغى عليها رتابة الأداء، ويقوم عليها ممثلون مدفوعون بوهم القدرة على اختطاف الشارع وراء شعارات وحركات بهلوانية باهتة.

السؤال الكبير الذي تنطّح له هذا الفريق هو: كيف نحمي الأردن من تصريحات وكتابات إسرائيلية حول الوطن البديل؟ وبدلاً من أن يقدم هذا الخطاب مشروعاً لتفكيك فكرة الوطن البديل، كانت المفاجأة أن خطابه اتهامي، يصنف المواطنين إلى فئات، ويدّعي أن هنالك جمهوراً داخل الأردن هو الذي يقوم بالعمل على إنجاز الوطن البديل من خلال حمله الجنسية الأردنية.

وهو يرى أن الدعوة للإصلاح السياسي أو أي دعوة إلى ميلاد دولة مؤسسات مقابل سياسات الاسترضاء أو المحاصصة السائدة، تسهم في إنجاز الوطن البديل.

الوصفة السحرية لهذا الفريق هي «سحب الجنسية من مواطنين أردنيين»، وكأن ذلك يسهم في تحقيق مبدأ حق العودة أو الانتصار على إسرائيل، وكأن سحب الجنسية سيؤدي إلى ميلاد الأردن الديمقراطي.

لو أن هذا ما سيحدث، لما تردد ستة ملايين أردني بالتنازل عن جنسيتهم، ولكنّا دعونا السوريين واللبنانيين وكذلك المصريين إلى التنازل عن جنسياتهم، إن لم يكن من أجل الانتصار على إسرائيل، فمن أجل التحول الديمقراطي.

لذلك، من السذاجة التفكير بأن مثل هذه الإجراءات يمكن أن تواجه الخطر الإسرائيلي والمخططات الإسرائيلية أيّاً كانت، فما هو الهدف الحقيقي الذي يدفع هؤلاء إلى مثل هذه الدعوات؟

مثل هذه الدعوات، في جوهرها، تستهدف نقل المعركة الأصلية مع إسرائيل وخططها إلى معركة داخلية تمس البنيان الداخلي للمجتمع الأردني، وتؤدي إلى خلق الظروف الموضوعية والملائمة للحديث عن إمكانية كامنة لتحقيق مثل هذا المشروع.

وفي سعي هذا الفريق المحموم لاختطاف الشارع، فقد دخل في تقديم قراءة جديدة لماهية الشخصية الأردنية والهوية الأردنية وفي إعادة سرد تاريخ العلاقة الأردنية الفلسطينية. واللافت للانتباه أن سردية هذا الفريق ومؤيديه ومحاولته استخلاص مصطلحات وتعريفات جديدة، تدل إما على عدم فهم للسيرورة التاريخية والواقع الحالي للشخصية الأردنية والمجتمع الأردني وللعلاقة الأردنية الفلسطينية، أو على انتقائية للتعامل مع التاريخ والوقائع على الأرض من أجل الترويج لخط أيديولوجي ليست له مرتكزات واقعية.

وعليه، فإن واقع المجتمع الأردني وطبيعة العلاقة الأردنية الفلسطينية، بحاجة إلى دراسة للتعرف على تطورهما التاريخي والإحاطة به، بعد أن انعكس اجتماعياً وسياسياً وثقافياً في علاقة ذات فرادة.

منطقة شرق الأردن امتدادٌ طبيعي من الناحية الجغرافية والاجتماعية والثقافية لما عُرف عبر قرون طويلة ببلاد الشام. ولكونها منطقة الالتقاء بين الصحراء العربية ومجتمعات بلاد الشام المستقرة في ظروف طبيعية ومناخية قاسية، فإن تكوينها الاقتصادي والاجتماعي بقي محدداً بسيادة نمطَي حياة البداوة والزراعة الكفافية، وهما لا يسهمان في تراكم اقتصادي ولا يؤديان إلى ميلاد بناء اجتماعي ذي شخصية ثقافية ناجزة ومتماسكة ومغلقة.

ساهمَ في تكريس هذه الحقيقة أن تلك التجمعات السكانية عرضة للتغيير الدائم، إذ كانت تتميز يديناميكية التحول من البداوة المتنقلة إلى شبه الاستقرار، فالاستقرار، إضافة إلى أن هذه المنطقة كانت هدفاً لهجرات بشرية صغيرة، لكنها متكررة وغير منقطعة، من مناطق بلاد الشام المختلفة.

وإذا ما كانت الظروف الطبيعية والمناخية قد حدّت من التطور الاقتصادي والاجتماعي، فإنها، وفي الوقت نفسه، أسهمت في ميلاد شخصية لمجتمعات هذه المنطقة قائمة على المرونة وعدم الانغلاق ووظفت مجموعة من القيم لاستقبال الآخر، وتحديد آليات دمجه. فكل ما تحتويه الذاكرة الجمعية من تقاليد وأعراف مرتبطة بالإطار الاجتماعي الأوحد آنذاك، وهو العشيرة من اللفوف، والنسب، والأحلاف، والضم، هي آليات وأدوات لمجتمع قائم على الاستيعاب، وليس رافضاً إقصائياً مغلقاً. فإذا ما حرمت الطبيعة والمناخ هذا الإقليم من بلاد الشام من إمكانية التراكم الاقتصادي وميلاد شخصية متميزة واحدة، فقد حابته هذه الظروف نفسها بعبقرية التجدد وإعادة التجديد.

وعليه، لم يكن هذا المجتمع الذي نشأ على هذه الأرض ساكناً على الإطلاق. بل كان، وفي فترات زمنية قصيرة، يعيد تجديد نفسه، ويولد مجتمعاً جديداً قائماً على عناصر المجتمع الأصلي وما دخله من عناصر جديدة.

فالواقع التاريخي، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، يعكس أن مجتمعات معان والكرك والبلقاء وعجلون وإربد، سرعان ما تغيرت خلال عقدين من الزمن بفعل استقرار المهاجرين الجدد من الشركس والشيشان والأكراد والأرمن وغيرهم من النوابلسة والخلايلة والشوام، وكانت مناطق شرق الأردن كافة يُعاد تشكيلها بهجرات صغيرة من تجار وعائلات ومهاجرين لأسباب مختلفة تقودهم ظروفهم أو مغامراتهم إلى أراضي شرق الأردن.

ومما لا شك فيه، أن تلخيص الإعلامي ياسر أبو هلالة لأصله المعاني يكاد ينطبق على كل فرد من أفراد المجتمع، حين عكس أنه تعبير عن جدلية رغبة الجمال في التوقف، ورغبة الأجداد في أخذ قسط من الراحة ممزوجاً بحسّهم بأن العالم بأقطابه ملْكهم، وأن استمرار الرحلة مرتهن بتجديد رغبتهم في الرحيل. لقد أصبحوا معانيين، وهذا مصدر فخر لهم، وكان يمكن لجدلية هذه الرغبات أن تنتج أبو هلالة اليوم لبنانياً شيعياً أو مارونياً أوحتى سنّياً.

فالركن الأساسي في الشخصية الأردنية، ومن ثم في الهوية، هو عبقرية المرونة والاستعدادية لقبول القادم والاندماجية معه من أجل بناء تكوين جديد تتمازج فيه العناصر الأكثر قدماً مع تلك الأقل قدماً مع العناصر الأحدث فالأكثر حداثة وتندمج من خلاله في بوتقة واحدة. وهذا ما أضفى على المجتمع الأردني هوية مركبة ومرنة وذات فرادة.

ففي حين كان المجتمع الشامي أو الحلبي قد كرّس طقوسه في قوالب خاصة استقرت عبر العصور الوسطى، فإن المجتمع الأردني طوّر شخصيته القائمة على استمرارية دمج عناصره وثقافته مع أخرى وافدة، وإعادة إنتاجها بمذاقه ولونه الخاصين. وفي حين أن كثيراً من مجتمعات العالم اليوم تبذل الجهد تلو الآخر في بناء شخصية وهوية مركبة وديناميكية ومتحركة لمجتمعاتها شبيهة بالشخصية الأردنية التي وُلدت طبيعياً، تطل هذه الدعوات لتكسير الثراء في هويتنا وحصرها بقالب جامد.

ويصبح من غير المفهوم معرفة العناصر التي يجب أن ننزعها عن هويتنا وعن شخصيتنا الأردنية وعن سلوكنا اليومي حتى نتفيأ بظلال هذه الهوية؟ هل يجب أن نمتنع عن تناول الكنافة النابلسية والكبّة الشامية والزيتون الحلبي والجبنة العكاوية؟! وهل علينا التوقف عن سماع فيروز وترديد قصائد نزار قباني وقراءة روايات مؤنس الرزاز؟! وهل ينبغي اقتلاع الفل والياسمين من بيوتنا، لأننا استعرناها من البيت الشامي؟! وربما علينا أيضاً أن نفرض حظراً على الدحية المعانية؛ لأنها تشبه العرضة النجدية. بالطبع، يجب أن نحرق رواية الشهبندر لهاشم غرايبة، وسيرة مدينة لعبد الرحمن منيف!

مثل هذه الدعوات تقود، بالضرورة، إلى مثل هذه النتائج. ولأولي الألباب أمثلة كيف قامت التيارات الفاشية في ألمانيا وإيطاليا بتدمير تراثهم المركّب من أجل صيغة صافية للشخصية الألمانية أو الإيطالية، ولا تغيب عن الذهن الدعوات الحالية لليمين المتطرف في أوروربا ضد المكونات الثقافية للأوروبيين المسلمين.

أما في ما يتعلق بالعلاقة الأردنية الفلسطينية وتطورها، فمن المهم التأكيد أن ميلاد الدولة أو الهويات الوطنية في بلاد الشام لم يكن نتيجة تطور اقتصادي واجتماعي وثقافي وسياسي، ولم يكن تنفيذاً لرغبة شرائح اجتماعية وتيارات سياسية، بل كان تعبيراً عن إرادة القوى الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، في تقسيم المنطقة ما بين الإمبريالية الفرنسية والبريطانية.

هكذا تأسست العديد من الدول بعد الحرب العالمية الأولى، ففلسطين والأردن وكذلك سورية ولبنان، هي دول اصطنعتها رغبات القوى الاستعمارية، ولم تقم بناء على أفكار ورؤى نخب وتيارات فكرية وسياسية اهتمّت بالتباينات والتوافقات بين مجتمعات هذا الإقليم، الأمر الذي قادها إلى خلق دول بهذه الحدود.

وعليه، فإن التشدق بأن هنالك شخصية أردنية أو فلسطينية ناجزة قبيل تأسيس الكيانات الحديثة هو إسقاط أيديولوجي قائم على انتقائية تاريخية هدفها تجريد المجتمع من تاريخه وذاكرته الجمعية ومحتواه العربي، وهو الجامع بين المناطق والأقاليم كافة في بلاد الشام.

وفي هذا الإطار، تعد العلاقة الأردنية الفلسطينية أقدم من تأسيس الكيانات والشخصيات الوطنية. فلقد تأسست هذه العلاقة على أسس الضرورات الموضوعية والامتداد الأفقي بين مناطق الأردن المختلفة، مع ما يوازيها من مناطق فلسطين.

وإذا ما كانت علاقات شمال الأردن مقسمة بين علاقات مع دمشق حاضرة الشام، وعلاقات مع شمال فلسطين وصولاً إلى حيفا، فإن علاقات السلط امتدت أفقياً إلى نابلس فالساحل، والكرك مع الخليل وبيت لحم والقدس. كانت العلاقات بين مناطق الأردن وتلك الموازية لها من فلسطين أعمق تأثيراً وأكثر تكاملية من علاقات مناطق الأردن بعضها ببعض. فالعلاقات ما بين البلقاء وحوران أو الكرك وعجلون تكاد لا تُذكر.

إذا ما كانت جذور العلاقة الأردنية الفلسطينية تاريخياً هي العلاقات القائمة بين التجمعات السكانية المتباينة في الأردن وفلسطين قبيل ميلادهما كما نعرفهما اليوم، فإن النكبة الفلسطينية 1948 أعادت تعريف الشخصية الفلسطينية وكذلك العلاقة الأردنية الفلسطينية. فالنكبة ليست رديفاً لغوياً لهزيمة سياسية وعسكرية منيت بها جيوش عربية بالإضافة إلى مقاتلين فلسطينيين، بل هي تعبير عن حالة مركبة متعددة الأبعاد تتضمن: التطهير العرقي، تدمير البنى الاقتصادية والاجتماعية لمجتمع فلسطيني ناهض عبر الاقتلاع الممنهج لمواطنيه، وتحويل شعب إلى مجموعات من اللاجئين محرومة من حق العودة.

لقد أدت النكبة إلى تفكيك المجتمع الفلسطيني إلى أربعة تجمعات: فلسطينيي 1948 الذين عاشوا بوصفهم مواطني درجة ثانية تحت إدارة دولة إسرائيل، أبناء الضفة الغربية، أبناء غزة، ولاجئي الشتات في دول عربية.

لقد مرت كل من التجمعات الفلسطينية بديناميكية غاية في التعقيد اعتماداً على مكان الاستقرار. وكان الناظم المشترك في هذه الديناميكيات، تطوير هوية ذات فرادة في المنطقة العربية والشرق الأوسط، إذ قدّم الفلسطينيون هوية مركّبة على أكثر من مستوى. فهم يمتلكون عناصر الهوية «الأصلية»، ويحملون مكونات هوية البلدان التي عاشوا فيها والبلدان التي ارتحلوا إليها. فابن مخيم عين الحلوة فلسطيني وصيداوي ولبناني وعربي ومؤهل لأن يكون كويتياً إذا ما عمل في الكويت.

إن دفع الفلسطيني لاختيار هوية واحدة بفعل حجج مثل الانتماء والولاء، أو منعه من إضافة عناصر لهويته الفلسطينية من ثقافته المحيطة، هو في جوهره تعريض له لمعاناة جديدة شبيهة بمعاناة النكبة، ونزعه من محيطه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتاريخي. وهذا ما تعرض له، بشكل صارخ، الفلسطينيون في لبنان.

فخلافاً لجميع السياقات التي مرت بها التجمعات الفلسطينية ما بعد النكبة، فإن مجتمع الضفة الغربية ومجتمعات اللاجئين في الضفة الغربية والأردن أسّسا لحالة فريدة، أتاحت نمو الهوية المركبة للفلسطينيين وتطورها. وإذا كانت مرونة الشخصية الأردنية عاملاً أساسياً في هذا التطور والنمو، فإن ميلاد دولة الضفتين مثّلَ العامل الثاني، وهو الذي حوّل الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي مخيمات اللجوء من مجرد سكان ينتظرون الفرج، إلى مواطني دولة.

من الجلي تاريخياً أن عملية دمج الضفتين في دولة واحدة، وإن بدأ كعملية ضم قامت بها دولة ناجزة لبقايا مجتمع اجتُزّ عن محيطه، لم تكن انعكاساً لقرار إدراي تم في لحظة تاريخية واحدة، بل كانت سيرورة استمرت لسنوات عدة. ولقد انطلق موقف الدولة الأردنية وتقاطعه مع موقف النخب الفلسطينية من الضفة واللاجئين، التي عبّرت عن توجهها في دولة واحدة مع الدولة الأردنية، من تفكير قومي يؤمن بالوحدة العربية بوصفها هدفاً للدول العربية كافة آنذاك، ووسيلة لإزالة آثار النكبة تكون في مقدمتها وحدة الشعبين الأردني والفلسطيني، تتبعها وحدة شعوب عربية أخرى، كما أكدت ذلك مؤتمرات رام الله، نابلس، أريحا، الخليل وعمان.

ويكشف الجدل السياسي خلال تلك الفترة، أنه لم يكن في ذهن الإدارة الأردنية التوّاقة لتوسيع إقليمها الجغرافي أو في ذهن النخب الفلسطينية، تحويل سكان الضفة الغربية أو اللاجئين من هوية إلى أخرى، بل إقامة وحدة بين الشعبين الأردني والفلسطيني في إطار المحافظة على هوية كل منهما، وعدم الانتقاص من قدرة أي منهما في التعبير عن مصالحه وشخصيته. وبدأت دولة الضفتين منذ السنة الأولى تعكس أنها وحدة بين شعبين تتساوى فيها الفرص بين مواطنيها على الأصعدة كافة، ومن خلال تمثيل متساوٍ في جميع المؤسسات السياسية.

ولعل هذه التوجهات والاستجابة لها هي التي أدت خلال عام من سيرورة بناء دولة الضفتين إلى تحول جوهري، في مواقف القوى السياسية الفلسطينية الرافضة لفكرة دولة الضفتين إلى قوى منخرطة في بناء هذه الدولة.

فانفضاض جزء كبير من قادة حكومة عموم فلسطين وانتقالهم إلى صفوف النخبة السياسية للدولة الجديدة، شاهد على هذه السيرورة، وكذلك تحوُّل عصبة التحرير الوطني المناوئة لدولة الضفتين حتى العام 1951 إلى الحزب الشيوعي الأردني. وانضمام بهجت أبو غربية، ابن الجهاد المقدس والمناؤى للوحدة بين الضفتين، إلى حزب البعث الاشتراكي في شرق الأردن، الذي كان يعني جوهرياً، التراجع عن موقفه المعارض للوحدة.

لم تكن المحافظة عى اسم الدولة الأردنية نتيجة تنفيذ أجندة النخبة الأردنية، أو قبول من النخبة الفلسطينية، بتحويل الأقاليم الجديدة والسكان الجدد من هوية إلى أخرى، إذ لم يكن هذا الأمر ذا أهمية للجدل العام، ولم يكن اسم الأردن يحمل المدلولات الاصطلاحية نفسها التي يحملها اليوم. فمصطلح «أردني» لم يكن يتضمن، على مدى سنوات دولة الضفتين، نفياً أو انتقاصاً لهوية أي من مواطني الدولة. فـ«الأردني» كان تعبيراً عن هوية مركبة: أردنية وفلسطينية. كما أصبحت الهوية الفلسطينية مركبة في ظل دولة الضفتين، فقد أضيف البعد الفلسطيني لهوية الأردنيين ليكون عنصراً أساسياً في تكوين الهوية الأردنية، لم تشهده أي من الشعوب العربية الأخرى.

بهذا، فإن الأردن دولة ومجتمعاً أعيد بناؤه منذ العام 1950 على أساس الثنائية والتعدد والتنوع بين مكونات مجتمعه، وعلى قاعدة هوية مركبة للشعبين.

ومنذ أوائل الخمسينيات، كانت الأحزاب عابرة في عضويتها وقيادتها لحدود الإقليمين، وسرعان ما اندمجت النخبة الاقتصادية هنا وهناك، وتم فرز النخب على أساس مواقفها الأيديولوجية والسياسية بصفة عامة أو تجاه قضايا محددة. ولم يكن التنافس قائماً بين هوية أردنية وفلسطينية، بل كان على أساس فكري سياسي. وإذا ما كان هنالك تمييز من النخبة السياسية الحاكمة -وهي أردنية فلسطينية- فقد كان ضد التيارات السياسية اليسارية والقومية المعارضة للنظام بصرف النظر عن أصول أفرادها.

هذا النقاش الذي يتخذ أبعاداً متداخلة وانقسامية، تعود بداياته إلى العام 1967. ففقدان الضفة الغربية أخلّ بعنصر أساسي من العناصر المكونة والضامنة لاستمرار ثنائية شعب الدولة الأردنية، والبقاء على الهوية المركبة للأردنيين والفلسطينيين. وقد ساعد على تعميق هذا، قيادة «فتح» لمنظمة التحرير، والتعبير عن هوية فلسطينية جمعية تنزعها من بعدها العربي، وتسقط سيرورة تطورها، دون وعي لخصوصية العلاقة بين الهويتين الأردنية والفلسطينية ومستويات تركيبها.

والمتتبع لتأسيس «فتح» وانطلاقتها وتطورها خلال السنوات الأولى من عمرها، يتبين له أنها لم تتأسس في إطار الدولة الأردنية بضفتيها، بل إن جيل المؤسسين الأوائل كانوا ضمن جمهور الشتات في دول عربية (خارج الأردن). ونتيجة لذلك، عكست «فتح» ثنائية البرنامج، فمن ناحية كان تأسيسها تعبيراً عن رغبة جمهور الفلسطينيين في رفض واقع اللجوء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في دول عربية مختلفة على رأسها لبنان وسورية، واستعداداً لتبني خيار الكفاح المسلح في مواجهة إسرائيل من ناحية ثانية. ويمكن القول إنه لو كان الجيل المؤسس لـ«فتح» من أبناء الأردن، لما كان الهدف الأول متضمناً في برنامجها.

إن الفروقات بين «فتح» والجبهة الشعبية مثلاً التي انبثقت عن حركة القوميين العرب، وأدركت خصوصية العلاقة الأردنية الفلسطينية، تُبيّن ما اقترفته «فتح» من ضرر ليس فقط على العلاقة الأردنية الفلسطينية، بل على تكسير منهجي في الهوية الفلسطينية المركبة من ناحية، وعلى محاولة إقصاء القضية الفلسطينية من بعدها وعمقها العربي من ناحية أخرى.

وقد تعمّق الشرخ في هذه العلاقة نتيجة الصدام المسلح بين المقاومة الفلسطينية (التي كانت أردنية وفلسطينية وعربية) والدولة الأردنية، والتنافس على تمثيل فلسطينيي الأردن والضفة الغربية.

فقد كان هناك سعي محموم من المنظمة لتمثيل المجتمع الفلسطيني وإسقاط الأبعاد المضافة لهويته، وكان هاجس الدولة الأردنية الأمني، من خلال إجراءات عملية، خلال السبعينيات والثمانينيات في اتجاه أردنة أجهزتها البيروقراطية، لإعادة صياغة العلاقة بما يخدم الأجندة السياسية وليس انعكاساً لسيرورة هذه العلاقة.

إن حقوق المواطنة المدنية والسياسية المتساوية والهويات المركبة، لا تمثل خطراً أو انتقاصاً على أيّ من الهويات القائمة في الأردن اليوم، بل تُغْني هذه الهويات. لذا فإن تحصين الأردن اليوم من خطر إسرائيلي أو من دعوة للانقسام العامودي، الذي يمكن أن يبدأ أردنياً فلسطينياً وينتهي بين الكركي والطفيلي أو المعاني والعجلوني، هو من خلال التحول الديمقراطي الحقيقي لدولة المؤسسات، إذ يكون معيار الانتماء والولاء على أسس الإنجاز، أي كما كان في العقد الأول من دولة الضفتين، وليس وفقاً للمحاصصة، ويتم بالعودة إلى فتح الباب أمام المواطنين للانضواء في تيارات سياسية وفكرية تعبّر عن مصالحهم ضمن التنافس الحر والسلمي، وبإحياء أجواء 1989 عندما كان لا يضير الفلسطيني التصويت للأردنيين مثل: ليث شبيلات أو يعقوب زيادين أو ذيب مرجي؛ لأنه بإمكانهم أن يكونوا ممثلين للمواطنين، رغم أنهم ليسوا فلسطينيين.

«سحب الجنسية» لن يؤدي إلى ميلاد الأردن الديمقراطي - جدلية حقوق المواطنة والهويات المركّبة
 
01-Jun-2010
 
العدد 12