العدد 12 - الملف
 

يتصرف بعضهم كما لو أن ضفتَي النهر، أو سكانهما، قد التقيا في مطلع الخمسينيات فجأة، على أثر حرب 1948، ودخول الجيش العربي إلى القدس وبقية مناطق فلسطين. لكن هذه الصورة النمطية عن «وحدة» فُرضت فرضاً على شعبَي الضفتين العام 1950، تتحدّاها وقائع تاريخية أخرى، والأهم من ذلك أن الوقائع التاريخية والتجربة الحياتية لأبناء الأردن وفلسطين قد سبقت تلك التطورات بكثير.

من هذه الوقائع، أن حصة مهمة من الأردنيين كانوا يعملون في فلسطين قبل حرب 1948، ونُكبوا في مصادر رزقهم أيضاً نتيجة الحرب واغتصاب القسم الأعظم من فلسطين. إذ كان يعمل بها في العام 1937 ما لا يقل عن 32 ألف مواطن شرق أردني، أو ثلث القوى العاملة الأردنية. وقد لاحظ الباحث الأميركي ريتشارد ت. أنتون، أن نصف أرباب الأسر الأردنية في كفر الماء، وهي إحدى قرى لواء الكورة، كانوا قد عملوا في فلسطين، خلال فترة الانتداب البريطاني، لمرة واحدة على الأقل، بينما زاول بقية أهالي القرية العمل في فلسطين لفترات مختلفة.

ولقد شكّل العمال الشرق أردنيين حصة مهمة من السكان الذين عانوا من البطالة بعيد حرب 1948، جنباً إلى جنب مع اللاجئين الفلسطينيين الذين فقدوا الأرض وفرص العمل أو مصدر الدخل الأصلي. وقد بلغت نسبة هؤلاء، فاقدي مصدر الرزق وفرص العمل، نحو 60 في المئة من إجمالي القوى العاملة في الضفتين في مطلع الخمسينيات.

هذه الحقيقة يقابلها أن أعداداً كبيرة من الفلسطينيين كانت قد هاجرت إلى شرقي الأردن على مراحل زمنية متعددة قبيل حرب 1948. فقد انتقل عشرات الآلاف من المزارعين الفلسطينيين إلى شرقي الأردن لغايات استصلاح الأراضي وزراعتها، ولقد استعان شيوخ بني صخر بهم لاستزراع الأراضي الواسعة التي كانت بحوزتهم، كما أن العمالة الزراعية الفلسطينية هي التي تولت مهمة «غسل» التربة من الأملاح في مناطق الغور قبيل حرب 1948 وبعدها، ونهضت بزراعتها بالموز والحمضيات.

لكن معظم هجرة الفلسطينيين إلى شرقي الأردن قبل حرب 1948 كانت نحو مدنها الرئيسية، بخاصة السلط وإربد وعمان والكرك، حيث شكّل التجار الفلسطينيون مكوناً رئيسياً من الأسواق المحلية في هذه المدن، فضلاً عن لعبهم دوراً مباشراً في التجارة مع الأسواق الفلسطينية نفسها، جنباً إلى جنب مع «الشوام» وبعض مسيحيي شرق الأردن.

والواقع أن جزءاً من الحرف والمهن اليدوية والصناعات كانت تعود لهؤلاء جميعاًً، ومن بينهم الفلسطينيون. ومن هنا جاء الربط بين عمارة نابلس وعمارة السلط، ولنا أن نتخيل مدينة السلط ومبانيها الحجرية الصفراء متقَنة الصنعة، من دون مساهمة بنّائي نابلس وفنّاني الحجر فيها، من أمثال عبد العقروق وغيره. بل قل ذلك أيضاً عن عمان، وبقية المباني الحجرية التي احتلت التلال والوهاد والوديان في مدن شرقي الأردن، مثل إربد ومادبا والكرك ومعان.

وهل لنا أن نتخيل «سوق السكّر» و«سوق الخضرة» في عمان، وبقية شوارع ساحة فيصل وشارع المهاجرين والهاشمي وغيرها من شوارع العاصمة، حتى قبل حرب 1948، من دون تجار الخليل ونابلس والقدس؟!

لم ترتطم الضفتان بعضهما ببعض نتيجة قدَر غاشم، ووحدة قسرية، فقد يكون ذلك أحد جوانب الصورة، لكن الصورة تظل أكبر من ذلك. فقد كانت مدارس فلسطين وكلياتها روافد تعليم أبناء الأسر الأردنية الميسورة، بما فيها القمم العشائرية، وكانت صحفها مرآة المثقفين الأردنيين ومسارح لصولاتهم وجولاتهم، يلجؤون إليها لنشر إنتاجهم الأدبي، أو لنشر مطالبهم وشكواهم السياسية. ولذلك شكلت الصحف الفلسطينية واحداً من أهم مصادر تأريخ دور المعارضة الأردنية، وتاريخ الحراك السياسي والثقافي والاجتماعي الأردني.

لم يعرف الأردنيون الأحزاب والنقابات والجمعيات بعد وحدة الضفتين، وإنما عرفوها قبل ذلك، وبعقود. لكن لا يكابر الأردنيون أنهم تعلموا من التجربة الفلسطينية (التي استفادت أيضاً من المهاجرين اليهود، الذين لم يكونوا حينها، صهيونيين دائماً وبالضرورة)، كيف ينظموا أنفسهم في حزب أو نقابة، أو يقودوا إضراباً أو اعتصاماً؟! لم يشعر الأردنيون حينذاك بـ«عقدة نقص»، ولا حالت دونهم حمى «التورم الشوفيني» إذا ما طلبوا من أشقائهم «العمال الفلسطينيين» أن يشيروا عليهم كيف يضعوا لأنفسهم نظاماً داخلياً من أجل بناء نقابة أو حزب عمالي! فقد فعلوا هذا قبل وحدة الضفتين وليس فقط بعدها.

من مبتذل القول التذكير أن علاقة أبناء ضفتي النهر كانت تاريخياً علاقة عرضانية أو أفقية، أكثر مما كانت نتيجة التصاق عمودي بين الضفتين، كما هي الحال بعيد حرب 1948 والوحدة التي قادت إلى «المملكة الأردنية الهاشمية» الموسعة.

لم تخلُ ممارسات الحكم الأردني في الضفة الغربية بعيد حرب 1948 من العسف والظلم وحتى القهر. لكنه لم يكن «عسفاً أردنياً» بقدر ما هو عسف وقهر سلطوي، لسببين على الأقل، أولهما تبعية البلاد الاستعمارية لبريطانيا، التي جسدها الجنرال كلوب باشا وبقية الضباط البريطانيين القابضين على زمام الأمور، وثانيهما رجعية سياسية وفكرية لدى أجهزة السلطة الحكومية، لا تنكر فقط على الشعوب حقها في تقرير مصيرها السياسي، وإنما تنكر عليها أيضاً حقوقها الإنسانية الأولية في التعبير والرأي والتنظيم والاجتماع. وبكلمات أخرى لم يقتصر ضحايا هذا العسف على «الرعايا الجدد»، فقد انضم هؤلاء لرعايا قبلهم وتساووا معهم في الظلم.

حين حُلَّت جمعية العمال الفلسطينية في نابلس ومدن الضفة الغربية، بعيد حرب 1948، على يد الحكام العسكريين «الأردنيين»، وحينما لوحقت تعابير تنظيمية وصحفية أخرى للسبب نفسه، لم يقتصر الاحتجاج على هذه الإجراءات على المتضررين المباشرين من هذه الانتهاكات. إذ كانت تجد أشكالاً من التضامن والدعم والمساندة من قوى وصحف المعارضة السياسية الأردنية في الضفة الشرقية. هذا ما فعلته صحيفة الميثاق التي كان يحررها شفيق إرشيدات، على سبيل المثال وليس الحصر.

لقد استقر في قناعة العديد من الأوساط السياسية الأردنية، بما فيها رموز محافظة مثل عبد الهادي المجالي (وليس فقط في قناعة الفكر السياسي الفلسطيني)، أن «وحدة الضفتين» لم تكن نتيجة قرار ديمقراطي للشعبين، وأن هذه الوحدة كان يجب «أن تصوَّب»، أو أن تقوم على الاختيار الحر للشعبين. ويقال إن مشروع الملك الحسين الداعي لإقامة «المملكة العربية المتحدة»، مطلع السبعينيات، كان بقصد تصويب وحدة مطلع الخمسينيات.

لكن ما بُني في حقبة 1950-1967 من روابط وجسور بين الشعبين، تجاوَز بكثير مثالب ما وُصف بـ«الضم والإلحاق». فالأخير هو وصف سياسي متأخر استدعته حاجة «م.ت.ف» في أواسط السبعينيات إلى تقديم تبرير سياسي للمطالبة بالسيادة على أي جزء يتحرر من الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967، وهو الشعار الذي كان يعني، ولو ضمناً، التراجع عن شعار التحرير «من النهر الى البحر». وهكذا دعت «م.ت.ف» إلى سحب الشرعية عن سيادة المملكة الأردنية الهاشمية على الضفة الغربية المحتلة، وكان من الضروري «تضخيم» واقعة «الضم والإلحاق»، وفي الوقت نفسه تهميش الحقائق الأخرى التي كانت تصف العلاقة الأردنية – الفلسطينية حينذاك.

من الحقائق التي ضُخّمت وبولغ فيها، «مقاومةُ» الشعب الفلسطيني للإلحاق. والواقع أن الحركة السياسية الفلسطينية كانت مقسمة حينذاك بين حزب «المفتي»، الحاج أمين الحسيني، وبين قوى تقليدية أخرى بعضها كان موالياً للعرش الهاشمي، وإلى جانب هؤلاء كانت هناك قوى سياسية جديدة مثل الشيوعيين والبعثيين والقوميين العرب والإخوان المسلمين. ومع تراجع القوى الفلسطينية التقليدية كان جوهر الصراع الأساسي حينذاك هو مع الاستعمار البريطاني الذي كان يقيّد مقدرات الأردن السياسية والاقتصادية بقيود المعاهدة البريطانية – الأردنية، أكثر مما كان صراعاً «قومياً» من أجل تقرير المصير.

وفي واقع الأمر أن الشيوعيين كانوا أكثر من غيرهم، من البعثيين والقوميين أو الإخوان، الذين «عارضوا» الوحدة، وللأسباب السابقة أكثر من غيرها. في حين «صمت» البعثيون والقوميون عن مقاومة «الضم والإلحاق»، وغالباً لأسباب تتعلق برجحان كفّة الهوية القومية الجامعة، أي الرابطة العربية، على الانتماء القطري.

لقد أدت حرب 1948، ومن بعدها قرار توحيد الضفتين، إلى جملة من النتائج التي قررت مصائر الأردن أو الضفتين معاً؛ فقد ضاعفت سكان الضفتين إلى ثلاثة أمثال عدد سكان شرقي الأردن قبيل الحرب، أو هي زادتهم بنسبة تزيد على 210 في المئة. وقد توزع هذا العدد من السكان بنسب متقاربة، فقد بلغ عدد سكان الضفة الشرقية ما يعادل ثلث السكان، وكذلك الأمر مع الضفة الغربية. أما الثُلث الثالث فهو اللاجئون الفلسطينيون الذين لجأوا إلى الضفتين معاً.

وما من شك أن اللاجئين شكلوا عبئاً على موارد الأردن الشحيحة، وعلى مرافقه الخدمية وبنيته التعليمية. لكن القوى العاملة الفلسطينية المهاجرة جاءت ومعها خبرتها المهنية التي وُظفت فوراً في شتى مناحي الحياة، من الزراعة إلى الحرف والصناعات إلى الخدمات التعليمية والصحية والحكومية الأخرى.

ولم يكن جميع اللاجئين خُلُوَّ الوفاض، إلا من «البقج» الشهيرة على ظهورهم، فقد كانت لدى بعضهم «خميرة» كافية من الأموال التي استُثمرت فوراً، وحركت قطاع الإنشاءات والعقارات وقطاع التجارة والخدمات والحِرَف والصناعات الصغيرة في مطلع الخمسينيات.

لم يحلّ اللاجئون الفلسطينيون في المعسكرات والمخيمات ليشكلوا عبئاً صرفاً على الأردن، لكنهم كانوا سبباً لاستدراج حصة مهمة من الدعم الدولي الذي أُنفق على خدمات ومرافق وكالة غوث اللاجئين، وكانوا أيضاً سبباً ضمنياً لحصول الدولة الأردنية على المساعدات الغربية والهبات والمنح الدولية، وهو ما مكّن من توسيع جهاز الحكومة والبنية التحتية للأردن عموماً، ناهيك عن توسيع الإنفاق العسكري والأمني، الذي ارتفع بنحو أربع مرات بين سنة 47/ 1948 وسنة 54/1955.

ولذلك فقد كانت المفاجأة أن «لا ينهار» الأردن تحت وطأة هذه الأعباء، وإنما أن ينمو اقتصاده بمعدلات استثنائية تتجاوز 10 في المئة، ليس فقط في السنوات الأولى من الخمسينيات، وإنما على امتداد الفترة الفاصلة بين حربَي 1948 و1967.

صحيح أن المساحة الإضافية للأرض الصالحة للزراعة الناجمة عن وحدة الضفتين لم تزد إلا بنسبة الثلث، وهي زيادة غير كبيرة إذا ما قورنت بالزيادة السكانية الفجائية والاضطرارية. لكن الضفة الغربية شكلت الحصة الأهم من مساحة الرقعة الزراعية المستغلة، والأكثر خصوبة وإنتاجية في الضفتين، والتي كانت تمد السوق المحلية بالخضار والفواكه، بل وتفيض وتصدَّر إلى البلدان العربية المجاورة.

من المعروف أن الضفة الغربية (أو المنطقة الوسطى من فلسطين) لم تكن أكثر مناطق فلسطين خصباً وإنتاجية وتقدماً. لكنها عندما التحمت بالضفة الشرقية لم تكن أرضاً يباباً، إذ ظلت حتى حرب 1967 تضم الحصة الأهم من المؤسسات الحرفية والصناعية، بل إنها احتضنت أكثر من نصف عدد المؤسسات الصناعية للضفتين.

لكن الحقيقة الأهم أن هذه الرقعة من فلسطين كانت تضم القدس وبيت لحم وأريحا، التي شكلت مصادر الدخل الرئيسية للسياحة الأردنية حينذاك، والتي كانت تعتمد أساساً على السياحة الدينية، عبر الأفواج القادمة من البلدان الغربية المتوجهة نحو القدس وبيت لحم. وهكذا، فقد كانت خسارة الضفة الغربية في حرب 1967، موجعة ليس فقط وجدانياً ووطنياً وسياسياً، وإنما مؤلمة ومؤذية للأردن اقتصادياً. وقد ظهرت آثار تلك الخسائر على الاقتصاد الأردني بوضوح خلال السنوات القليلة اللاحقة لحرب 1967.

وقد أدى اندماج الشعبين بعد حرب 1948 إلى التعجيل بأبرز عمليات التطور الاجتماعي والسياسي والمدني لشعب من الشعوب، وإلى اختزال زمن التحولات الاجتماعية والثقافية إلى الحد الأدنى.

لم يرث الأردن حينذاك الأرض الفلسطينية المسماة «الضفة الغربية»، لكنه ورث أيضاً واستوعب وهضم البنية القانونية التي أرساها الانتداب البريطاني في فلسطين لتستجيب لحاجات مجتمع واقتصاد كان أكثر تقدماً مما كان عليه الأردن، والمقصود هنا ليس فقط المجتمع العربي الفلسطيني، وإنما أيضاً المجتمع اليهودي القائم حينذاك قبيل قرار التقسيم وحرب 1948.

وورث الأردن أيضاً جزءاً مهماً من الجهاز الوظيفي لحكومة فلسطين الانتدابية، ومن الفئات المهنية المتكونة من أطباء ومحامين وصيادلة ومهندسين وغيرهم، بل إن الأردن ورث الميراث الصحفي التاريخي لفلسطين، حتى إن صحف الأردن اليومية الرئيسية، الجهاد والدفاع وفلسطين والمنار، ظلت مقراتها وطواقم تحريرها في القدس، وليس عمان، حتى ما بعد حرب 1967. هذا إضافة إلى أن منابره الثقافية الأهم ظلت تصدر في القدس، كما هي حال مجلة الأفق التي كان يحررها أمين شنار.

لا عجب أن تنشأ الأحزاب السياسية العقائدية، وأن تؤسَّس النقابات المهنية والعمالية تباعاً منذ مطلع الخمسينيات، وأن يلي ذلك نشوء الاتحاد العام للجمعيات الخيرية، ولا مفاجآت في أن تتعاظم قوى التحرر والاستقلال والتقدم خلال سنوات ما بعد حرب 1948، لتصبح المملكة الأردنية إحدى ساحات التحرر العربي، ولتنضج في الأردن ظروف إسقاط حلف بغداد، ثم انتخاب برلمان بأغلبية قومية ويسارية وعقائدية، ما أفسح المجال لقيام حكومة سليمان النابلسي، والتي ألغيت المعاهدة الأردنية البريطانية في عهدها، وأُبرمت اتفاقية التضامن العربي مع مصر وسورية والعربية السعودية.

حقاً لقد عانى أبناء الضفتين ولمدة عشر سنوات لاحقة، من غياب الحريات الأساسية بعيد إسقاط حكومة النابلسي وفرض الأحكام العرفية. لكن تغييب الديمقراطية وهيمنة النخب العائلية والإقطاع السياسي على برلمانات تلك الحقبة، لم يلغِ الحقائق الإيجابية للوحدة الترابية التي حسمت حرب 1967 مصيرها، لكنها ظلت باقية في صور مختلفة في مجتمع الضفة الشرقية بعد ذلك وإلى الآن.

لقد تراصفت «شرائح» مختلفة من الهويات الأردنية والفلسطينية على مر الزمن، حتى تعذَّر عملياً الفصل بينها، ولو من الناحية النظرية. ولقد شكّل هذا التراصف التاريخي للهويات مصدر غنى وثراء للمجتمع والدولة والثقافة والاقتصاد وأنماط الحياة والعمران. وقد آن الأوان اليوم لإظهار الاعتزاز بتعددية مصادر وتعابير الوطنية الأردنية، بدلاً من دمغ هذه الوطنية بالشوفينية والتعصب وضيق الأفق القومي.

لكن هذه قصة أخرى تستحق التوقف عندها، بخاصة ونحن «نحتفل» هذا العام بمرور أربعين عاماً على أحداث أيلول/سبتمبر 1970!

عندما تلاقت الضفّتان
 
01-Jun-2010
 
العدد 12