العدد 12 - محلي | ||||||||||||||
في مشهد المواجهة بين الحكومات والناشط العمالي محمد السنيد، التي بلغت ذروتها بصدور قرار فصله من عمله، وقرار آخر باعتقاله وتحويله إلى محكمة أمن الدولة، لا تكمن المفارقة في أن الحكومات التي اعتادت عبر تاريخها أن تكون مواجهاتها مع أحزاب وناشطين سياسيين مؤدلجين ومنظمات مجتمع مدني أو حتى عشائر، تجد نفسها وللمرة الأولى في مواجهة مع عامل مياومة، عمره 34 سنة، يعمل مشغّل آبار ارتوازية في وزارة الزراعة، ويحمل شهادة التوجيهي الزراعي. المفارقة الحقيقية، أن الكفّة في هذه المواجهة تميل لصالح السنيد، الذي استطاع قبل أربع سنوات تأسيس وقيادة لجنة لتمثيل ما يزيد على 13 ألف عامل مياومة وقتها، يتوزعون على وزارات الدولة، وهي لجنة سببت «الصداع» للحكومات المتعاقبة، واستطاعت انتزاع تثبيت ما يزيد على 9 آلاف عامل منهم. رجحان كفّة السنيد عكسته بجلاء حركة التضامن الواسعة معه من أحزاب ومنظمات حقوقية أردنية وعربية وفعاليات شعبية، في إطار التطورات الدراماتيكية التي طرأت مؤخراً على قضية عمال المياومة المفصولين. ففي وقت أوشكت فيه الحكومة على طي صفحة 256 عاملاً فُصلوا مطلع العام الجاري، بإعادة 190 عاملاً إلى وظائفهم السابقة، وإعلان قرب حل مشكلة الباقين، قامت بتفجير الموقف مرة أخرى، عندما أصدر وزير الزراعة قراراً بفصل السنيد، الذي قاد خلال الأشهر الخمسة الماضية حركة إعادة العمال المفصولين. الوزير برر في تصريحات صحفية قرار الفصل الذي صدر يوم 2 أيار/ مايو 2010، بـ«عدم انتظام السنيد في عمله»، مدللاً على ذلك بتوجيه ثلاثة إنذارات للسنيد كان آخرها إنذار نهائي تلقّاه في آذار/مارس 2010. لكن السنيد نفى عدم انتظامه في العمل، وقال في تصريح لـے إن جميع أيام غيابه عن العمل مغطّاة بإجازات سنوية أو مرَضية. السنيد الذي أصر على أن قرار فصله كان «كيدياً»، دلل على ذلك بأن الإنذارات التي حصل عليها خلال سنوات خدمته البالغة 16 سنة كعامل مياومة في وزارة الزراعة، بلغت 14 إنذاراً وليست ثلاثة كما ورد في خطاب الفصل، وأن هذه الإنذارات التي يعدّها «أوسمة شرف» كانت جميعها مرتبطة بنشاطاته النقابية. يقول: «لو كانت هذه الإنذارات قانونية لتمّ فصلي منذ زمن طويل، ولكن توقيت فصلي الآن مرتبط بمواجهتي مع الحكومة في قضية العمال الأخيرة، وهي مرتبطة أيضاً برفضي التنازل عن الدعوى التي رفعتها على الوزير بعد شتمه لي في أحد الاجتماعات». قرار فصل السنيد صعّد الموقف، وجعل الأمور تتخذ منحى أكثر حدة باعتقاله مع متضامنين معه أمام مركز «شراكة من أجل الديمقراطية» في مادبا، حيث كان وزير الزراعة يلقى محاضرة هناك، إذ دخل السنيد بعد الاعتصام إلى قاعة المركز وبدأ يهتف مطالباً برحيل الوزير، ورحيل رئيس الوزراء سمير الرفاعي. السنيد مع شخص آخر هو أحمد اللوانسة، حُوّلا إلى محكمة أمن الدولة، ووُجهت إليهما تهمة «التجمهر غير المشروع». أُفرج عن اللوانسة بعد يوم واحد بكفالة، في حين اعتُقل السنيد عشرة أيام قبل أن يُفرج عنه بكفالة. السكرتير التنفيذي لمركز «شراكة من أجل الديمقراطية» عارف طوالبة، أكد أن السنيد كان متواجداً بشكل قانوني في المكان، فقد وجّه المركز إليه دعوة للحضور، أولاً بصفته ناشطاً نقابياً، وثانياً لأن مسألة فصله كانت من المسائل التي كان مخططاً تناولها مع الوزير و«مساءلته» بشأنها. طوالبة أكد أن المركز لم يتقدم، رغم تعطّل المحاضرة، بشكوى ضد دخول السنيد إلى القاعة، ذلك أن ما قام به هو «ممارسة لحقه المشروع في الاحتجاج السلْمي»، منوّهاً إلى أن السنيد لم يستخدم في هتافاته ضد الوزير والحكومة «ألفاظاً نابية» ولم يقاوم رجال الأمن كما ذكرت صحف محلية. في ظل هذه التطورات، فإن السؤال المطروح لم يعد يتعلق بالرؤية التي تمتلكها الحكومة حول قضية عمال المياومة، أو الإستراتيجية التي تنتهجها للتعامل معها، فقد ثبت بالتجربة العملية أن كليهما غائب، وإلا ما الحكمة من إعادة تفجير الموقف في اللحظة التي أوشكت فيها الحكومة مع عمال المياومة على الخروج من عنق الزجاجة؟ السؤال هنا هو إن كانت الحكومة تنتبه إلى ما يقول الكاتب في العرب اليوم أحمد أبو خليل، إنه «ظاهرة جديدة تتشكل في المجتمع الأردني، هي ظاهرة فقراء القطاع العام، الذين يخوضون للمرة الأولى في تاريخ البلد تجربة المطالبة بحقوقهم». وهي ظاهرة على الحكومة أن تأخذها على محمل الجد، فحركة عمال المياومة، واعتصام عمال ميناء العقبة في العام 2009، واعتصامات المعلمين الأخيرة، هي مؤشرات كما يقول أبو خليل على «حيوية الفئات الشعبية الفقيرة المتضررة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية المسيطرة منذ عقدين من الزمان على الأردن». الحكومة تعاملت مع المسألة بـ«نفَس عرفي»، تمثّل في اعتقال السنيد بتهمة «التجمهر غير المشروع»، مع أنه قاد قبل هذا الاعتصام ثمانية وثلاثين اعتصاماً سلمياً سابقاً لم تسجَّل في أيٍّ منها أي خروقات أمنية، مع ملاحظة أنها اعتصامات لم يتم فيها أيضاً استصدار موافقات، ولم يتم فيها توجيه تهمة «التجمهر غير المشروع». هذا الأمر يثير التساؤل حول وجود معايير ثابتة في التعاطي مع المسائل، وهو ما يُطرح أيضاً في ملابسات إحالة السنيد إلى أمن الدولة، فإلى أي مدى تخضع خطوة كهذه إلى معايير محددة؟ أحمد اللوانسة الذي اعتُقل مع السنيد، قال لـے إنهما احتُجزا في مركز أمن مادبا إلى حين انتهاء المحاضرة، ثم قيل لهما إن بإمكانهما العودة إلى المنزل، لكن السنيد بحسب اللوانسة رفض المغادرة: «قال إن يده اليسرى أصيبت بسبب عنف الشرطي الذي وضع القيد في يديه، وأكد أنه لن يغادر قبل أن يقدم شكوى ضده، فأدخلوه مدة نصف ساعة إلى مدير المركز، لأفاجأ بعدها بأنهم عدلوا عن الإفراج وكتبوا مذكرتَي توقيف جديدتَين في حقّنا، ثم عُرضنا صباح اليوم التالي على مدعي عام أمن الدولة». السنيد قال إن رجال الأمن خلال «النصف ساعة» هذه حاولوا «مقايضته»، وخيّروه بين الإفراج عنه، أو أن يقدم شكواه مع إحالته إلى محكمة أمن الدولة. ويضيف: «أصررت على تقديم شكوى، فأحالوني إلى المحكمة». «اللجنة الشعبية للإفراج عن السنيد» التي تشكلت عقب اعتقاله، سيّرت إلى منزله بعد الإفراج عنه قافلةً ضمّت إسلاميين وشيوعيين ووسطيين، إضافة إلى مواطنين لا علاقة لهم بأي تنظيم سياسي. وهو أمر يحمل دلالة كبيرة، فالحكومة المطالبة الآن بالتعرُّف على طبيعة من باتوا يشكلون أطرافاً جديدة في المعادلة، عليها أن تدرك أيضاً تداعيات اتباعها الأساليب القديمة نفسها القائمة على «القمع»، ذلك أن القمع لم يفقد فقط وظيفته في إلغاء الآخرين، بل يسهم في تحشيدهم ودفعهم إلى تحالفات تزيدهم صلابة وتنظيماً. الدليل على ذلك إعلان السنيد بعد الإفراج عنه، نيته تشكيل اتحاد «حقيقي» للعمال، يعتمد في قاعدته الأساسية على حرية التنظيم النقابي، ويكون بديلاً عن الاتحاد القائم حالياً، وهو الاتحاد العام لنقابات العمال في الأردن، الذي يترأسه مازن المعايطة، وتؤكد أرقام رسمية أن عدد المنتسبين له لا يزيد على 6 في المئة من مجموع العاملين في المملكة. قانون العمل الأردني منحَ وزير العمل –كما جاء في المادة 98- الحقَّ في تحديد المهن التي يحق لعمالها تأسيس نقابة لهم، والمهن التي لا يجوز لعمالها تأسيس نقابات مستقلة لهم بدعوى تماثلها أوارتباطها مع مهن أخرى. هذه المادة وفق السنيد، تتعارض مع حرية التنظيم النقابي التي كانت من المبادئ الرئيسية في إعلان منظمة العمل الدولية المتعلق بالمبادئ والحقوق الأساسية في العمل، وهي السبب في «هزالة» تمثيل الاتحاد القائم للعمال. إذا قُدّر لهذا الاتحاد أن يخرج إلى النور، فإن الحكومة ستكون مدعوة إلى مواجهات جديدة مع اللاعبين الجدد على الساحة. ناشط فضّل عدم الكشف عن اسمه، أكد أن الدور الذي سيلعبه الاتحاد القادم في مسيرة التنمية في الأردن، سيكون مرهوناً بمواصلته النهج الذي اتُّبع في تجربة عمال المياومة، وهو نهج اعتمد التحالف على أسس نقابية، ولم يتورط أثناء مطالبته بحقوق منتسبيه في أي تحالفات قائمة على أساس الجهوية أو الهويات الفرعية. وهو ما يبدو أن السنيد كان واعياً بما يكفي له، فقد رفض في دعوى «الشتم والتحقير» التي رفعها على وزير الزراعة جميع الوساطات العشائرية، وأصر على السير قدماً في الإجراءات القضائية وحدها. |
|
|||||||||||||