العدد 11 - اجتماعي
 

في دعوة غداء جمعت بين شخصيات عامة، رنّ هاتف شاب ثلاثيني كان حاضراً في المناسبة، فردّ على الفور مخاطباً المتصل: «هلا دولتك»، وسط تبادل النظرات بين الحضور من «النخبة». وانتهت المكالمة على عجل، بعد أن وعد الشاب ذلك المتصل به بأنه سيُجري اتصالاته «لمتابعة الأمر».

وما إن انتهى الشاب من المكالمة، حتى أجرى اتصالاً آخر بدا للحضور أنه «بالغ الأهمية». بدأ الشاب المتأنق حديثه بقوله: «تحياتي سيدي. بدّي أذكرك بموضوع الباشا»، لينهي الاتصال، وهو يتفوه بعبارات غير مفهومة للمحيطين به، لكنها «أوحت» لهم بأنه شخص «له وزنه».

ما حدث أثار فضول اثنين من الحضور بعد مغادرتهما، وظَهر واضحاً أنهما توّاقان لمعرفة المزيد من المعلومات عن الشاب. وما إن استقلاّ السيارة التي قدما فيها، حتى أجريا اتصالات هاتفية، كشفت لهما أنه ليس أكثر من «موظف عادي» في مؤسسة خاصة، لا يحظى بأي علاقات مع «رجالات الدولة»، ولا مكانة له في بيئة العمل، على خلاف ما أوحى لهم.

كان يُقال في الماضي: «اللي ما له ظهر ما له وجه»، تعبيراً عن أهمية وجود دعم وإسناد من جانب شخص آخر من «العيار الثقيل».

واليوم يلجأ بعضهم إلى اتباع أساليب مختلفة للتمويه بأنه يستمد الدعم من غيره، في أطر الاستعراض وتمجيد الذات. هذا النوع من الاستعراض غير مؤذٍ، لكنه يعكس «ضعفاً وهشاشةً» في شخصية الذي ينتهج هذا السبيل.

هذا يقود إلى الحديث عن المدعومين، هل هم «مسنودو الظهر» كما يزعمون، أم إنهم فقط مُحتمون بآخرين لتسويغ ممارسات وسلوكات يقومون بها أو أقوال تصدر عنهم، ولتقديم انطباع كاذب عن أنفسهم؟

ففي العمل، والمؤسسات التعليمية، والجلسات ذات الطابع الاجتماعي، ثمة أشخاص يَظهرون في كاركتر يغلب عليه الاحتماء بآخرين؛ مصوّرين ما يصدر عنهم من أقوال أو أفعال أحياناً، بأنه تنفيذ لـ«أوامر» أو «إيعازات» تُملى عليهم.

ويرى أستاذ التربية في كلية عمّان الجامعية عودة أبو سنينة، أن إطلاق عبارات تدل على وجود علاقات مع صنّاع قرار وشخصيات ذات مرجعية، هو نوع من «السلوكات غير الطبيعية»، التي تشبه أنماطاً من الذبذبات الموتورة، التي يبثها المرء حوله للإيحاء بأنه على مستوى معين أو من طبقة محددة من الناس لها مكانتها الاعتبارية.

وهناك، بحسب أبو سنينة، ما يأتي ضمن إطار «سياسة التدليس»، التي يتميّز صاحبها بـ«اللعب على الكلمات والعبارات كي يصل إلى مبتغاه ولخدمة مصالحه فقط». وفي هذا السياق، شاع مؤخراً أن أكاديمياً «مرموقاً» في جامعة رسمية قال لزملائه في العمل بأنه «عبد مأمور»، ينفذ أوامر وتعليمات يتلقاها، وذلك بهدف تمرير قرار تعيين لم يلقَ تأييداً من زملائه.

هذا النمط من السلوك يختلف عن السلوك الاستعراضي الذي ورد في مستهلّ الموضوع. بل إن الأكاديمي نفسه فاجأ زملاءه وهو يترأس اجتماعاً رسمياً بقوله: «الجماعة على اطلاع على أدق التفاصيل!»، دون أن يوضح المقصود بـ« الجماعة»، أو سبب اطلاعها على «التفاصيل». المجتمعون تبادلوا النظرات في ما بينهم، تعبيراً عن استغرابهم من التصريحات التي لفّها الغموض دون أن يُعرف فحواها. وبعضهم فهمَ أن «الجماعة» تعني دائرة المخابرات العامة.

لجوء هذا الأكاديمي إلى الاحتماء خلف موقف مزعوم للمخابرات العامة، فيه قدر من الضرر للأشخاص والمؤسسة التي يعمل بها.

نمط آخر من السلوك؛ (ج.ع) مواطن أربعيني راجع مؤسسة خدمية لإنجاز معاملة له، تساءل عن المعنى الذي قصده مسؤول هناك بقوله إنه ينصاع لـ«التعليمات التي تأتي من فوق»، وهي عبارة فهم منها رفْض إنجاز معاملته، دونما سبب واضح.

المواطن نفسه أكدّ أنه أنجز معاملته بشكل قانوني بعد مراجعة مسؤول آخر؛ ليتبين له في ما بعد أن المسؤول الذي رفض إنجازها في بداية الأمر «لم تأته تعليمات من فوق»، وإنما كان مبعث رفضه إنجازها تقاعسه عن أداء العمل، على الأغلب.

وفي جانب آخر، هناك مسؤولون يحرصون على إثارة الخوف في نفوس العاملين معهم، عبر إشعارهم أنهم على اتصال مع مؤسسات ذات مكانة اعتبارية، ولهم علاقاتهم التي تمكّنهم من الاطلاع على الشكاوى التي تُقدَّم بحقهم، لأنهم «مسنودون»!

في إحدى المؤسسات، فاجأ «المدير» عدداً من موظفيه خلال اجتماع عمل، بكشفه إنه استُدعي إلى إحدى الجهات للتحقق من معلومات وردتها حول تجاوزات في المؤسسة التي يديرها، قائلاً لزملائه إنه قرأ التقرير المكتوب عنه، وشاهد اسم كاتبه وبخط يده.

وبسبب هزالة شخصيته وما ظهر من شدة كذبه، فإن أحداً من الموظفين لم يصدّق المدير، بحسب ما أبلغ أحدهم ے طالباً عدم نشر اسمه. لكن لو كانت النتيجة مختلفة، وقاموا بتصديقه، ربما أدى ذلك إلى تدني مستوى المساءلة والمتابعة على صعيد المؤسسة.

بعيداً عن السياسة والإدارة، يقوم بعض «المسنودين» و«المهيمنين» بالسطو والابتزاز. ففي إحدى مناطق عمّان الشرقية مثلاً، يدير عامل وافد محل بيع خضروات لحسابه الخاص، متجاوزاً في ذلك القانون؛ رغبةً في تأمين عيش كريم لأسرته التي تقيم في عمّان. هذا العامل يجد نفسه مضطراً لمداراة عدد من الزبائن الذين يدّعون بأنهم من «أصحاب النفوذ»؛ لتكون مشترياتهم «مجاناً» دون ثمن، تجنباً لأي ضرر محتمل يقع عليه بسببهم.

وفي سلوك مشابه، لكن في موقع أكثر برجزة، دخل رجل وزوجته إلى أحد المحال التجارية، وأخذت زوجته تنتقي «حاجاتها»، بينما يجري هو مكالمات هاتفية أظهرت بأنه شخصية ذات مكانة، الأمر الذي دفع صاحب المحل للاعتذار عن قبول ثمن المشتريات التي بلغ ثمنها ستين ديناراً؛ لتكون هدية منه، دون أن يتسنى له معرفة صحة ادعاءات «الزبون»، بحسب ما أفاد صاحب المحل لـے مشترطاً عدم الكشف عن هويته.

من جهة أخرى، قد يأتي دور «المسنود» ليس بوصفه متلقياً للرشوة بل على أنه بائع لها، إذ يجد صاحب سوبر ماركت في منطقة النزهة بعمّان، نفسه مضطراً لشراء كراتين لحوم من عاملين في إحدى المؤسسات، بعد أن يحصلوا عليها كـ«هدية» من مصانع متخصصة أثناء جولاتهم عليها؛ تجنباً لـ«شرهم».

المتخصص في علم النفس كرابيد زكريان، يصف هؤلاء بـ«الوصوليين» الذين يحلّلون لأنفسهم استخدام جميع الوسائل للوصول إلى غايتهم، مطبّقين المقولة الشائعة: «الغاية تبرر الوسيلة». ويكشف أن بعض هؤلاء «يتمتع بمسحة ذكاء يوجهها نحو اختيار ضحاياه»، مبيناً أن الضحايا يتميزون عادة بأنهم «يهابون من ذكر أسماء شخصيات عامة أو مؤسسات ذات مرجعيات سياسية».

رئيس مجلس النواب الأسبق سعد هايل السرور، يقول لـے: «هناك أشخاص يعمدون إلى استخدام عبارات تحمل إيحاءات بأن جهات حكومية وأجهزة في الدولة تقف إلى جانبهم ضد آخرين؛ لتمكينهم من الحصول على امتيازات وحوافز».

ويرى أن هذا «الإيحاء» لا يصْدُق تماماً، وأن التأثيرات والضغوط تنطلق إما من اجتهادات شخصية لدى بعض الأشخاص، أو أنها تعبير عن أهواء وأمزجة أو تندرج ضمن حسابات خاصة لدى بعضهم دون علم رئيسه.

ويعتقد السرور إن بعض هؤلاء «يجيد فلسفة التآمر»، ليحتمي بشخصيات عامة تحظى بمكانة مرموقة، أو أجهزة ومؤسسات حكومية ذات مرجعية، ويجعل منهم درعاً يحميه، محاولاً اقتناص ما يطمح إليه.

وزير الداخلية الأسبق عضو هيئة مكافحة الفساد عوني يرفاس، تحدث لـے عن تجربته الشخصية في هذا المجال، نافياً أن يكون طُلب منه خلال سنوات عمله اتخاذ قرارات لصالح أشخاص وفقاً لرؤية مؤسسات ذات مرجعية أو شخصيات عامة عليا.

وأضاف أن محاولة استغلال هذا الجانب من أشخاص يتفوهون بعبارات تدلّ على أن لهم نفوذهم وارتباطاتهم لتقديم خدمات لآخرين لقاء مقابل، قد يؤدي إلى ملاحقتهم جزائياً وتحميلهم المسؤولية في هذا الجانب.

للحد من هذه الظاهرة، يدعو أستاذ العلوم السياسية مصطفى العدوان إلى «تفويت» الفرصة أمام المختبئين وراء شخصيات عامة ذات حضور اجتماعي، متقمّصين مواقف وأدواراً مصطنعة، من خلال الطلب منهم الحديث بشكل صريح عند تفوههم بعبارات تحمل إيحاء تجاه مؤسسات رسمية أو شخصيات سياسية لها مكانتها.

وأوضح العدوان أن الاحتماء بآخرين بهدف تمرير قرارات، هو سلوك يُقبل عليه أشخاص «يعمدون إلى الاختباء خلف شخصيات غير شخصياتهم»، ظناً منهم أنهم يستطيعون خداع الآخرين والظهور بمظهر يحصلون من خلاله على مكتسبات من خلال «تمويه» الذين يتعاملون معهم.

مسؤول في مؤسسة مجتمع مدني طلب عدم نشر اسمه، يرى أن «المتسترين» وراء الشخصيات العامة، «يغيب عن درايتهم أن هذا السلوك المستهجَن يجرفهم بتياره الرعوني نحو الوقوع في دائرة الأخلاق الفاسدة القبيحة، التي يفتقد أصحابها للشجاعة الأخلاقية النزيهة لمواجهة الواقع والتعامل بعفوية دون التسلق على الآخرين للحصول على مكتسبات وأطماع لهم».

ويلفت إلى أن بعضهم «ليس لديه أي علاقات مع شخصيات نخبوية، لكنه يكذب وينجرّ وراء أوهام ينتجها ويصدّقها، ويطلب من الآخرين تصديقها».

أما أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنية مجد الدين خمش، فيوضح لـے أن التنافس للحصول على امتيازات ومناصب والتقرّب لمسؤولين وصنّاع قرار، يدفع بعضهم إلى اتباع أساليب «ملتوية» لتحقيق أطماعه، ما يحفزه لتعلم «تكتيكات» لإعطاء صورة إيجابية عنه أمام آخرين، تزيد من قدرته التنافسية في بيئة العمل وربما في الحياة العامة.

وأرجع خمش سبب اتباع هذه «التكتيكات»، إلى اعتقاد هؤلاء بأن هذا الأسلوب «يزيد من قيمتهم أمام المحيطين بهم في العمل أو الحياة العامة، في وقت يتمنون فيه أن تتحول هذه المظاهر إلى واقع، بخاصة إذا كانوا ينسجون للآخرين قصصاً غير حقيقية».

وبعدما انتهى كاتب هذه السطور من موضوعه، وأثناء تحويله إلى التحرير، رنّ الهاتف النقال، وكانت أولى كلمات الكاتب في رده على المتصل: «هلا معاليك»، فما كان من المحرر إلا أن قال: «موضوعك ممتاز، واصلْ ما شاء الله عليك، مين معاليه؟!». كل ذلك قبل أن ينتقل الموضوع من الفلاش ميموري إلى جهاز الكمبيوتر الخاص بالمحرر.

«اللي ما له ظهر ما له وجه» المدعوم: مسنود أم «شبيح»؟
 
01-May-2010
 
العدد 11