العدد 11 - ترحال
 

الشتاء قاس على محبي المسير والتسلق. خيارات المملكة الواسعة بين سهول وجبال تصبح محدودة، بخاصة أن «سوء الحظ» واحتباس المطر الذي ساد المملكة في السنوات القليلة الماضية زال، واغتسلت الأرض أخيراً بمطر كان عزّ وابتعد طويلاً.

ضيق الخيارات كان يعني البحث عن أماكن، ربما، لم تكن مطروحة على خطة مجموعتنا لهذا العام. كنا ناقشنا في المجموعة، التي لم تطلق على نفسها اسماً بعد، وتتكون من عرب وأجانب، تنقصهم الخبرة ولكن يملؤهم حب المغامرة والاستكشاف، زيارة مواقع المسير المشهورة أولاً، فمعظمنا لم يذهب إلى وادي الموجب -سيد الأودية- بعد، وهذا محرّم في قاموس المسير في الأردن.

لكن و«نظراً للأحوال الجوية» كان خيارنا الآمن زيارة الكرك، وإعطاء قلعتها الكبيرة الوقت الذي تستحقه من تجوال وتمعن، بخاصة أنّ التفاصيل الدقيقة التي تحويها القلعة تلخص تاريخ المنطقة عبر العصور حتى أيامنا هذه.

البداية كانت من الشارع الواصل بين السوق التجارية المليئة بمحلات صغيرة تبيع صناعات يدوية، والقلعة. رَصْفُ الوادي كان فكرة جيدة أكسبت الشارع مظهراً حضارياً، ولكن على يسار القلعة تنتشر مطاعم تبدو «غير مشوّقة» لدخولها.

الدخول إلى القلعة مجاني للأردنيين. دخلناها و«صعقنا» بجمال المنظر من سورها المرتفع. الإطلالة على بيوت الكركيين بما يحيطها من جمال طبيعي، زادت يناعته الأمطار الغزيرة، يخلب الألباب، فيما شمس خجولة تنشر ضوءاً دافئاً على سهول الكرك.

الجبل على الزاوية الجنوبية يسمى جبل الثلاجة لارتفاعه وبرده القارس، بخاصة أنّ جهته المطلة على البحر الميت حيث تنتشر البيوت التي تنتمي لمنطقة الثلاجة، مكشوفة للرياح، وهذا سبب برودتها. فيما الجبل في جهتها الجنوبية الشرقية يسمى جبل المرج، وقد سمي بذلك لخضرته وجماله.

لا عجب أنّ هذه القلعة مكّنت حكامها من بسط نفوذهم سنوات طويلة على مناطق واسعة من جنوب الأردن وفلسطين بفضل موقعها الاستراتيجي وإطلالتها المرتفعة، إذ يبلغ ارتفاع هضبتها 1000 متر عن سطح البحر.

تضم القلعة التي تطل على اللسان الجنوبي - الشرقي للبحر الميت على بعد 120 كم جنوب العاصمة، سبعة مستويات من البناء. يزنّرها سور ضخم تنتظم فيه أبراج مختلفة الأشكال، وأنفاق بمداخل سرية تصل القلعة بمصادر المياه خارج أسوار المدينة.

هذه المداخل السرية والغرف المظلمة زادت من أسئلتنا. أزعجنا، رغم ذلك، اتساخ الغرف، وخوفنا من الدخول إليها خشية وحش متربص أو أفعى غادرة. أهل الكرك يروون قصصاً عن العقارب التي قد تجد في ظلام القلعة مسكناً آمناً.

أمامنا مشى سائحان بولنديان حظيا بدليل سياحي يتحدث لغتهم. ولكن كان علينا الاستفادة من اللوحات الإرشادية القليلة بالعربية والإنجليزية التي وضعت على بعض جدران القلعة لبيان ماهيتها.

رغم «الإهمال الواضح» لبعض جوانب القلعة، إلا أن المتحف القابع فيها حظي بعناية فائقة. المتحف ضخم وواسع وكأنه تحت الأرض في مكان مقبب قديم جداً.

المتحف الأثري افتُتح العام 1980. ويتكون القسم الرئيسي فيه من قاعة كبيرة هي عبارة عن أصل الأقبية التي كانت تستعمل في السابق عنابرَ سكن للجنود خلال حكم المماليك في القرن 13 الميلادي وخلال حكم العثمانيين في ما بعد.

المعروضات الأثرية المتنوعة في هذا المتحف تعود، بحسب اللوحات المعلوماتية الموزعة فيه، إلى فترات تاريخية قديمة جداّ منذ العصر الحجري الحديث، أي إلى حوالي6000 - 8000 عام قبل الميلاد، ووجدت في منطقة الكرك وقلعتها وحتى الفترات التالية صعوداً إلى العصور الحديثة من نبطية ورومانية وبيزنطية وإسلامية وصليبية ومملوكية وعثمانية.

معظم هذه الآثار والموجودات والأدوات والتحف الفنية القديمة وجدت أثناء الحفريات الأثرية التي شهدتها الكرك والطفيلة في عقود ماضية، مثل الأدوات الصوانية التي كان يستعملها الإنسان في العصور الحجرية من مطارق وأزاميل بدائية، إضافة إلى أواني الطعام والشراب والتخزين والعلاج، ثم الهياكل العظمية البشرية وقطع النقود الإسلامية واليونانية والنبطية.

الفخاريات موجودة بكميات كبيرة، وفي المتحف أيضاً الأواني الزجاجية الملونة، والنقوش والكتابات على قطع الحجارة، وأخيراً نموذج يمثل حجر أو مسلة الملك المؤابي ميشع الذي طرد اليهود من هذه البلاد.

ودّعنا القلعة ومتحفها بنظرات إلى أجزاء من شاطئ البحر الميت، ونظرات حنين وحزن إلى فلسطين القابعة غرباً، حيث كنا محظوظين ليلاً بمشاهدة بعض أضواء القدس، المدينة الخالدة.

موسم الحجّ إلى الكرك: قلعة حصينة تختزن تاريخاً غنياً
 
01-May-2010
 
العدد 11