العدد 3 - ثقافي | ||||||||||||||
نشر الراحل شفيق الحوت قبل سنتين سيرة ذاتية عنوانها: «بين الوطن والمنفى»، في كتاب ضخم يقع في خمس مئة وخمسين صفحة. كتاب بين الوطن والمنفى، للراحل شفيق الحوت، جدير بالقراءة لسببين: أولهما أنه يدور حول حياة إنسان غير عادي، أعطى حياته للقضية الفلسطينية وحظي باحترام جماعي قصّر عنه كثيرون، وثانيهما أسلوب الكتاب، الذي يتسم بالنزاهة والتواضع وتجنّب الإساءة إلى الآخرين. فلا موضع، في هذه السيرة الذاتية الغنيّة، للنرجسية والاحتفاء المريض بالذات، ولا موقع فيها لما يهوّن من شأن الآخرين ويبخسهم حقهم. مارس الراحل، في الحالين، ما يمكن أن يُدعى: أخلاق التذكّر، التي توحّد بين الحديث عن الذات، والالتزام بالقيم الأخلاقية الموضوعية. حملت السيرة عنواناً فرعياً: «من يافا بدأ المشوار»، الذي يقتفي آثار فرد وأقدار قضية، ويوازي بينهما إلى حدود التطابق والتماهي. وما كلمة «المشوار» إلا إشارة إلى رحلة لازمها التعب، أو إلى تعب مديد جاء به المنفى ورفَضه المنفيُّ الذي تمسك بحقه وقاتل من أجله. ينهي الحوت الفصل الأول من سيرته بالكلمات التالية: «أنا لست عائداً فحسب، بل فلسطين عائدة إليّ أيضاً»، مذكّراً برومانسية محمود درويش الشاب، الذي ألغى المسافة بين الأرض والشاعر. ولعل هذه الإيمانية العالية والنبيلة معاً هي التي تفسّر الذاكرة الخصيبة، التي أخذت بيد الكاتب إلى تفاصيل مدينته وحياته ومنعطفات قضيته، ذلك أن في أخلاق الذاكرة، التي تجمع وتراكم وتربط، صورة عن سلوك إنسان لا يفرّط بحقه، على مبعدة عن آخرين، يوغلون في «البلاغة الوطنية» ولا يعرفون عن تاريخ وطنهم شيئاً كثيراً. يقول في مستهل كتابه: «لو سألتني، قبل اغتصاب الأرض عن ذلك الشارع في يافا، الموصل بين بيتي ومدرستي،....، لوجدتني أوجز أيّما إيجاز، غافلاً عن الكثير من التفاصيل. لكن حاول أن تجرّبني الآن، لتسمع مني عجباً». ليس في الذاكرة اليقظة إعلانٌ عن كتاب كثير التفاصيل جدير بالقراءة، بقدر ما هو آية عن وعي وطني مسؤول، فلا هوية بلا ذاكرة، ولا ذاكرة - هوية إلا بمشروع سياسي، يعرف قيمة ما كان والجهد الواجب بذله في سبيله. هذه العلاقة بين الذاكرة والتمسك المقاتل بمواضيعها هي التي قادت شفيق الحوت إلى العمل الوطني الفلسطيني، وأدرجت حياته في مشروع جماعي يحوّل «الحيَوات المقاتلة» إلى حياة واحدة. لذا تبدو الذاكرة، في شروط القهر، بديلاً عن الوطن، ويلتبس الحديث عمّا كان بحنين موجع آسر، يعطف تفصيلاً على آخر، ويحاذر ألاّ ينسى شيئاً، إن استطاع. وهو ما حاول الراحل أن يفعله وهو يصف يافا، التي وُلد فيها، بعائلاتها وشوارعها ومدارسها ومعالمها، ومذاق هوائها في جميع الفصول. تكشف محاولة القبض على التفاصيل عن حضور المكان في روح الفلسطيني الذي وُلد فيه، وعن جهدٍ في محاربة النسيان والحفاظ على فاعلية الذاكرة. يتلو الحديثَ عن مدينة الطفولة حديثٌ عن الرحيل إلى المنفى. ومع أن استرجاع أطياف المكان الراحل يغوي برومانسية واسعة، فإن حس شفيق الحوت النقدي لم يمنعه عن القول: «المؤسف أننا لم نكن ندرك حينئذ أن شعبنا كان من دون قيادة. ولذلك شاعت وراجت قصة الشهيد البطل عبد القادر الحسيني،...، الذي سقط شهيداً». إن التأسف المتأخر على قضية وطنية ليس لها قيادة، هو الذي دفع بالشاب شفيق، الذي انتقل من يافا إلى بيروت، إلى الالتحاق بعمل وطني منظم يتمتع بـ«قيادة»، وهو الذي جعله يربط، بشكل مضمر، بين القيادة والاستعداد للتضحية، بعيداً عن رخاوة باهظة ترى في استشهاد قائد وطني «حدثاً مفاجئاً». ولعل إدراكه لدور القيادة في حركة تحرر وطني، مثل الحركة الفلسطينية، هو الذي أملى عليه، أكثر من مرة، أن ينقد «مظاهر قيادية» في منظمة التحرير لا تأتلف مع الحس السليم. فهو يكتب عن «اضطراب» القيادة الفلسطينية بعد إعلان «وثيقة الاستقلال» في الجزائر العام 1988: «لماذا لم تتألف حكومة مؤقتة؟ لا جواب، إلا من إضافة ألقاب جديدة إلى ياسر عرفات وأبو اللطف إلى جانب ما كانا يحملانه من ألقاب (ص 412)، كما لو كانت فاعلية القائد الوطني تأتي من ألقابه، أو كانت قيمته الفعلية من تعددية الألقاب التي يسبغها على ذاته. أما في الفصل الذي عنوانه «ليلة سقوط طائرة أبو عمار»، فإن اللغة النقدية تصبح أكثر حدة ومباشرة وصرامة: «إن أبو عمار بعد حادثة الطائرة تحوّل إلى شخص آخر، وتزايدت فرديّته أضعافاً مضاعفة، ووقع في وهم أنه معصوم، صاحب رؤى، وترعاه عناية إلهية خاصة، كما أنه تماهى مع فلسطين إلى شفير الخلط بين الحقيقة والخيال» (ص 456). قد تبدو هذه اللغة النقدية، في وسط تنظيمي فلسطيني أدمن التكاره وتبادل الاتهامات، مصطنعة متعمّلة بعيدة عن الموضوعية. بيد أن المنطق العام لكتاب «بين الوطن والمنفى» ينفي هذا الاتهام بفضل «النزاهة النقدية» التي تمتع بها شفيق الحوت، التي علّمته أن النقد واجب وطني وأخلاقي، وأن المسؤول الوطني الفلسطيني الحقيقي يبدأ، فكراً وممارسة، من قضية شعبه، لا من ذلك الحسبان الفقير الذي أدمنه كثيرون حوّلوا الثورة إلى ثروة، والثروة إلى طموح فقير، يستأنف أسوأ ما خلّفته العادات السلطوية العثمانية. يقول في الصفحة 288 من مذكّراته جُمَلاً توجز فلسفته في العمل السياسي الفلسطيني: «ذكّرني الأمر بما كنت أؤمن به دائماً، وهو أن شعب فلسطين أكبر من قادته على الدوام. وإذا كانت الزعامة ترفاً ورفاهية لدى بعض الشعوب، فمن المؤكد أنها ليست كذلك للفلسطيني. الزعامة الفلسطينية تعني العذاب والتحمل والشقاء والإحباط واحتمالاً دائماً لتهمة الخيانة»! قرّر شفيق الحوت في السطور الكثيفة السابقة: حقيقة - مأساة، تتأسى على شعب مقاتل شجاع لم يظفر بقيادة على صورته إلا في لحظات سعيدة عابرة، وأشار، ضمناً، إلى لون من «القادة» يصيّرون «الكفاح» إلى ترف ورفاهية، ويحوّلون «الكفاح من أجل الرفاهية» إلى قاعدة ذهبية في أزمنة الانهيار. ولعل الانتساب النزيه إلى «شعب كان دائماً أكبر من قيادته» هو الذي أقنع الحوت بالبقاء في بيروت، بعد مجازر صبرا وشاتيلا ودخول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت في خريف 1982. يستذكر الكاتب تلك الفترة العسيرة فيقول: «أين تلك الأبواب التي كانت مشرعة أمامي لثلث قرن من الزمن؟ مَن أوصدها؟... أنا نفسي بتُّ أضيق من نفسي، وأتمنى لو تتغير ملامح وجهي وطولي وعرضي. ولماذا لا، وأنا أحمل في جيبي هوية تنكر نفسي وتقول إني إنسان آخر. فهل من ينكر نفسه يعتب على الناس إذا انكروه؟» (ص 275). كتبَ الحوت عن سطوة العزلة ومرارة التخلّي، ولم يشر إلى البطولة، مع أنه كان بطلاً، ولا إلى ما يشبه البطولة، وهو الخائف من وجهه وهويته والخائف على أحلامه، والذي ارتضى بالمطاردة والمخاطرة، ورفض أن يطرقَ بابَ أحد. كان في تلك الفترة الحرجة يتحصّن بأحلامه وبأخلاق «القيادة» كما ينبغي أن تكون. يستهض الأحلام فيقول: «كل أبناء جيلي عاشوا التجربة نفسها، والحلم نفسه، ونذروا أنفسهم لتحقيقه». ويستذكر صفات القيادة فيكرّر: «إن قضية مثل قضيتنا بحاجة إلى إيمان وصبر ونضال أكثر من جيل واثنين من الشباب» (ص 274). كان الرجل، خلال احتلال بيروت، قد بلغ الخمسين من عمره، باحثاً عن شباب مفقود يكمل «المشوار»، لا ينسى التجربة ولا يبذّر دروسها كي يمضي في تجربة جديدة. كتب شفيق الحوت سيرة ذاتية يتمازج فيها الرضا والشجن: الرضا عن مسار إنسان أكثرَ من الأحلام وعملَ على عدم إهانتها، والشجن والتأسي على قضية عادلة، كلما تقدم الزمن تراجعت، وكلما حاولت الوقوف سقطت من جديد، كأن يقول: «هكذا كان حال المنظمة في السبعينيات من القرن العشرين. أمّا أين أصبحت الآن في بداية القرن الحادي والعشرين، فسبحان مغيّر الأحوال» (ص 186). لا غرابة أن يستقيل لاحقاً من مناصبه، احتجاجاً على اتفاقية أوسلو، واحتجاجاً أولاً على تهافت الأداء السياسي والإداري في منظمة التحرير، الذي أخذ في التزايد بعد العام 1993. ومع أن صاحب المذكّرات يفرد صفحات طويلة لأسباب استقالته من اللجنة التنفيذية ومن منصبه سفيراً لفلسطين في لبنان في 10 أيلول/سبتمبر 1993، فإن السطور التالية توجز إيجازاً بليغاً دوافع ما قام به: «في تونس أحسست بأن القيادة في واد آخر، وأنه بات هناك ما يشبه قيادة ظل من المستشارين والمندسّين على الثورة وسماسرة الحلول وعرّابي الاتصالات السرية» (ص 463). ينفتح تعبير «السماسرة» على أسئلة كثيرة، ويفتح أسئلة كثيرة أيضاً. في مذكرات بين الوطن والمنفى سرد شفيق الحوت سيرة وطن وشعب وقضية وسيرة مناضل من هؤلاء الذين يبنون الأحلام ويرثونها. بل إن في هذه المذكرات، المتنوعة في مواضيعها، ما يعطي صورة عن «المناخ» السياسي والفكري في العالم العربي كله، منذ عام «النكبة» الأولى إلى «أعوام النكبات» المتلاحقة. حين يستذكر لقاءه الأول مع جمال عبد الناصر يقول: «وأعترف اليوم، بعد كل هذه الأعوام التي التقيت خلالها معظم قادة العرب وحكامهم، أنني لم أشعر مع أيٍّ من هؤلاء بالراحة والثقة والاطمئنان لقول ما أشاء وبلا تحفّظ أو رقابة ذاتية، كما شعرت مع عبد الناصر». لهذا لا ينسى أن يؤكد أن رحيل عبد الناصر «سجّل البداية الرسمية لانتهاء المرحلة القومية». كتب شفيق الحوت عن بدايات أحلامه، وعن بدايات أحلام عربية كثيرة، وأشار، حزيناً، إلى نهايات كثيرة سمحت لـ «المندسّين» و«السماسرة»، أن يدفعوا بالقارب الفلسطيني إلى اتجاه يثير الأسى. |
|
|||||||||||||