العدد 3 - ثقافي
 

السياسة والسياسة الجامعية المحافظة

في كتابه: تفكيك الجامعة العامة، أربعون عاماً من الهجوم على الطبقة الوسطى، يقرأ كريستوفر فيلد، أستاذ الأدب في جامعة كاليفورنيا، دلالة التحولات التي عرفتها «الجامعات العامة»، التي تقوم الدولة بتمويل دراساتها وأبحاثها. تضمّنَ الكتابُ جملةَ أفكار تربط بين الإصلاح وغايات سياسية، وبين الغايات السياسية والأهداف الاقتصادية.

يفصل الإصلاح، كما يرى المؤلف، بين «العلوم الدقيقة» التي تُنتج أبحاثاً علمية، ذات صلة بالصناعة والتكنيك، القابلة للاستثمار في السوق وإعطاء ريع مالي، والعلوم الإنسانية مثل الفلسفة والأدب وتاريخ الفنون، التي لا يمكن «قياس» الربح التجاري الصادر عنها. ومع أن هذا الفصل يتستر بلفظية برّاقة، تقول بالتطوير والتحديث والانطلاق من «المشخص»، فهو يحجب هدفين أساسيين: أولهما محاصرة الطبقة الوسطى غير المحافظة، التي تعطي اهتماماً خاصاً لـ«العلوم الإنسانية»، التي تنفتح على الثقافة الاجتماعية وتربط، بمنظور نقدي، بين الإنتاج الثقافي والوعي الاجتماعي، وثانيهما شنّ حرب على الثقافة، وعلى التسييس الثقافي بشكل عام، بغية إنتاج «عقل تقني» ينصاع إلى العملي والتجاري وما تقترحه السوق.

يتعيّن الإصلاح الجامعي، بهذا المعنى، حرباً ثقافية تشرف عليها النخبة المحافظة المسيطرة، غايتُها محاصرة الطبقة الوسطى التي صعدت، جامعياً، في العقود الأخيرة من الحرب الباردة. أكثر من ذلك، أن الاحتفاء بـ«العقل التقني» يخضع بدروه إلى معايير نخبوية قاسية، سعياً وراء «نخبة علمية» صافية، تلبّي حاجات السوق ولا تلتفت إلى «العلوم الاجتماعية»، التي تعطي للآداب والفنون أهمية كبيرة وتعمل على تسييسها.

يحاصر الإصلاحُ المفترَض المعنى النظريَّ المتعارَف عليه للجامعة، وينزع إلى تأسيس جامعة جديدة ذات معنى جديد. فمن المفترَض في «التقاليد الأميركية» وغيرها أن الجامعة مؤسسة لا تسعى لغايات ربحية، وأنها تنشد تشكيل مواطن مؤهل يتوزّع على خيارات متعددة: المهندس، الطبيب، الأديب، وعالم الاجتماع... وغير هذا مما يدعى «رأس المال الإنساني»، الذي هو تعبير عن قدرات المجتمع الخلاّقة. تأخذ المؤسسة الجامعية، بهذا المعنى، أبعاداً ثلاثة: فهي الوقع النوعي الذي ينتج مواطناً ممتازاً، والحقل الثقافي والمعرفي القائم على التنوّع، وهي أخيراً المرجع الأخلاقي والقيمي الذي يبدأ من «الإبداع» قبل غيره. خلافاً لذلك، وعلى مبعدة منه، فإن الإصلاح الجامعي الجاري، منذ أكثر من عقدين، ُستبدل بالمواطنة النخبةَ، وبالتنوع والاختلاف التجانسَ والتماثل، ويقرر الربح ومعايير السوق بديلاً عن الإبداع.

يفضي هذا الإصلاح إلى مقولة أساسية هي: «اقتصاد المعرفة»، الذي يختصر المعرفة إلى فعل اقتصادي ينشد الربح قبل غيره، وينصبّ الاقتصاد مرجعاً وحيداً للمعرفة والثقافة بعامة. يصبح الاقتصادي عالي الاختصاص مرجعاً للمعارف جميعاً، بقدر ما تكون السوق مرجعاً لهذا الاقتصادي الذي يقبض على «علم العلوم». شيء قريب، من قصص الخيال العلمي التي تحدّثت عن «مجتمع جديد» يحتفل بالمخابر والمصانع ويرفض ما غيرهما منتهياً إلى إفقار «الروح الإنسانية» إفقاراً مؤسسياً.

Christopher Newfield, Un-making the public university, Harvard university press, 2008

إنتاج المعرفة المنتِجة

قدم الفرنسيان: ج.س. بلان، وستيفان لوغراند مساهمة فلسفية، تمس الإصلاح الجامعي، عنوانها: نحو مساهمة في نقد اقتصاد المعرفة. يقوم الكتاب، وهو صغير الحجم، على أجزاء ثلاثة: الأول منها استعادة لحوار مع الفيلسوف الشهير الراحل ميشيل فوكو، نُشر العام 1985، تناول فيه الأسباب والعوامل التي تنتج معرفة مزدهرة، واجتهد القسم الثاني في تحليل ما قال به فوكو، اعتماداً على مفاهيم نظرية لا تنقصها الصعوبة تنتسب إلى أفكار فيلسوف شهير آخر، رحل أيضاً، هو الماركسي: لوي آلتوسير. أما الجزء الثالث فقد تناول شرح الإصلاح الجامعي الفرنسي، الذي بدأ منذ أيام فرنسوا ميتران، واستمر إلى عهد الرئيس ساركوزي، ونقده، وأظهر أشكال مقاومته.

اقترح الفيلسوفان برنامجاً متسقاً، يرفض الإصلاح الليبرالي الذي يختزل التعليم إلى الاقتصاد، الربح، بقدر ما يرفض الاختزال الأفلاطوني المدافع عن «معرفة خالصة» مبرّأة من الأهداف المادية. فالمعارف المختلفة تندرج، لزوماً، في سيرورة تتضمن الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، ذلك أن البشر، اجتماعياً، منتِجون ومستهلكون معاً، وأن للمعرفة اقتصاداً خاصاً بها، لا ينفصل عن الاقتصاد العام.

قادت وحدة المعرفة والاقتصاد المؤلفَين إلى سؤال القيمة والتقييم: ماذا تساوي المعرفة؟ وكيف يمكن تقويم إنتاجها وتوزيعها واستهلاكها؟ يرفض الفيلسوفان «المعيار الكمي»، سواء ارتبط بحجم المواد التي «يستهلكها» التلميذ أو بالفائدة «الغامضة» الصادرة عن هذا الاستهلاك، ويسائلان مباشرة مناهج البحث، كما الفلسفة التي تسيّرها، متوقفين أمام دورها في نقد المعرفة القائمة وإنتاج معرفة جديدة تتجاوزها، وإلا تحوّل الباحث، أو التلميذ الجامعي، إلى مستهلك سلبي، أو إلى «متبطّل» يحمل لقباً إيجابياً. على هذا، فإن الباحث الفعلي هو الذي يضيف قسطاً من المعرفة إلى المعرفة الكلية القائمة، فالمطلوب هو: «إنتاج معرفة منتِجة لا تنفصل عن استهلاك منتِج» يجدّد العلاقات الاجتماعية. وغايةٌ كهذه لا تنفصل عن مناهج التعليم، وعلاقة التعليم بالحاجات العامة، قبل أن تتوقف أمام «المضمون» و«الكم» وقدرة الطالب على استظهار «مادة مجرّدة» لم تُختبر أو لا تقبل الاختبار.

تتمثل أهمية الكتاب في تعامله مع المعرفة بوصفها علاقة اجتماعية متعددة العناصر، تتضمن الجامعةَ ودورَ النشر ووسائلَ الدعاية والإعلام والتجمعات السياسية وغير السياسية، مؤكداً أمرين: يقضي تجديد المعرفة بتحويلها إلى عنصر فاعل في جميع المستويات الاجتماعية، وإطلاق تفاعل خلاّق بين المجتمع والسياسة العلمية التي تأخذ بها الدولة. فإذا كانت الدولة طرفاً مقرراً، فإن على المجتمع أن يتفاعل مع هذا القرار ويراقبه، وإلا تحوّلت القدرات الاجتماعية المبدعة إلى «خادم» للشركات الكبرى، المتحالفة مع الدولة.

Guillaume sibertin – Blancet stéphane, Legrand : Esquisse d’une contribution a’ La critique, de l’économie des savoires , Reims, le ou dons le fer, 2005

الجامعة والحيِّز المدني المعارض

أوسكار نيجت، أستاذ جامعي ألماني مرموق، وأحد أبرز الوجوه الراهنة في «مدرسة فرانكفورت» الفلسفية، التي وُلدت في الربع الأول من القرن العشرين، وأعطت ما يدعى: «النظرية النقدية».

يتأمل نيجت بدوره معنى الجامعة، متّخذاً من الجامعة الألمانية مرجعاً له، وذلك في كتابه الحيّز العام المعارض، الذي يتضمن جملة من دراساته السابقة.

توقف الفيلسوف الألماني أمام المفارقة، أو التناقض، الذي يخترق الجامعة. فهي، من ناحية، مؤسسة رسمية تنفق عليها الدولة، وتعهد إليها بوظاف علمية وأيديولوجية، وهي، من ناحية ثانية، حيّز لتوليد وعي معارض، كان ذلك على مستوى الطلاّب الذين يتطلّعون لجامعة تأخذ رغباتهم ومطالبهم في الحسبان، أو كان على مستوى الأساتذة، أحياناً، الذين يطالبون بدور فاعل في صياغة البرامج والقرارات، انطلاقاً من تجاربهم العملية.

تبدو الجامعة، والحال هذه، مؤسسة مسكونة بالتناقض، تخدم الدولة ولا تخدمها تماماً، وتشبع في الطلاب رغبة المعرفة دون أن تشبعها تماماً. بيد أن هذا الأمر الذي يبدو، في الظاهر، سلبياً، غيرُ سلبي على الإطلاق، لأن التناقض يفضي إلى حيوية ضرورية متعددة الاتجاهات: يدفع الطلبة إلى العثور على وسائل متعددة للتعبير عن مطالبهم ورغباتهم، ويدفع بالباحثين العلميين إلى تقديم اقتراحات متجددة لتطوير البحث العلمي والحياة الجامعية، ويُطلق حواراً، عنيفاً أو هادئاً، بين الجامعة والمؤسسات الرسمية. وهذا التناقض، أو المعارضة بشكل أدق، هو الذي يستولد الحيّز العام، بالمعنى الحديث، الذي يستدعي ذواتاً متمردة قادرة على التفكير والمبادرة والاقتراح.

يرد في مقدمة الكتاب: «يتأسس الحيّز العام المعارض على الذاتية المتمرّدة،.... ففي حين أن الحيز العام البورجوازي يقوم على جملة من التعميمات المجرّدة، فإن الحيز العام المعارض ينزع إلى مراكمة تجارب مفردة». أكثر من ذلك أن الحيّز الأخير يبتعد عن اللغة المتكلّسة المستهلكة، ويعبّر عن ذاته بكلام يومي بسيط مباشر، يسمح بتبادل التجارب والخبرات، وينطوي على بعد حواري في تعامله مع الصراعات المختلفة. ولعل هذه اللغة الحوارية، التي تغاير لغة السلطة، هي التي تجعل الحوار صعباً بين الدولة والعقول المتمردة، على خلاف الحوار بين السلطة والعقول الأكاديمية التقليدية، سيّان إن اختلفت مع السلطة أو اتفقت معها.

وبداهةً، فإن المنظور الذي يأخذ به الفيلسوف الألماني، كما ذاك الذي انطلق منه الفيلسوفان الفرنسيان، يتكئ على مجتمع مدني فاعل، أو قابل للتفعيل. وهذا المجتمع المدني، الذي يؤمّن للمثقف حرية التعبير، هو الذي يجعل من الجامعة موضوعاً للحوار والنقد والمساءلة، تطلُّعاً إلى جامعة جديدة، لا تعترف بـ«الأستاذ المتبطّل»، الذي يجترّ معلومات قديمة لا جديد فيها.

طرحَ نيجت موضوع العلاقة الملتبسة بين السيطرة والتحرر، في المؤسسة الجامعية، الذي هو حوار مفتوح بين الامتثال والتمرّد، وبين القبول بالمعرفة والسلطوية والاحتجاج عليها.

Oskar Negt, L’espace publique oppositional, Paris, payot, 2007

إصلاح الجامعات:دواعي المعرفة وحاجات السوق
 
01-Sep-2009
 
العدد 3