العدد 3 - ثقافي | ||||||||||||||
منصورة عز الدين وتوليد الإنسان المعوق تعالج منصورة عز الدين في روايتها وراء الفردوس وضْعَ الإنسان في مجتمع مغلَق، يضع في الإنسان إعاقة داخلية، سعى إلى التحرّر أو ارتضى بإذعان متوارث. تفصل هذه الإعاقة بين الإنسان ورغباته، فيحب وينفصل عمّن أحب، ويتزوج ويطلّق من تزوّجه، ويتطلّع إلى هدف ويصل إلى غيره. لا تصدر الإعاقة، في معناها الحقيقي، عن موانع خارجية فقط، إنما تأتي، أولاً، عن شكل متداول من التربية، يخلق إنساناً مضطرباً، يمتثل إلى إرادة اجتماعية قامعة، حتى لو اعتقد بغير ذلك. تعود الإعاقة الفاعلة إلى «زمن الطفولة» الذي يترك في الوعي واللاوعي آثاراً لا سبيل إلى التحرّر الكامل منها. عرضت الرواية نماذج مختلفة للمرأة المضطهَدة: الصبية التي تصبح زوجة في الخامسة عشرة من عمرها لرجل يكبرها بسنوات عديدة، الشابة التي تُدفع إلى الانتحار، لأنها مارست حريتها كما تشتهي، الفتاة المصابة بـ«رهاب الزواج» التي تنتهي عانساً، الأرملة الجميلة التي يقرر مصيرها رجلُ قادر.. تفعل المرأة ما أراد لها الوسط الاجتماعي أن تفعل، بل إنها تفعل ما يريده طائعة مختارة، لأن التربية القاهرة تستأصل من الإنسان قدرتَه على المحاكمة. ربطت الروائية، بمهارة تثير الإعجاب، بين هشاشة الإنسان وتداعي المجتمع الذي يعيش فيه، محيلةً، بشكلٍ ومْضي، إلى تحوّلات مصر في العقود الثلاثة الأخيرة. ففي مجتمع راكد لا جديد فيه، يتفسّخ البشر والقيم والمعايير، ويتحوّل الزمن إلى استطالة مشلولة لا دور لها. أعادت الروائية الاعتبارَ إلى الزمن متوسلةً عنصرَين: تعيين معنى الزمن أساساً للتصور الروائي، مشيرة إلى انفصال مأساوي يقوّض الوجود الإنساني بأشكال مختلفة، بدءاً بانفصال الإنسان عن عائلته وصولاً إلى انفصال المرأة عن رغباتها. ميّزت الروائية، وهي تنقد مجتمعها الراكد، بين حضور الزمن الذي يتصرّف بالإنسان، وغياب المجتمع الذي يتصرّف بزمانه. يتكشّف العنصر الثاني في وعي المرأة المتمردة بالزمن، الذي يدفعها إلى الانهيار، وهي تتأمل مجتمعاً نائماً، أمسه كيومه، ويومه فقير ولا جديد فيه. أنتجت عز الدين عملاً فنياً متكاملاً، تلبي علاقاته الداخلية المتعددة المنظورَ الروائي الذي أخذت به الروائية. ولهذا رسمت زمناً مفتّتاً، متقطعاً، مجزّءاً، يوائم مجتمعاً نسي معنى الزمن، ويلائم ذاكرة المرأة المتمرّدة، التي دفعتها شروط اجتماعية متعددة إلى الانهيار. فلا شيء في مكانه، والأشياء رخوة حصلت ولم تحصل معه، والتوازن مفقود، منذ أن آثر المجتمع أن يقول شيئاً ويفعل شيئاً آخر. في سعيها إلى التوحيد بين الزمن الاجتماعي المريض والزمن الداخلي لامرأة متمرّدة تخلط بين الوهم والواقع، لجأت الروائية إلى عناصر فنية بالغة الثراء: الأحلام والرموز والمجاز والمونتاج، منتهيةً إلى عمل روائي يضاهي أفضل ما قدمته الرواية العربية العام الجاري. وبرهنت في عملها المجتهد على وحدة الإبداع والمقاومة، ذلك أن الكتابة المتقنة، في زمن الانهيار، دفاع عن الجمال والقيم والتحرر. قالت ما أرادت قوله دون الوقوع في «النزوعات النسوية» التي تثير الغثيان. منصورة عز الدين، وراء الفردوس، دار العين، القاهرة، 2009 ، 222 صفحة. حنان الشيخ: مقاومة الكراهية والاحتفال بالحياة حققت حنان الشيخ في روايتها حكايتي شرح يطول أربعة عناصر متضافرة: فتنة السرد أو فتنة القص بلغة الراحل إحسان عباس، التي تجعل من نهاية كل حكاية مقدِّمةً لحكايةٍ تتوالد في غيرها، منتجةً متواليات حكائية، تسرد حياة امرأة من زمن الطفولة إلى الشيخوخة المتوَّجة بالموت. وحّدت بحذق كبير بين زمن السيرة الذاتية لامرأة مسقوفة بالجمال والفرح، وزمن لبنان، المنفتح على مسرّات قليلة ومآسٍ كثيرة. ظهر العنصر الثاني في لغةٍ فرحة طليقة، تحتضن الفصحى والعامية والشعر الشعبي ولغة رابعة لا تنقصها الحكمة. أما العنصر الثالث فتجلى في «خطاب» الرواية، الذي يمر على أشكال متعددة من اضطهاد المرأة الشرقية: الزوج المستبِد الذي يترك «طليقته» وأولاده نهباً للجوع والحرمان، لاهثاً وراء زوجة جديدة سيذيقها لاحقاً ألواناً من القهر والجوع. تسليع المرأة الذي يقضي بتزويج بنت، لم تتجاوز العاشرة إلا بقليل، من رجل يكبرها مقابل عدد من الليرات الذهبية. ينطوي تسليع الأنثى على اغتيال البراءة، لأنه يستبدل بألعاب الطفولة سريراً للزوجة، يذيق الفتاة القاصر ألواناً من العذاب. فهذا الفعل يَحْرم طفلة بريئة من طفولتها، ويحوّلها إلى أم متعددة الأطفال ولم تبلغ العشرين. يقود هذا التسليع، الذي يسمى: زواجاً، إلى القهر والكراهية، مؤسِّساً لعلاقة مريضة بين الزوجين، قوامها الإكراه الذي يعطب حياة الطرفين. تأتي مصادرة الحياة التي تختزل الطفلة - الزوجة إلى خادم مقهور، وتختصر الصبيةَ متعددةَ الأولاد إلى «آلة حية» تسهر على حياة الآخرين ولا تنعم بحياتها إلا صدفة. إضافة إلى أشكال الأضطهاد هذه، أشارت الروائية إلى دور «الأميّة» الذي يرمي على المرأة بأشكال مختلفة من الحرمان، ليس آخرها الحرمان من المعرفة، وإلى دور الوعي الديني الزائف، أو المتخلّف، الذي يسوّغ ما لا يسوغ ويبارك ما لا ينبغي القبول به. العنصر الرابع هو الرؤية العامة التي حكمت الرواية، التي رصدت قمع المرأة في وجوهه القاتمة والمحتملة وواجهته، بوضوح جميل، وبالتمرّد الضروري الذي يخلق كيان المرأة، حتى لو كانت أميّة، ويؤمّن لها جزءاً من حقوقها الإنسانية المشروعة. ربطت حنان الشيخ بين الدعوة إلى التمرد والاحتفال بجماليات الحياة المتعددة، التي تحتضن الحب والوفاء ودفء العائلة وجمالية اليوم المطير والعفوية البهيجة والضحك الطليق وملمس القماش والغناء.... وكل ما يرضي الروح والجسد. أقامت الروائية عملها على متواليات حكائية خطّية الزمن، إذ لكل حقبة حكاية توائمها، وإذ الحكايات جميعاً مزيج من الأسى والفرح. جعلت الروائية، وبسخرية هيّنة مرتاحة طليقة، من عناوين الحكايات نصّاً موازياً، يعبّر عن العفوية ويحرّض على القراءة معاً مثل: «حتى الحمام بيروح على المدرسة، حمير الحجارة، والله إنك بتخيطي فستان للبرغوت، ما في حدا بيخبّي الحب والحبل والركوب على الجمل...». دافعت الشيخ في روايتها عن حق الإنسان في وجود كريم، مزاوجةً بين التأمل والسخرية الذكية، موحّدةً، بشكل نموذجي، بين الخطاب التربوي ومتعة القراءة. حنان الشيخ، حكايتي شرح يطول، دار الآداب، بيروت، 2006 ليلى الأطرش : نساء بملامح مختلفة آثرت الروائية ليلى الأطرش في كتابها نساء على المفارق، أن تقدم نصاً أدبياً منسوجاً من نصوص، تجمع بين القصة القصيرة وأدب الرحلة وشيئاً من السخرية وصوراً متنوعة لنساء يجابهن حياة غير عادلة ويتطلعن إلى عدالة محتملة. أنجزت ما تريد في سبعة نصوص، صاغها نثرٌ طليق، أو في سبع لوحات، ترسم كل منها أقدار امرأة، غالبت الحياة أو تصرفت بها الحياة كما تشاء. يحيل عنوان الكتاب على خطابه، المدافع عن الانعتاق والعفوية الإنسانية، والمندّد بقيم ترى في العشق جريمة، وتستخدم المرأة ولا تعترف بها. استولدت ليلى الأطرش شخصياتها من رحلات في أماكن متنوعة، واشتقّت منها حكايات متنوعة، كثيفة الإيحاء والمعنى، إذ لكل حكاية مكان، وإذ الحكايات جميعاً حكاية واحدة، تصف قهر المرأة وتعلّق عليه. تناولت اللوحة الأولى، التي أدرجت في رحلة إلى أميركا رحلة في تصورات «امرأة كاميرونية»، أزمة امرأة تصاحبها تربية مغلقة في مجتمع مفتوح، إذا ما يبدو في أميركا أمراً عادياً، تمارسه النسوة بعفوية غير مقيدة، يُعدّ لدى تربية متعصبة حراماً يستدعي الإقصاء والعقوبة. تحدّثت القصة عن توازن ضروري مرهق، يدفع بالمرأة المجتهدة إلى الاغتراب والانقسام. وإذا كان في اللوحة الأولى ما يثير الإعجاب والرثاء معاً، فعلى المرأة المسلمة أن تكون مقيّدة في بلاد حرة، فإن اللوحة الثانية توجّه تحية حارة إلى فتاة فلسطينية شجاعة، أطلقت صوتها صريحاً بعد «مجازر صبرا وشاتيلا»، معلنةً عن هول ما رأت بعد أن «سكتَ الرجال». صرّحت الأطرش بشجاعة أخلاقية وهي تفتش عن «بقايا الفلسطيني» القتيل صوتاً جميلاً بريئاً يتحدّى الموت. قدّمت الكاتبة صورة حية أخرى لفتاة مغربية تبحث عن الأمان في بيئة ترى في المرأة كياناً مستباحاً، ووصفت، بشكل حميم، حوار الإنسان الإصيل مع ضميره حين يرتكب خطأ. توقفت، قبل أن تصل إلى المغرب، أمام مأساة المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، أو «ابنة السماء.. جميلة»، التي قاومت الجلاد الفرنسي بلا مساومة، حتى تأسطرت، ورجمها مجتمعها المغلق حين تزوجت بمحاميها الفرنسي، كما لو كان على المرأة التي قاتلت من أجل حرية وطنها أن تُحرم من حريتها الذاتية بعد استقلاله، أو كما لو كانت الحرية من نصيب «الأرض» لا من نصيب البشر. مرت الروائية، وهي ترصد عوالم المرأة في وجوهها المختلفة، على «راكبة من الدرجة الأولى» تشتاق إلى الفضول والمعرفة، وعلى «امرأة من المنطقة الحمراء» حوّلها المجتمع الاستهلاكي إلى سلعة بين سلع أخرى. أنهت الأطرش كتابها بنص أدبي شجيّ يثير العقل ويجرح الروح عنوانه: «قتيلة الشرف.. لا اسمٌ ولا عنوان»، حمل أبعاداً من النبل والغضب والتحزّب للكرامة الإنسانية. أنجزت الأطرش، في نساء على المفارق، شكلاً أدبياً مبتكراً يجمع بين النثر الجميل والصور الإنسانية الموحية والمعرفة الوافرة ببلدان مختلفة، وعاطفة كريمة نبيلة، ترجمُ أطياف الشر والظلم والظلام، وترنو إلى زمن محتمل يحرّر المرأة والرجل معاً. ليلى الأطرش، نساء على المفارق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2009 |
|
|||||||||||||