العدد 11 - الملف | ||||||||||||||
«عمال المياومة»، «التوجيهي» و»المعلمون»، عناوين لأزمات انفجرت متتابعة في حضن الحكومة ابتداء من الأيام الأولى من عمرها، وأثبت استطلاع المئة يوم، الذي أجراه مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية، أنها لعبت دوراً كبيراً في خفض شعبية الحكومة لدى المواطنين. المراقب للكيفية التي سارت بها الأمور، يلاحظ أن أسلوب الحكومة في إدارة أزماتها أسهم في تأزيمها بدلاً من حلّها، فالارتباك والتخبط والسعي إلى التهدئة الآنية دون تقديم حلول جذرية بدت سماتٍ أساسية لطريقة الحكومة في المواجهة. صحيح أن الإعلام لعب غالباً دور المؤجج للنار، لكن الحكومة التي ظهرت في كل مرة متفاجئة من ردة الفعل الشعبية وغير قادرة على التنبؤ بالتداعيات، زوّدته في الغالب بالوقود. الأزمة الأولى كانت بعد أقل من شهر على تشكيل الحكومة، عندما أصدر وزير الزراعة سعيد المصري، قراراً بفصل 256 عامل مياومة في الوزراة، تطبيقاً لقرار كانت حكومة معروف البخيت، أصدرته في تموز/يوليو 2007، ويقضي بإيقاف التعيينات خارج جدول التشكيلات. العمال المفصولون، وهم من أصل 2500 عامل مياومة في الوزارة، كانوا عُيّنوا جميعهم بعد قرار البخيت. القرار الذي نُفذ اعتباراً من 1 كانون الثاني/يناير 2010، تسبب في سلسلة اعتصامات نفذها عمال المياومة المفصولون ومتضامنون معهم، رافقها هجوم إعلامي شديد على شخص الوزير، لم يَحْمِهِ منه تأكيداته المستمرة في تصريحات صحفية على أن «الأمر ليس بيده»، وأنه مجرد منفِّذ لقرار مجلس الوزراء. الآلية التي اتُّخذ بها قرار فصل العمال مثالٌ على الطريقة التي تنفجر بها الأزمات، فقرار الفصل الفجائي لـ256 شخصاً ينتمون إلى «الهامش»، ومبلغ المئة وخمسين ديناراً هو الدخل الوحيد للأغلبية الساحقة منهم، بدا ارتجالياً، ولم تُدرَس تداعياته المحتملة بما يكفي. إضافة إلى أن القرار جاء مخالفاً للمادة 35 من قانون العمل، التي تمنح صاحب العمل الحق في إنهاء خدمات المستخدَم لديه دون مساءلة، فقط خلال فترة التدريب التي حددتها بثلاثة أشهر، وهي فترة اجتازها جميع العمال، وبعضهم قاربت خدمته على السنتين. من ناحية أخرى، لم يكن واضحاً السبب في أن تكون «الزراعة» هي الوزارة الوحيدة التي تلتزم بقرار مجلس الوزراء، في حين يتواجد عمال مياومة في وزارات أخرى، ويصل عددهم بحسب رئيس لجنة عمال المياومة محمد السنيد إلى 10 آلاف عامل. التخبط لم يكن فقط وراء إصدار القرار، بل في استجابة الحكومة لتداعياته. فقد بدت الحكومة مرتبكة ومتفاجئة، في حين أظهر العمال من البداية تفوقهم عليها في إدارة أزمتهم، وأبدوا تنظيماً وتماسكاً وقوة حجة لم تملك الحكومة مثلها. وعلى امتداد أشهر نفذوا وبنفَس طويل سلسلة من الاعتصامات الأسبوعية أمام وزارة الزراعة، رئاسة الوزراء والديوان الملكي، وعندما تعذّر على العمال ساكني المناطق البعيدة عن العاصمة مثل معان والكرك والطفيلة مواصلة السفر إليها للمشاركة في الاعتصامات، اتّبعوا تكتيكاً جديداً، هو الاعتصام أمام مديريات الزراعة في مناطقهم، وهم بذلك لم يسهّلوا على أنفسهم فقط، بل أسهموا في توسيع دائرة الحدث. وقد حظيت اعتصاماتهم بتغطية إعلامية واسعة، بالتحديد من المواقع الإخبارية وصحف يومية، ما أنشأ تعاطفاً شعبياً واسعاً معهم. في المقابل، بدا موقف وزير الزراعة ضعيفاً، فقضية اختلاس ما يقارب مليون وستمئة وخمسين ألف دينار من وزارة الزراعة، التي كُشف النقاب عنها يوم 23 كانون الأول/ديسمبر 2009، كانت ما زالت حاضرة بقوة، ولم يكن الوزير قد تعافى من الهجوم الإعلامي الذي سببته تصريحات سابقة له تحدث فيها عن ضعف جهاز الرقابة المالية في الوزارة والترهل الإداري فيها. ووسط ذلك خاض «المعركة» مع عمال المياومة دون أن يكون قد أعدّ لها بشكل جيد، واستطاع هؤلاء أن يفندوا جميع الحجج التي أتى بها الوزير لتبرير قراره. فالوزير الذي كان حازماً في الأيام الأولى وهو يكرر أن «لا رجعة» عن قرارات الفصل، قال إنه ينفذ قرار مجلس الوزراء، فقيل له إن القرار نفسه ينطبق على المستشارين في وزارته. فردّ أن التكلفة المالية لتشغيل هؤلاء تبلغ نحو 420 ألف دينار سنوياً، ولا ميزانية لاستيعابهم، مما دفع رئيس لجنة عمال المياومة محمد السنيد إلى إصدار بيان ضمّن فيه من واقع عمله سائقاً في «الزراعة»، قائمة بأشكال من الهدر والتسيب طالبه بالتحقيق فيها، مثبتاً بالأرقام أن الهدر القائم هو أضعاف رواتب المفصولين. تتويج كل تلك الأخطاء كان ذلك الخطأ الذي ارتكبه الوزير عندما شتم السنيد أثناء اجتماع تفاوضي واصفاً إياه بـ«الوقح»، إذ رفع السنيد قضية على الوزير ما زالت منظورة أمام القضاء. الوزير عالج الخطأ بخطأ آخر، عندما حاول إنهاء القضية «عشائرياً» عن طريقة توسيط عَمّ السنيد، وهو أحد وجهاء بني حميدة، الأمر الذي رفضه السنيد مصرّاً على أن الخلاف «نقابي وليس عشائرياً»، ليبدو العمال والحالة هذه أكثر حداثة من الحكومة نفسها. بعد أسابيع من اندلاع الأزمة تُرك فيها الوزير شبهَ وحيد، وعندما أدركت الحكومة أنه لا سبيل إلى حل الأزمة بمزيد من التجاهل لها، عرضت على العمال أن تُلحقهم بمؤسسة للتشغيل تقدّم تدريباً مهنياً مقابل منحة شهرية، وكان ذلك تخبطاً آخر، فالحكومة لم تنتبه إلى أن شروط القبول التي تنص على أن يكون المتقدم ذكراً لم يتجاوز الثلاثين من عمره، لا تنطبق إلا على خمسة عمال من جميع المفصولين. السعي وراء التهدئة الآنية دون محاولة الوصول إلى حل جذري، كان التكتيك الذي اتبعته الحكومة في إدارة أزمة عمال المياومة، فعلى امتدد الأشهر الثلاثة الأخيرة علّق العمال اعتصاماتهم مرات عدة بعد وعود متكررة من الحكومة بدراسة مشكلتهم، ووعود أخرى بقرب الحل، لكنهم كانوا يعودون إلى الاعتصام مرة أخرى، وبدا الأمر في النهاية كأنه سباق في النَّفَس الطويل، وهو سباق يبدو أن العمال قد فازوا فيه، فقد صرح السنيد لـے إن الحكومة اتخذت أخيراً خلال نيسان/أبريل 2010، إجراءات فعلية لتوزيع العمال على وزارات الدولة. في أزمة التوجيهي، لم يطرأ تحسن على أداء الحكومة، وكان الارتباك هو سيد الموقف والوقود الذي أذكت به وسائل الإعلام نار الأزمة هنا أيضاً. الإعلام الذي لعب دوراً كبيرا في التحشيد ضد الوزير الذي لم يكن أكمل الشهرين في منصبه عندما اندلعت أزمة الأخطاء في البيانات الإلكترونية لنتائج التوجيهي. في بداية الإعلان عن أخطاء، لم تُرصد أيُّ ردّة فعل عنيفة، بل سادت بين الطلبة وأهاليهم حالة من الترقب والقلق، واقتصر الأمر على تجمعات لهؤلاء أمام الوزارة ومديرياتها في المملكة، لكن هذه التجمعات تحوّلت إلى مسيرات غاضبة تحمل يافطات تندد بالوزير وتطالب باستقالته، ذلك أن الوزارة أربكت الناس عندما سحبت النتائج من شبكة الإنترنت ثم أعادتها ثم سحبتها مرة أخرى، وزاد منسوب الإرباك عندما بدأ طاقم الوزارة يدلي بتصريحات متضاربة، الأمر الذي حدا بالوزير إلى منع الناطق الإعلامي لـ«التربية» من التصريح، وحصر التصريحات في شخصه، لكن الإعلام الذي كان له بالمرصاد التقط واحداً من تصريحاته واستخدمه لتأجيج الموقف، وهو قول الوزير إزاء مطالبات له بالاستقالة بأنه «لم ولن» يستقيل، لتندلع بعدها في المواقع الإلكترونية حملات لمطالبة الوزير بالاستقالة، دون أن ينتظر هؤلاء نتائج التحقيق الذي شُكلت له لجنة في اليوم الأول لإعلان النتائج، وهو تحقيق خلص في ما بعد إلى أن الخطأ «بشري غير مقصود»، وأنه نتيجة لتراكم سنوات من الخلل. لكن التراكم لم يكن فقط للخلل الذي أدى إلى وقوع الخطأ الفني، لقد كان أيضاً لسنوات طويلة من احتراق الأعصاب الذي يرافق امتحانات الثانوية العامة. وكان هذا إضافة إلى ارتباك الوزارة وتأجيج الإعلام سبباً آخر يفسر حدة ردة الفعل. الحكومة هنا مطالَبة كما يقول الباحث باسم الطويسي، بالتقاط المؤشرات التي يمكن أن تنبئها بأن أزمةً ما على الطريق، فردود الأفعال الغاضبة هي في أحيان كثيرة تنفيس لتراكمات في النفوس. لكن الحكومة الحالية شأنها شأن الحكومات التي سبقتها منذ مطلع التسعينيات كما يقول الطويسي، تفصلها فجوة كبيرة عن مواطنيها. «إنها غريبة عنهم، والسبب هو أن الخطوات الواسعة التي خطتها نحو التحول الاقتصادي والخصخصة، لم ترافقها إصلاحات سياسية واجتماعية حقيقية». بحسب الطويسي، فإن هذه «الفجوة» التي تفصل الحكومة عن مواطنيها، وبالتحديد في المناطق البعيدة عن المركز، والأقل «رعاية»، كانت السبب في انخفاض منسوب الثقة التي منحتها للحكومة مناطق الجنوب مثلاً، في استطلاع المئة يوم، وهي السبب أيضاً في أن حدة الإضرابات في أزمة المعلمين بلغت أوجها في تلك المناطق. مواجهة المعلمين مع الحكومة، التي كانت أيضاً من نصيب وزير التربية، تؤكد ما ذهب إليه الطويسي، فلا يمكن تخيل أن الاعتصامات والمسيرات الغاضبة اندلعت فقط بسبب تصريحه الشهير الذي يدعو فيه المعلمين إلى حلق ذقونهم وترتيب ملابسهم قبل المطالبة بنقابة. في الوضع الطبيعي فإن شريط الفيديو الساخر الذي نشره موقع كل الأردن ويصور معلمين يحلقون ذقونهم «امتثالاً» لتعليمات الوزير، كان سيكون ردّاً كافياً، ولكن «القلوب مليانة» كما كتب ياسر أبو هلالة في الغد، واصفاً الموقف، فالمعلمون الذين عانوا وعلى امتداد عقود من تردي أوضاعهم المعيشية، ومن تدني منزلتهم الاجتماعية، ومن ضغوطات مهنية تزداد أعباؤها سنة بعد أخرى، مثّلَ تصريح الوزير بالنسبة إليهم القشة التي قصمت ظهورهم. الحكومة في تعاطيها مع الاعتصامات التي نُظمت احتجاجاً على تصريحات الوزير وللمطالبة بنقابة، وبدأت يوم 16 آذار/مارس، افتقدت إلى الرؤية الإستراتيجية، فكانت أفعالها في الحقيقة «ردود أفعال» على ما يحدث في الشارع. في البداية أبدت الحكومة شيئاً من اللين عندما خرج بدران واعتذر عن تصريحاته التي قال إنها كانت «مجتزأة من سياقها» و«أسيء فهمها»، لكن المعلمين واصلوا الإضراب، فلوّحت الوزارة باتخاذ إجراءات تأديبية في حق المشاركين في الاعتصامات، فكان الرد على ذلك توسيع رقعة الاعتصامات التي بدأت في الجنوب لتمتد إلى مناطق الوسط والشمال، والمفارقة هنا أن الإضرابات لم تمتد إلى عمان، رغم أنها المحافظة الأسبق في تشكيل لجان للمعلمين، فقبل أسبوعين من الاعتصامات، كما يقول الناطق الإعلامي باسم اللجنة التحضيرية للمطالبة بإحياء النقابة في عمان شرف أبو رمان، كان معلمون في عمان شكلوا لجنة للمطالبة بإحياء نقابتهم التي تمّ حلّها العام 1957، بعد فرض الأحكام العرفية على البلاد. أبو رمان قال إن «الخصوصية» التي تسم عمّان هي السبب في قرار اتخذته اللجنة بعدم إشراكها في الإضرابات، فعمان كما يقول هي المركز، وفيها كل الوزارات والأغلبية الساحقة من المؤسسات الحكومية والخاصة، وفيها العدد الأكبر من المدارس، وتعطيل عدد هائل من الطلبة كان سيربك آلاف البيوت، وسيربك عمل المؤسسات التي تَعطّل أبناء الموظفين فيها عن الدراسة. «كنّا على يقين أن هذا كان سيقلب الرأي العام على المعلمين، فقررنا عدم المشاركة، وإن كانت هناك خروقات محدودة في بعض المناطق» يوضح أبو رمان. الحكومة، وبعد تسعة أيام من الإضرابات التي شلّت المدارس، عادت لتخفف نبرتها، فالتقى رئيس الوزراء سمير الرفاعي، يوم 25 آذار/مارس، بوفد منهم، ليتلوه يوم 14 نيسان/أبريل 2010، اجتماع آخر بنائب رئيس الوزراء رجائي المعشر، قيل فيه للمعلمين إن نقابة للمعلمين هي «مسألة مرفوضة تماماً» من جانب الحكومة، لأنها كما قال المعشر «مخالفة للدستور»، لكن الحكومة اقترحت عليهم صيغة بديلة تتمثل بروابط في كل منطقة، يجمعها اتحاد على مستوى المملكة. الحكومة التي حاولت استمالة المعلمين من خلال منحهم علاوة خمسة في المئة، وسُلَفاً طارئة، والإعلان عن إعطائهم الأولوية في مشرع سكن كريم، هي بالنسبة لمعلمين تكرر الأخطاء نفسها التي ارتكبتها في إدارة أزماتها السابقة، فما قدمته كما يقول الناطق الرسمي للّجنة التحضيرية لإحياء نقابة المعلمين في الشمال أيمن العكور، «لم يرقَ إلى الحد الأدنى من طموحات المعلمين المطالبين بتحسين ظروفهم المعيشية، وإنشاء نقابة»، وكل ما تسعى إليه الحكومة بحسب العكور هو «كسب الوقت». الحكومة تبدو غير مدركة لحقيقة أن المعلمين يكررون معها تجربتها مع عمال المياومة، فهم أيضاً أكثر تنظيماً وتماسكاً منها، وقد استطاعوا خلال أقل من شهر تأسيس لجان على مستوى مناطق المملكة، لها ضباط ارتباط في المدارس وتعقد اجتماعات دورية، والأهم من ذلك أنها تنسق بعضها مع بعض. وقد استطاعت هذه اللجان تنظيم اجتماع حاشد في الكرك يوم 24 نيسان/إبريل، شاركت فيه 40 لجنة تحضيرية من أصل 42 لجنة تمثل جميع مديريات التربية والتعليم في المملكة، وهو اجتماع تمخّض عنه بيان أكد فيه المعلمون تمسكهم بإنشاء نقابة، وطالبوا الحكومة باتخاذ «خطوات عملية إجرائية». إن لم تقدم الحكومة حلاً جذرياً لهذه المسألة، فإن التصعيد في المستقبل سيتعدى الإضراب عن العمل. وقد سرّب مصدر مطلع طلب عدم الكشف عن هويته، لـے، أن معلمي الجنوب أثناء اجتماعهم برئيس الوزراء لوّحوا بمقاطعة الانتخابات النيابية وبمقاطعة امتحانات الثانوية العامة. الناطق باسم معلمي محافظات الجنوب معاذ البطوش، أكد المعلومات السابقة، بقوله إن عدداً كبيراً من المعلمين سجلوا عبارة «لا أرغب» في نماذج طلبات المراقبة على امتحانات الثانوية العامة التي وزّعتها مديرات التربية والتعليم مؤخراً. من هنا تأتي أهمية الدعوات التي تعالت في الإعلام بعد الاجتماع، مطالبةً الحكومة بمواصلة الحوار مع المعلمين، بوصفه الطريق الوحيدة لتجاوز الأزمة. في ظل حقيقة أن المعلمين لم ينهوا اعتصاماتهم، بل علقوها إلى 30 أيار/مايو 2010، كما جاء في البيان الذي صدر على إثر اجتماع الكرك، فإن الحاجة ماسّة لأن تدرك الحكومة أن الجمر ما زال مشتعلاً تحت الرماد، وأن مواصلة لجوئها للتهدئة الآنية نهجاً للتعاطي مع هذه الأزمة وسواها لن يؤدي إلا إلى مواصلة التصعيد. |
|
|||||||||||||