العدد 11 - محلي | ||||||||||||||
تبدو القصة للوهلة الأولى، حكاية اعتيادية يمكن حدوثها وتكرارها في أي مكان في الأردن، بل ويمكن حدوثها في أي مدينة في العالم. مشادّة بين زميلَي دراسة حول موضوعٍ ما. السيناريو المفترَض أن يجري تطويقها لتنتهي في مكانها، إلا أن ما جرى في المشادة ما بين زميلَي الدراسة في جامعة البلقاء انحرف أكثر من مرة عن هذا السيناريو. فالخلاف بين الطالبين أودى بحياة أحدهما، وحوّلهما إلى قاتل ومقتول. لم تنتهِ الحكاية في تحويل المجني عليه إلى المستشفى، واعتقال الجاني من جانب أجهزة الأمن، بل كانت هذه بداية انحراف آخر عن المسار العقلاني أو الطبيعي للأحداث، وتحوَّلَ الحدث من جريمة قتل يأخذ القانون مجراه فيها، إلى مواجهة اجتماعية عنيفة بين أهالي السلط من ناحية وعشائر العبادي ذوي المجني عليه من ناحية أخرى. وكان على المواطنين من أهالي الضحية أو من أهالي السلط، أن يدخلوا في سيرورة تطور الأحداث التي لحقت بجريمة القتل. فلقد قام أقارب المجني عليه، ويقدَّر عددهم بـ200 شخص، بمغادرة منطقة السلالم حيث مقر المستشفى الحكومي مروراً بمديرية شرطة محافظة السلط، بعد أن تبين لهم أن الموت هو مصير المجني عليه، والتوجه، بشكل تظاهري، إلى منطقة وسط البلد حيث مكان تجمع الباصات المتجهة إلى عيرا ويرقا. ومن هناك توجه هؤلاء إلى شارع اليرموك، أقرب الشوارع المؤدية إلى تجمع الباصات، إذ هاجموا المحال التجارية والسيارات والمارة، ما أدى إلى تجمع مجموعة من الشبان السلطية المتواجدين في وسط البلد ومن استطاع أن يلحق بهم لمهاجمة شباب آل عبّاد الذين غادروا بعد ذلك وسط البلد. إزاء هذه التطورات أغلق أصحاب المحال التجارية من عشيرة العبادي محالهم ولجأوا إلى منازلهم. الجولة الثانية من العنف بدأت عندما تجمّعَ عدد من شبان السلط وهاجموا محال تجارية تعود ملكيتها إلى أشخاص من عشيرة العبادي، وتكسيرها ونهب محتويات بعضها. تدخلت قوات الدرك لفضّ المواجهات بين المتظاهرين وأوقفت عدداً منهم؛ بهدف الحيلولة دون استمرارها واتساع نطاقها، ووعدت بالإفراج عن الموقوفين. هذه ليست حكاية لمشاجرة وتشاحن جرت في القرن التاسع عشر مع مفردات ومؤثرات حديثة؛ بل إنها رواية أقلقت المواطنين في الأردن بعامة وفي محافظة البلقاء بخاصة، وفي مدينة السلط إحدى أقدم المدن الحديثة في الأردن. أمّا عواقبها فكانت تعليق الدراسة في جامعتي البلقاء التطبيقية وعمان الأهلية، وشبه تعليق للدراسة في الجامعة الأردنية، ومواجهات امتدت إلى جامعات أخرى. تعكس هذه الحادثة نمطاً أصبح يتكرر باستمرار في البلاد، يبدأ بمشاجرة بين شخصين أو جريمة يقع ضحيتها مواطن، سرعان ما تتحول إلى مواجهة اجتماعية عنيفة بين تجمعين سكانيين في أغلب الأحيان أو بين عشيرتين. وخلال أقل من عشرين شهراً وعبر رصد وسائل الإعلام فقط، تبين أن مدن الأردن وقراه شهدت أكثر من 165 مشاجرة ابتدأت بمشاجرات فردية بين مواطنين سرعان ما تحولت إلى مواجهات بين تجمعات سكانية أو عشائرية. النمط الآخر المثير للانتباه، أن كثيراً من هذه المشاجرات يبدأ بمشاكل أو مشاجرات داخل الجامعات، سرعان ما تتحول إلى مواجهات خارجها، ومن ثم تعود وتشهد ساحات الجامعات تبعات هذه المواجهات، الأمر الذي يعيد تعريف الحياة الجامعية من حياة تقوم على التحصيل الأكاديمي من ناحية، وتُعَدّ بوتقة لصهر ثقافات وهويات متعددة في إطار ثقافي أعم وأكبر قادر من الناحية النظرية على أداء دور في حل التوتر الاجتماعي، إلى سبب لهذا التوتر ومحرّض، بل وساحة له. الذاكرة الجمعية التي تقارن بين حركة الجسم الطلابي في السبعينيات والثمانينيات حتى أوائل التسعينيات من القرن الماضي، مع حركة الجسم الطلابي واصطفافاته حالياً، تؤكد أن الجامعات، بالإضافة إلى علامة الاستفهام الكبرى على قدراتها الأكاديمية، أصبحت معامل مختبرية لإعادة إنتاج ثقافات وانتماءات تقليدية مثل: العشائرية، والجهوية، وبلد الأصل. فانتخابات مجالس الطلبة على صراع لقواطع منظمة على أسس قرابي وجهوي/قرابي وبلد الأصل، مقابل ما كان سائداً من توجهات سياسية يسارية وقومية وإسلامية وأحياناً يمينية. عبر استنهاض هذه القوى التقليدية التي يعاد إنتاجها عبر أطر وهيئات مبنية على أسس قرابية وجهوية، جرى نزع العمل السياسي من الجامعات وتكريس القبضة الأمنية، فتحوّلت الجامعات إلى أدوات تكرّس الاصطفافات التقليدية، وليس سرّاً اليوم أن جزءاً من الهيئة التدريسية في الجامعات تأخذ في الحسبان تقاطعاتها القرابية والجهوية مع الطلبة بوصفها أساساً لتقييم تحصيلهم الأكاديمي. ولعل التوسع في إنشاء الجامعات في المناطق المختلفة من المملكة، فقدَ قيمته المُضافة من أكاديمية واجتماعية وثقافية، ليصبح أقرب إلى برنامج توظيف محلي أساسه إيجاد فرص عمل للمجتمع المحلي، واستقطاب أغلبية طلبة المجتمع المحلي، وبذلك أصبحت الجامعات أسيرة للتوازنات التقليدية في ذلك المجتمع المحلي. ولن يكون من المستغرب في هذا السياق أن تُفرض إدارة الجامعات في المستقبل من جانب القوى التقليدية في المجتمع المحلي. تعليق الدراسة في جامعة البلقاء وشبه تعليق الدراسة في جامعات أخرى، يدلان على عدم قدرة هذه المؤسسات التعليمية على التعاطي مع الأحداث إلاّ من خلال تعطيل نفسها حتى تمر الزوبعة. لقد فقدت هذه المؤسسات قيمتها القيادية إلى دور التابع وغير المؤثر. لا يخلو سرد وقائع تطورات جريمة القتل وتبعاتها، من مضامين ومفردات وتحليلات مثل: «فورة الدم» و«غضبة الشباب» و«الدم الحامي» وسواها من مصطلحات تعترف في جوهرها بقصور الإطار اللغوي والأخلاقي والاجتماعي لعلاقة المواطنين بعضهم ببعض، وتكرّس هذا القصور. إن ارتكاز سرد الوقائع سواء أكانت من الجانب الرسمي أم من النخب أم من المنخرطين في الأحداث أو المراقبين لها، يكشف عن نزع الأنسنة عن هؤلاء المواطنين والتبرير لهم وكأنهم قطعان بشرية تتحرك بغرائزهم، ومحاولة الإقناع بغياب عقلانيتهم في فترات زمنية. وكأن الأساس في تعريف الإنسان والمواطن في الأردن هو الهمجية واللاعقلانية، وهو الأمر غير المقبول أخلاقياً واجتماعياً، بل إنه يُعدّ فساداً وإفساداً لنظرة المواطن لذاته وللآخر. على مدار أكثر من عام، وبعد ما شهدته السلط من أحداث إثر جريمة القتل، يبرز الحديث دوماً حول قدرة أجهزة الدولة وكفاءتها في التعامل مع الأحداث والمواجهات التي تجري بين تجمعات وفئات. فسرد وقائع ما جرى في السلط من تأخر قوى الأمن في الانتشار وتوقعها لتطور المجريات وتطويق الحادثة (رغم أن المؤشرات كانت تشير إلى احتمالات تطورها بالشكل الذي تطورت به)، يعكس أن أجهزة الدولة تقوم بدور ردة الفعل ولا تتقدم بأخذ زمام المبادرة. عدم الأخذ بزمام المبادرة، حوّل أجهزة الدولة، ومن ضمنها قوى الأمن، إلى طرف فقط ضمن توازن القوى الذي يغذّي تطور الأحداث، بدلاً من أن تكون في مقعد القيادة والمرجعية الوحيدة التي تضبط إيقاع مجريات الأحداث. وفي أحداث السلط، كما في غيرها، تتكرر الانتقادات في تعامل أجهزة الأمن، فرغم تجمع ذوي المجني عليه في المستشفى الحكومي بالقرب من مديرية الأمن العام في السلط، وتحركهم بشكل تظاهري إلى وسط البلد، لم تقم قوات الأمن بإجراءات احترازية، وكذلك الأمر في التعامل مع تظاهرات شبان السلط وتعرضهم لمصالح العبابيد في المدينة. بل إن بعضهم في السلط يصرّ على أن قوات الدرك لم تتدخل لفرض الأمن والوقوف أمام مثيري الشغب والأحداث إلاّ بناءً على إلحاح الأهالي الذين شعروا أن الأحداث قد تتخذ مسارات أكثر درامية وتكلفة إنسانية. مرةً أخرى، فإن المبررات والتحليلات للقصور في كفاءة أجهزة الدولة وفاعليتها، تدور حول غياب التنسيق والتناغم، بل والتنافس بين هذه الأجهزة مثل الأمن والدرك. النتيجة محزنة وتراجيدية، فكثير من سكان السلط من عشيرة العبادي جمعوا عائلاتهم وغادروا مدينتهم إلى عمان أو مناطق أخرى، وكأننا إزاء مشهد يتكرر في أفلام «الكاوبوي». إذا ما كان سرد الوقائع يعكس قصوراً في كفاءة تعامل أجهزة الدولة وضعف التنسيق والتناغم بينها، فإن الأحداث التي جرت في السلط تؤشر على تفسخ المنظومة الاجتماعية الضابطة؛ بمعنى أن الموروث التاريخي والاجتماعي الذي تمثل في منظومة علاقات اجتماعية مركبة تستند إلى توازن القوى داخل المجتمع وتؤدي إلى ميلاد نخبة اجتماعية/سياسية وثقافية قادرة على التأثير وعلى التدخل السريع في إطار الأزمات، والقيام برسم خريطة طريق لاحتواء الأزمة وإنهائها، «ذهب مع الريح» على ما يبدو. فالنخبة أو ما يسمى «الوجهاء» في معسكرَي الخلاف، تبين أن قدرتهم على احتواء الشارع أو ما يسمى «القوى الضاربة»، كانت محدودة. فلم تستطع هذه النخبة، التي ترتكز على إرث اجتماعي/تاريخي أو على تقلد مناصب عليا في مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية أو كون أفرادها من كبار المتقاعدين العسكريين، تطويق المجتمع المحلي؛ بل إن مواقف الوجهاء في إطار سعيهم لاحتواء الأزمة عكَسَ امتثالهم لحركة الشارع أو الغاضبين منه، وكانت قدرتهم على التأثير محدودة للغاية. بل يورد شهود عيان أن شيخ السلفية في السلط، وهو أحد متقاعدي «الدعسة الفجائية»، كان الأقدر على التأثير في المتظاهرين المتجمعين في السلط وإقناعهم بفضّ التجمع بناءً على وعد من المحافظ بإطلاق سراح الموقوفين. ضعف التأثير للقيادات التقليدية والوجهاء، والبروز النسبي لنفوذ شيخ السلفية، وتكرار غياب قادة الإخوان المسلمين عن المشهد، وإيثار بعض القيادات التقليدية عدم التدخل في تطورات الأحداث، يشير إلى أن النخب الجهوية تقليدياً في تراجُع، وأن هنالك قوى جديدة تقود التجمعات العشائرية والجهوية، ومما لا شك فيه أن هذه القوى الجديدة المغرقة في جهويتها وعشائريتها لم تولَد من العدم، فهي القوى التي تدربت وبرز نجمها من خلال الانتخابات النيابية، وهي التي تدربت على فرض الإيقاع في الشارع في كل مرة يحدث فيها توتر اجتماعي أو سياسي. الوعي الجمعي لهذه القوى الجديدة التي تفرض إيقاعها، لا يرتكز أساساً على تعزيز مكتسبات النفع العام، بل يرتكز على المكتسبات المتحققة لأبناء مجتمعهم المحلي من مراكز عليا في الدولة، والحصول على وظائف. ولعله من المفيد الإشارة إلى أن ديناميكية المشكلة وتطورها وردات الفعل التي حدثت بشأنها في السلط، كانت كلها تعبيراً عن شعور شبه جمعي بأن المجتمع السلطي مستهدَف نتيجة إنهاء خدمات بعض أبناء السلط من مؤسسات الدولة خلال الشهور الأخيرة. إن تراجع دور قيادات مجتمعية تقليدية وسياسية، لا يعكس حالة تقتصر على السلط وحدها، ففي كل أحداث التوتر والعنف المجتمعي في الأردن بصفة عامة تبرز هذه الظاهرة، ومما لا شك فيه أن هذا يدلل على طبيعة العلاقة بين هذه القيادات والمجتمعات المحلية، فآلية الترابط ليست قائمة على النفع العام، بل هي قائمة على تحقيق مصالح وخدمات أقرب ما تكون إلى الفردية والعشائرية، مما يُفقد هذه القيادات القدرة على حصد قيادة جمعية في المجتمع المحلي. لعل من المثير للانتباه في كل مشكلة وتوتر اجتماعي، غياب قيادات أردنية عامة تكون قادرة على التأثير وتطويق المشكلة، فعادةً لا يقدِم أحد من القيادات السياسية أو الاجتماعية التي لا تربطها علاقة قرابية أو جهوية مع أطراف النزاع، على التدخل في هذه الأزمات وتطويقها؛ أي أن رؤية النخب السياسية والاجتماعية لنفسها في الأردن هي في إطار المجتمع المحلي، وليست في الإطار الوطني العام. هذه النخب فقدت إطارها الوطني لمصلحة تكريس زعامات جهوية وعشائرية هي اليوم في موضع تساؤل وتقييم. بينما كانت العطوة العشائرية ترخي بإسدالها على الأزمة التي شهدتها السلط وعشيرة العبادي، برزت هنالك ساحة مواجهة جديدة تتأسس بين عشيرتي الذنيبات والكفاوين في الكرك، وتتخذ تقريباً المسار نفسه الذي اتخذته الأزمة ما بين السلطية والعبابيد، وتُظهر أن هذه التجمعات السكانية تفقد الثقة بمؤسسات الدولة، لتأخذ هي على عاتقها مبدأ إنفاذ القانون وفقاً لرؤيتها الخاصة. |
|
|||||||||||||